نُوحي يا نواعيرَ حماة

نُوحي يا نواعيرَ حماة ..

” في الذكرى 28 للمجزرة ” ..

أروى عبد العزيز

[email protected]

كاتبة سورية .. مغتربة

مدوِّنة سورية مقيمة في المنفى

.. فقلبي يُشاركُكِ النُّوَاح منذ أنِ اختلط الدمع بالدم .. في المساجد والكنائس .. وجرى في الأزقة والساحات .. منذُ أن تهدمتِ المآذن وعلا صوتُ البكاء على صوت الأذان فَفُُتِحتْ أبوابُ السماءِ لصرخاتِ المظلومين من النساء والأطفال ومن الشيبِ والشباب .. منذُ أنِ اخترق الرصاص الغادر أجساد أبنائك وجدران مدينتك .. منذ أن عاثت خفافيشُ الظلام بكرامةِ الإنسان فقتلتْ وعذبتْ ومثلتْ وَسحَلت وشنقتْ واغتصبتْ هكذا بدمٍ بارد وبوحشيةٍ وطائفيةٍ مقيتة !!

نُوحِي فأنتِ لا تملكينَ سوى النواحِ مثلي .. نُوحِي فلن نَمِلَّ من النواحِ حتى تَمَلِّي .. نُوحِي فإنَّ الأسى يبعثُ الأسى .. وكم أشعرُ بالأسى في ذكرى ” المجزرة البشعة ” .. ورائحة الدم تزكمُ أنفي .. وبكاء الشيوخ والنساءِ والأطفال يعذبني .. وصوتكِ يُشجيني .. ولكن لا تتوقفي عن النواح فحرامٌ أن تذهبَ كل تلكَ الدماء الطاهرةِ هدراً .. وحرامٌ أن يفرَّ المجرم المتغطرس من يد العدالة .!!

وحرامٌ أن يأتيَ أحدهم فيقول للأم التي فقدت أربعةً من أبنائها : اطوي صفحة الماضي .. وانسي دماءَ أبنائك الأربعة .. انسي أيتها الزوجة زوجك الذي عُلقَّ على المشنقة وتدلى جسده أمامك .. انسي أيتها الأم ابنتك التي اغتصبت أو طفلك الذي اخترق جسدهُ الغض وابلُ الرصاصِ الحاقد  فخالط الدمُ رغيفَ الخبز الذي يأكله .. واخلعي عنكِ ثوبَ الحداد .. انسُوا يا أهل ” حماة ” دماءَ  شيوخكم  وشبابكم وبناتكم .. انسوا بيوتكم التي نهبت ودمرت .. وأعراضكم التي انتهكت .. ومقدساتكم التي دُنست .. في حينِ أن الطرفَ الآخر لم يطوي صفحة الماضي .. فالحاضر هو امتدادٌ للماضي .. والمفقودونَ هم المفقودون .. والمشردونَ هم المشردون .. والمهجَّرونَ هم المهجَّرون .. والقائمةُ في ازدياد .!! والدموعُ لم تكن حِكراً على ذلكَ اليوم .. والمآسي لم تنتهي منذُ ذلك اليوم .. فكل من ولدَ بعدها دفعَ الثمن .. والمجرمُ مازال حراً طليقاًً .. و دماءُ أبناءِ ” حماة ” تنادي كل يومٍ بالقصاص .. !

إنَّ اللجنة السورية لحقوق الإنسان والتي تصفُ ” مجزرة حماة ” في شباط ” فبراير” 1982 بأنها جريمةُ إبادةٍ جماعية وجريمةٌ ضد الإنسانية .. وتنقل لنا بعضاً من مشاهدِ تلك الجريمة على أرض ” مدينة النواعير ” :

” 1 “

تعرضت حماة لحملات متكررة راح ضحيتها المئات من الشيوخ والأعيان والمواطنين العادين خلال العامين 1980-1981م، إلا أن ما تناقلته تقارير المراسلين وشهود العيان في مجزرة شباط (فبراير) 1982 يدخل ضمن مسمى “الإبادة الجماعية”. فقد لقي ما يزيد على 25 ألف حتفهم على أيدي السلطات السورية التي حشدت القوات الخاصة وسرايا الدفاع وألوية مختارة من الجيش (اللواء     47 واللواء 21) بمعداتهم الثقيلة يدعمهم السلاح الجوي لتصبح المدينة منطقة عمليات عسكرية واسعة وتم قصف المدينة بنيران المدفعية وراجمات الصواريخ وبشكل عشوائي ولمدة أربعة أسابيع متواصلة في الوقت الذي أغلقت فيه منافذها الأربعة أمام الفارين من وابل النيران.

” 2 ”

وفي “حي البياض” وأمام مسجد الشيخ محمد الحامد  ونظرا لعدم اتساع ناقلات المعتقلين لعدد إضافي منهم قتلت قوات النظام 50 منهم وألقت بجثثهم في حوض تتجمع فيه مخلفات مصنع بلاط تعود ملكيته للمواطن عبد الكريم الصغير.

” 3 ”

وفي اليوم الثاني والعشرين جمعت السلطات ما يزيد عن 25 من آل شيخ عثمان وذلك في حي “البارودية” وقتلتهم، وذهب ضمن هذه المجزرة أسرة محمد الشيخ عثمان حيث تشير المعلومات أن عناصر السلطة بقروا بطن زوجته الحامل وقتلوا الأطفال السبعة وأضرموا النار في البيت.

” 4 ”

وتعتبر مجزرة “مقبرة سريحين” أبشع المجازر الجماعية التي وقعت في حماة في أحداث شباط (1982) حيث ذهب ضحيتها أعداد كبيرة من المدنين من الرجال والنساء والأطفال، لم تعرف أعدادهم بالتحديد ولا أسماؤهم جميعا. فقد قامت قوات النظام بإحضار المئات من سكان المدينة على دفعات وأطلقت النار عليهم وألقت بجثثهم في خندق كبير. وبحسب شهادة أحد الناجين كان ضمن فوج ضم المئات وعند وصولهم إلى المكان وجدوا مئات الأحذية على الأرض وأكواماً من الجثث في الخندق. ويروي الناجي أن قسما منهم أُنزلوا إلى الخندق وآخرون تُرِكوا على حافته وأطلقت قوات النظام النار على الجميع فلم ينج منهم إلا بضعة أشخاص.

” 5 ”

داهم جنود سرايا الدفاع مدرسة للمكفوفين في منطقة المحطة. ويقوم على التدريس فيها شيوخ عميان مقيمون.. لم يجد الجنود في داخلها سواهم، ومعظمهم ناهز الستين من العمر.. وبعضهم متزوج وعنده عدد من الأولاد. كان الجنود يضربون الشيوخ بالجنازير.. فتسيل الدماء من رؤوسهم وأيديهم حتى يتوسل المكفوفون. لكن الجنود لم يتوقفوا عن الضرب إلا بعد أن يؤدي هؤلاء المساكين رقصات لإمتاع الجنود، وبعدها كانوا يشعلون النار في لحاهم،  ويهدد الجنود من جديد -إما الرقص وإما الموت حرقاً. فيرقص الشيوخ العميان. والجنود يضحكون. وحين تنتهي المسرحية. يتقدم الجنود بكل بساطة، ويشعلون النار في ثياب المكفوفين، ثم يطلقون الرصاص، ويخر العميان صرعى، وتتابع جثثهم الاحتراق. من الذين قضوا في هذه المجزرة الشيخ شكيب وهو كفيف ناهز الستين من عمره، والشيخ أديب كيزاوي وعنده تسعة من الأطفال، والشيخ أحمد الشامية مقرئ القرآن الضرير.

” 6 ”

وهذه المجازر فاقت الوصف والتصور. داخل المستشفى الوطني تمركزت واحدة من فرق الموت التابعة لسرايا الدفاع بصورة دائمة طوال الأحداث، وكان عملها أن تجهز على الجرحى من الأهالي. كان الوضع في داخل المستشفى رهيباً فظيعاً، القتلى بالعشرات يملاؤون الممرات والحديقة الخارجية، وفي بعض الأماكن تكدست الجثث فوق بعضها، وبدأت تفوح منها روائح الأجساد المتفسخة. معظم هؤلاء القتلى كانوا من الذين يرسلهم المعتقل الملاصق للمستشفى في المدرسة الصناعية حيث يموت كل يوم العشرات.

أكثر الجثث كانت مشوهة أو مقطعة أو مهروسة أحياناً، وكان من الصعب التعرف على أي واحدة منها. تجمع كل يوم أكوام الجثث في سيارات النفايات، وتنقلها الشاحنات إلى الحفر الجماعية.

أحياناً كان يفد إلى المستشفى بعض الجرحى. هؤلاء كانوا لا ينتظرون طويلاً. فإن فرقة الموت تباشر عملها بهمة ونشاط. وبالسكاكين والسواطير تعمد إلى تقطيع الجسد الجريح.

في إحدى المرات، قتلوا جريحاً من حي الحاضر يدعى (سمير قنوت)، وأخرج أحد الجنود قلبه!

” 7 ”

وقد طال التدمير الكنائس أيضا، إذ كان يوجد في حماة أربع كنائس قديمة زمن الاجتياح نسفت قوات النظام اثنتين منها وهدمت جزأً من الثالثة ونهبت محتويات الرابعة. ووقعت الأحداث متزامنة مع استعداد نصارى حماة لتدشين الكنيسة الجديدة التي استغرق بناؤها 17 عاما وبذل الأهالي الكثير من أجل أن تكون الكنيسة تحفة معمارية فريدة، فنهبتها قوات السلطة ونسفوها بالديناميت كليا.

” 8 ”

ولقد عانى المعتقلون صعوبات شديدة بسبب الازدحام ونقص الغذاء والكساء والرعاية الصحية، هذا بالإضافة إلى التعذيب الجسدي بمختلف الوسائل اللاإنسانية. وبحسب إفادات بعض المعتقلين الذين نجوا فإن السلطات استخدمت وسائل قرض الأصابع بآلات حادة والتعذيب بالملزمة حيث يتم الضغط على الأطراف العلوية والسفلية للمعتقل حتى يتمزق لحمه وتتهشم عظامه. ومن ألوان التعذيب المكبس الحديدي للضغط على الرأس، ومنها الخازوق الذي كان يُجلس عليه المعتقل حتى يسيل الدم من دبره. ومن أساليب التعذيب أيضا تعليق المعتقل من يديه ورجليه في السقف مع تجريح بطنه وظهره بآلة حادة، ومنها كذلك الصعق بالكهرباء في المناطق الحساسة والكيّ بالحديد المحمى والضرب بالعصي والسياط. وقد وثقت بعض المصادر أسماء مئات ممن توفوا رهن الاعتقال بسبب التعذيب وترجع أسباب الوفاة إلى الضرب بعمود خشبي على الرأس أو الصعق بالكهرباء  أو الرمي بالرصاص أو النزيف الشديد بعد قطع الأعضاء أو بنفخ البطن والأحشاء حتى تتقطع أو بسبب الإصابة بأمراض فتاكة جراء تدهور الأوضاع الصحية. ” اللجنة  السورية لحقوق الإنسان ” .

مشاهدٌ داميةٌ من مجزرة العصر " حماة " .. ومازالت دماء أبناء " حماة " تنادي بالقصاص .. !