في الحقيقة

كلاديس مطر

في واحدة من خطاباته النارية، صرخ أبراهام لنكولن "أنا أؤمن بقوة بالشعب. طالما نضع بين يديه الحقيقة كاملة غير منقوصة، فإنه يمكننا الاعتماد عليه في مواجهة أعتى الأزمات القومية والوطنية. كل ما هو مطلوب في المواجهة هو أن نقدم له الحقائق كما هي بدقة!"

الحق، لا تندرج عبارة لنكولن ضمن قائمة الكلمات والجمل العاطفية المسطحة التي اعتدنا سماعها في تصريحات الصقور الأمريكيين المعاصرين حين يتحدثون لشعبهم عن الإرهاب، كما أنها ليست عبارة فالتة مقتطعه من كتاب ديني أو نص روحي قديم،  ولا حتى  لغزاً أو تعويذة سحرية مدفونة في التراب، وهي أيضا ليست (لعبة كلمات) تذرى في عيون الشعوب التي أفلستها الحروب والمناظرات الفضائية وأنهكتها الصراعات ووجهات النظر.

إن عبارة لنكولن، بالعمق، هي أساس كل ترسانة فعلية لمطلق أمة تريد أن تحصن نفسها بشعبها أولا!

 والملفت انه بعد مائة و خمسين عاماً تقريباً على هذا الرأي، كل ما تفعله الإدارات الأمريكية المتعاقبة هو مخالفة كاملة لهذا القانون. فليس الشعب الأمريكي ترسانة الأمة ولا حتى جيشه الذي يرسل كمرتزقة إلى دول العالم من أجل نشر الديمقراطية و تجربة الأسلحة الجديدة والمحرمة على شعوب كل جريمتها إنها حملت كتاب الله وصبرت.

لا يصارح الرؤساء الأمريكيون الجدد شعوبهم بالحقائق فيحولونهم إلى ترسانة متينة بدلاً من شراذم من الشعوب المهاجرة التي انقلبت كلها إلى كتيبة واحدة من دافعي الضرائب وفواتير العيش الشهرية.

ولكن ما هي الحقيقة التي يخاف أي رئيس أميركي مثلا من إعلانها لشعبه! ما هي الحقيقة التي يخاف الحكام العرب البوح بها أمام أنفسهم قبل شعوبهم؟ أي كرسي اعتراف ضخم سوف يهيأ من أجل الاحتفال بها! أي علم سوف يرفع أمامها! وأي أنخاب سوف تشرب في صحتها وعلى شرفها!

فيما مضى كان الرجال، حتى الأكثر تيهاً، يغامرون بالتفوه بها حتى ولو كانت رقابهم تحت تهديد المقصلة. هكذا بُنيت البشرية فوق ركام الحقائق التي لا لبس فيها و ليس فوق الأوهام الكاذبة. صحيح أن تاريخها لم يعرف فجراً طاهراً، وكان في أغلبه نهر دم جار بسبب جدل العقائد والأفكار، غير أن الحقيقة كانت تقال دائما لأنه لم يكن هناك وسيلة أخرى غير التفوه بها! والمشاهد كثيرة في التاريخ عن رجال و نساء سيقوا إلى حتفهم لأنهم تجرأوا وأعلنوها!

اليوم لكل منا حقيقة يريد أن يعلنها ويسوق براهين الدنيا والآخرة لكي يثبت مصداقيتها! فالمقاومة عندنا هي إرهاب عندهم، وأطفالنا هم أقل شأنا من أطفال بني التوراة، وأحلامنا ليست إلا عصي في دواليب الحلم الأمريكي الطويل الذي لا نهاية له، ونسبيتنا الثقافية معيق أمام ركب العولمة المنطلق، وعاداتنا وقيمنا حجر عثرة في وجه حقوق الإنسان، ونفطنا جوهرة بين أيدي أغبياء من أمثالنا لا يعرفون كيف يحتفظون به.

لقد سمحت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان بكشف المستور. فإذا كان الحلم الأمريكي في هذه المنطقة هو ترويج للديمقراطية كدين جديد لها، إذا فليفتح هذا الباب على مصراعيه في أميركا اليوم ولنتفرج على (صندوق الدنيا)  يحكي لنا قصة التمييز العنصري والإثني الذي ما زالت تجري فصولها إلى اليوم، ولنر أية حقيقة تقف وراء هذا الحلم الذي لم يكتمل لدى اغلب الأمريكيين السود في بلد دخل في حرب (الخامات) مع الآخرين بسعير وحش كاسر لا يرتوي. لم يأت رئيس أمريكي واحد إلا وتحدث عن هذا الحلم كما يراه هو، وعن الديمقراطية كما أوحت له بها بنود الاستقلال، وكما لاحت له (الحقائق) من زاوية رؤيته التي ينعشها من وقت لآخر المستشارون الجهلة بالثقافات الأخرى.

 حين أتى نيكسون إلى الحكم ورث من سلفه الديمقراطي ليندون جونسون حرب فيتنام. وفي واحدة من خطاباته المتلفزة من مكتبه في البيت الأبيض إلى الأمريكيين اعترف أن الانقسام الشعبي الرهيب فيما يتعلق بهذه الحرب يرجع إلى كون الكثيرين قد فقدوا ثقتهم بما قالته لهم حكومتهم حول سياستها الخارجية. لقد اعترف الرجل بأن الشعب لا يجب أن يدعم سياسة لا يعرف (حقيقتها) تماما لا في الحرب ولا في السلم. وهكذا كان عليه أن يجيب على كل التساؤلات التي شطرت شعب أميركا إلى نصفين بغية استعادة شيء من الثقة بالمؤسسة السياسية التي كانت قد وصلت إلى هاويتها بسبب تلك الحرب. ومع ذلك تملص نيكسون من الطلب إليه بسحب كل قواته من ساحة المعركة فورا قبل أن تصبح حرب جونسون حربه هو أيضا. وعاد من جديد يزور الحقائق في نفس الخطاب الذي أراد فيه إعادة الثقة لإدارته المرتبكة أثر الغزو.

 ما يحدث اليوم في هاييتي هو قريب جدا مما حدث سابقا. لقد شرب نخب زلزالها حكام البيت الأبيض بصمت ولؤم.  لقد نزل عشرون ألف جندي الى ارض هذه الجزيرة المنكوبة ليس لمساعدة سكانها على استعادة العيش  وإنما لان الكارثة سمحت للأحلام الأميركية غير المعلنة ان تجد منفذا لها على ظهور المشردين والموتى تحت الأنقاض؟ هل يتفوهون بهذه الحقيقة لشعوبهم؟؟ هل يعرف احد ان هايتتي غنية بالمعادن والذهب  و خصوصا بالمعدن النادر Iridium وهي البلد الثانية بعد جنوب أفريقيا في استخراجه و هو يستعمل في صناعة الاسلحة الامريكية والصواريخ النووية وانه منذ عام 1948 وضعت أميركا قيودا على ضخ البترول الهاييتي وانها حاولت اغتيال وزير الطاقة فيها لانه جرب توقيع عقد نفطي مع فنزويلا! هل فكر احد أن أميركا لا تجري تجاربها فقط على المناخ ( la theorie sur l'electromagnetisme وإنما على سلاح جديد يُحدث سلسلة هزات أرضية صناعية كما ورد في تقرير عسكري صادر عن الحكومة في كراكاس وكذلك عن مصدر في وزارة الدفاع الروسية.  ان وزارة الدفاع الأميركية بصدد القيام بتجارب منذ فترة على سلاح زلزالي عنيف يؤثر في اهتزاز قشرة الأرض وانه لو حدث انفجار قوي تحت سطح الأرض يمكنه التسبب في وقوع زلزال  بهذا المقياس تماما. هل يعرف احد كل هذا!!! من سيتفوه بالحقيقة؟

 فإذا لم يجد نيكسون نفسه  فيما مضى قادرا على وقف الحرب فورا ومجبرا على محاربة المد الشيوعي في تلك المنطقة و المدعوم آنذاك من الصين والاتحاد السوفيتي، إذن أية (حقيقة) كاذبة ساقوها في حرب لبنان الأخيرة حينما ماطلوا في وقف فوري لإطلاق النار؟ أين هي الحقيقة حمالة الأوجه هذه؟ وحقيقة من هي الحقيقة؟

لقد ادعى كنيدي بفصاحته أن كل ما تطمح إليه إدارته هو أن ترى حكومة سيدة، حرة، مستقلة (يستعملون دائما نفس الكلمات حين يتحدثون عن الحكومات الصديقة)  في فيتنام تدافع عن استقلالها ضد المد الشيوعي، ولهذا فان انسحاب قواته سيكون أمراً غير مقبول لأنه لا يقوض السلطة في جنوب فيتنام وإنما في جنوب شرق آسيا كلها وهذا كان رأي ايزنهاور وجونسون ونيكسون من بعده.

هكذا كانوا يرون علم السلام الأمريكي مرفرفاً فوق جثث الفيتناميين. وهذا بالضبط ما تفعله الإدارة الأمريكية الحالية في هاييتي بعد أن حرقت البلد وجلست فوق الركام تغني.

 مرة ثانية، حقيقة من هي الحقيقة؟

اليوم في فلسطين، حين نرى الأصابع ترسم علامات النصر وهي تخرج من نوافذ عربات العائدين إلى ديارهم الممزقة من السجون الإسرائيلية نعرف أن كل ما نريده هو التمسك بحقيقتنا البسيطة، ووجهة نظرنا، ورؤيتنا للأمور! أي إيمان بهي هذا الذي يدفع طفل للابتسام نصراً بينما جثة أخيه تحت الأنقاض! أية روح تتلبس النساء العربيات المقاومات و هن يحاضرن أمام رهبة ركام بيوتهن البسيطة عن ثقافة المقاومة! أين كل هذه الجوقة من العازفين السياسيين نصف الموهوبين المرتبكين أمام مكبرات الصوت التي تزدحم أمام تصريحاتهم المكررة؟

 حقيقة مَن هي الحقيقة؟

حين كان يتفقد الرئيس (المؤمن)  أنور السادات من طائرته الهليكوبتر القاهرة من عل، كان يرى كل شيء يسير على ما يرام. النيل يجري في مكانه المعتاد بخطه المتعرج عابراً الغيطان الكثيفة الماثلة بخضرتها أمام زرقة السماء، بينما تعبر السيارات والمراكب الصغيرة الجسور التي تربط ضفتي المدينة ببعضهما البعض. كان السادات يتنفس الصعداء أمام هذا المشهد وهو يمسح على قبضة عصاه التي لم تكن تفارقه و قد ارتاح في بزة عسكرية من تصميم الفرنسي (بيار كاردان). لقد كانت هذه حقيقة مصر من فوق. أما لمن كان متورطاً في أدغالها وصخبها فكان هناك وجه آخر لهذه الحقيقة.

إذا أين هي الزاوية – الصواب التي يجب أن نقف فيها ونتطلع إلى الحقيقة؟ وهل هناك حقيقة واحدة أم أنها نسبية تتحرك بسرعة دائرية فوق محورها، كقنبلة انشطارية تندفع في كل اتجاهات بحيث نفقد معرفة مصدرها.

مع ذلك، الخطأ وحده ما يحتاج إلى دعم الحكومات وترقيعها، لان الحقيقة بإمكانها المقاومة والاستمرار بقدرتها الذاتية.ويبدو أنها في حربنا الأخيرة استطاعت أن تقف بذاتها تماماً وأن تكسب في ضربة واحدة و إلى الأبد ما خسرناه عبر العصور الماضية كلها. إن من يتصرف ويحيى و كأن الحرب لم تقع، و كأنه لم يكن هناك انتصار لنسيج الروح العربية أو تغيير في معايير الواقع، سوف تدوسه مدحلة الحقيقة المتحركة الآن من دون توقف.

 أتذكر الآن قصة رويت عن هارون الرشيد حينما رأى رجلا يسدد قضيباً من معدن إلى حلقة ضيقة فيصيبها عن بعد، فأمر بأن يكافأ وأن يجلد في الوقت نفسه. ولما سئل عن سبب هذا الحكم الغريب قال: أما المكافأة فترجع إلى مهارته في التصويب والإتقان، وأما الجلد فلأنه ضيع وقتاً من حياته على ما لا طائل منه.

أين آثار هذه المقدرة في المشهد العربي الحالي؟ صحيح أن هارون الرشيد ليس المثل ربما المحتذى في كل شيء، غير أن سبب العقوبة يتجاوز تماما العقلية العربية المتعارف عليها، عقلية الدهاليز والهروب من الحقيقة. فلا تثير انتباه العربي قضية الوقت ولا يلقى لها بالا، ولا يصرف الكثير من التفكير فيما إذا كان سلوكه أو أقواله مجدية أو لا طائل منها. أليست المؤتمرات الخطابية العربية مضيعة للوقت و للحقيقة؟ أليست المنابر العربية التلفزيونية السياسية تشتيت لها وهز مصادرها؟ أليست البيروقراطية العربية بكل ما فيها من تفاصيل ولف ودوران بعثرة للثمين من الوقت والجهد؟ أليست عاداتنا واعتباراتنا الاجتماعية البالية مضيعة للوقت! أليست طريقتنا الملتوية في الحب والحوار والعمل والمواجهة والاتصال بالآخر هي الأخرى مضيعة للوقت؟ من منا يقود مركبته فينطلق من نقطة البداية ليذهب إلى هدفه في خط مستقيم لا يعرف المواربة من دون أن يمر بمليون (كوع) أو (زاوية) أو (نقطة) أو (فرد)!

في النهاية، ما هو الوقت بالنسبة لنا، نحن الذين نئن تحت ثقل المواجهة مع عالم غربي مدجج بنظريات متطورة عن علم تشريح المماطلة و بخرائط تحدد له هدفه من النقطة ألف إلى النقطة ياء في خط سير مستقيم لم تر مثله الهندسة الفراغية!

لقد كنا نظن أن فلسطين هي آخر احتلال في التاريخ في ظل ثورة الشعوب وزيادة وعيها وقبضها على (الحقيقة) بيديها. ماذا حصل!! احتلت العراق و الطريق كان مفتوحا على مصراعيه إلى بيروت لولا هذا النصر الذي أتى من عند الله وصمود اللبنانيين وقلب الطاولة على رؤوس مروجي الخرائط الجديدة للمنطقة ورؤوس الكسالى من حكامنا العرب، القابعين في زواياهم أو المحلقين في طائراتهم و كأن كل شيء على ما يرام.