من الأب إلى الابن إلى أين

مازن كم الماز

[email protected]

اعتقد البعض أن بزة الرئيس الراحل العسكرية هي السبب وراء درجة القمع التي مارسها النظام لكن أداء الطبيب القادم من بريطانيا إلى عرش سوريا كان تصحيحا صادما لهذا الاعتقاد..في الحقيقة لقد خيب بشار آمال الكثيرين بل إن الكثيرين قد فجع بما فعله و يفعله..كان بمقدور بشار أن يلعب دورا تاريخيا , فهو عمليا لم يكن مسؤولا عن سياسات النظام و لا عن مواجهاته و لا عن أخطائه..و يجب الاعتراف أيضا أن خطاباته و خاصة أحاديثه عن الإصلاح و الحرية كانت إلى حد كبير وراء بداية حراك سياسي فكري جدي في ربيع دمشق..لكن بشار كان الابن البار للنظام و العائلة , سرعان ما تبين أن همه الأول هو المحافظة على إمبراطورية العائلة داخل و خارج سوريا..استمر أفراد العائلة بتنمية ثرواتهم و مركزهم و قوتهم الاقتصادية و المالية تحت رعاية بشار و واصلوا ابتزاز القطاع العام و نهبه..لقد انهار الوضع الاقتصادي اليوم بدرجات لا تقارن مع ما كان عليه الوضع أيام الأب لكن يجب الاعتراف أيضا أن لهذا بعض العوامل الموضوعية مثل انقطاع المساعدات العربية النفطية و تراجع إنتاج النفط , كما أننا لا نملك معطيات كافية لتساعدنا في تقويم تأثير النهب الذي تمارسه العائلة و من حولها الحاشية و من حولها البيروقراطية و تغير مستويات هذا النهب بين عهد الأب و الابن سواء على صعيد الاقتصاد أو مستوى معيشة الناس و إن كان من المؤكد أن أزمات البنية التحتية التي تعود إلى سنوات حكم الأب قد تفاقمت بسبب إهمال النظام و مؤسساته..

النظام مشغول عن أزمات الناس بتوزيع العوائد بين الصفوة , إنه يدفع اليوم الأمور بعيدا بثقة عالية بالنفس ( ثقة قد تكون خادعة أحيانا ) و هو موقن أن الشارع "تحت السيطرة" مهما بلغت معاناة الناس , قد يعتبر النظام أن سياساته الداخلية ناجحة في تدجين أو استمرار تدجين الشارع و إلغاء ظهور بديل داخلي جدي..الممتع في الموضوع أن بشار الأسد لم يتردد و لو للحظة لا في اعتقال و تغييب أشخاص كعارف دليلة و ميشيل كيلو أو في مراجعة سياسة إفقار الشعب..و نعرف أيضا أن مراكز القوى في النظام و العائلة قد اختلفت فيما بينها مثلا حول قضايا مثل العلاقة مع أمريكا و إيران و لبنان لكنها أبدا لم تعرف مثل هذا الخلاف حول سياسات النظام الداخلية لا ضد المعارضة و لا ضد لقمة الشعب , كان هذا مصدر إجماع داخل النظام..

في الحقيقة اتضح – كما هو منطقي – أن بشار ابن العائلة بل و المسؤول الجديد عن ازدهار إمبراطوريتها , كانت طفولة بشار و نشأته خاصة و مختلفة عن معظم أبناء جيله..من معهد الحرية و حتى الجامعة فمستشفى تشرين و من ثم الدراسة في بريطانيا ثم العودة و الانخراط في الجيش و تسلم مقادير الأمور تدريجيا من الأب , تعلم الشاب درسه الأهم , إنها السلطة..و السلطة بشكلها الحالي أي مطلقة اليدين في فعل ما تريد و التي يستبيح رأسها كل شيء في جسد الوطن و الشعب..من ملاحظة أداء بشار السياسي يمكن ملاحظة بصمات سياسة الأب بسهولة , فهو يستخدم ذات وسائل و أساليب الأب و هنا أيضا يمكن النقاش فيم إذا كان تغير الظروف المحيطة هو المسؤول عن تراجع قوة النظام أو ضعف أداء بشار و ضعف استخدامه لأساليب الأب..واضح أن الأب هو مصدر الإلهام الأول للرئيس الشاب و أن تراثه السياسي هو المثال الذي يضعه نصب عينيه , بما في ذلك القمع ضد المعارضة مثلا..

بغض النظر عن كل هذا فإن النظام اليوم على ضعفه أصبح بعيدا عن مركز الصراع مع انتقال هذا المركز إلى إيران و احتمالات تغييره بضغط أو هجوم من الخارج أقل اليوم مما كانت عليه في الماضي..إن النظام مأزوم لكنه قادر على الاستمرار و لو أن كلفة هذا الاستمرار تصبح باهظة على الشعب السوري..يتضح من النموذج العراقي أن التغيير بواسطة الخارج أكثر من تغيير قاصر , إنه وهم , أنتج و سينتج وضعا مهزوما و مأزوما هو الآخر خاضعا للاحتلال و حلفائه الداخليين , الذين يمثلون قوى اجتماعية و طائفية و دينية و طبعا نخبوية تخلق وضعا ليس بأفضل حالا من الأنظمة التي تحل مكانها..إن خيار المعارضة الديمقراطية واضح لا لبس فيه..إنه خيار التغيير بيد الشعب و لصالح الشعب..تحدث الكثيرون عن حالة من المراوحة في مواجهة واقع فاسد تنحط خلاله البشرية عاجزة عن تغيير هذا الواقع..كان اليساري الفرنسي جاك كاماتييه ممن قال بهذا الاحتمال في مواجهة أزمة الرأسمالية مما يترك حفنة من المليارديرات و كبار المدراء و الجنرالات و الموظفين الحكوميين في مراكز العالم الرأسمالي تتحكم بمصير العالم العاجز عن استعادة مصيره من أيدي هذه الطغمة..

إن هذا الانحطاط هو العائق الأول و الأهم في طريق التغيير الديمقراطي في سوريا اليوم..في ضوء أزماتنا الخاصة كجماهير , العامة و الخاصة , و التي يستثمرها النظام يمكن التأكيد أن انحطاط الإنسان هو وحده ضمانة استمرار سلطة فاسدة ديكتاتورية كالنظام السوري اليوم..هذا يتركنا كشعب كجماهير أمام خيارين لا ثالث لهما..فبغض النظر عن خيار استمرار النظام أو تغييره بيد الخارج الأمريكي الإسرائيلي اللذين يشكلان وجهين لعملة واحدة : النظام يجعل عملية تغييره مؤلمة و حتى مستحيلة ما أمكن أما إذا سقط النظام بيد أمريكا فإنه سيبقى علينا استعادة زمام المبادرة من الاحتلال استعادة حياتنا و حريتنا و وطننا بأكملها من سطوته..هذا يبقينا أمام خيارين فقط : إما الانحطاط و إما الحرية.