بودي جارد !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

لا أتكلم عن مسرحية " عادل إمام " التي تحمل هذا العنوان ؛ لكني أريد الإشارة إلى الظاهرة التي طغت على سطح المجتمع المصرى وصارت تحكمه بصورة وأخرى ، وتؤثر فيه بشكل مباشر ،وتصنع واقعه ، شئنا أم أبينا ، واسمها " البودي جارد " !

كان أصحاب الملاهي الليلية في الزمن القديم أول من استعان بمجموعات البلطجية ، لحماية ملاهيهم والعوالم والغوازي اللاتي يقمن بالرقص والغناء وأشياء أخرى ، وكان هؤلاء يفرضون الإتاوات نظير الحماية والحراسة ، وتأديب من يخرج على نظام " الفرفشة " السائد في محلات اللهو .

ومع الانفتاح "السداح مداح "الذى بيعت فيه مصر وأبناؤها ، أطل من جديد مشهد البلطجية أو البودي جارد ، ليس لحماية الملاهي الليلية والعاملات بها فحسب ، ولكنه امتد ليشمل الشرائح القوية في المجتمع ممّن يكونون الطبقة الجديدة الحاكمة في الاقتصاد والسياسة والثقافة والتجارة والخدمات والعلاقات العامة والإعلام وغيرها..

البودي جارد عنوان على أهمية الشخص في سياق الطبقة الحاكمة ، وتعبير عن مدى قوته وسطوته ونفوذه ، كما أنه عنوان على انتهاء عصر الحماية الحكومية للأفراد والمجتمع ؛ فقد خلعت الحكومة نفسها من واجبها الأساس في فرض الأمن وتوفيره للناس جميعا ، مع أن عدد أفراد البوليس وصل إلى مائتي ألف ومليون عنصر ، وهو أكبر قوة بوليس في العالم ! ولا يحتجن أحد بأن مئات الآلاف من " الأمن المركزي " ينتسبون رسميا إلى قوات الجيش ووزارة الدفاع ، فهذا انتساب على الورق فقط، ولكن القيادة الفعلية له هي وزارة الداخلية التي قاربت نفقاتها عشرة مليارات جنيه ، وهذه الوزارة مشغولة بأمن الطبقة الحاكمة وحدها ، وملاحقة معارضيها .. أما الطبقة المحكومة التي تمثل 99%من المجتمع ؛ فلها شأن آخر ، ولا تعنى الداخلية من قريب أو بعيد ، اللهم إلا بقدر السمع والطاعة ، وإلا فالتعذيب هو مصير من لم يسمع ومن لم يطع!

قبل سيولة القيم ، وانهيار المجتمع ، كان هناك عُرف يقضى بحل مشكلات المجتمع ، من قبل أعيانه وشيوخه والداخلية نفسها ، كان مفهوما في القرية مثلا أن من يتجاوز العمدة إلى نقطة الشرطة او المركز ، لاينظر في شكواه أو مشكلته ، وكانت المستويات الأعلى لا تنظر أية قضية إلا بعد استنفاد وسائل الحل في المستويات الأدني، ولذا كان عدد القضايا التي تصل إلى المحاكم قليلا، والمحاضر التي تحررها الشرطة محدودا ، أما الآن فقد صارت " القوة " – البودي جارد مجازا – هي الفيصل ، وهي الحسم ، الذي يحصل به أصحاب الحق على حقهم .. إن لم تمتلك القوة أكلتك الذئاب ، واستهان بك أتفه الناس . لا تجد في القرية أو نقطة الشرطة أو المركز أو القسم أو المديرية ،  من يسعى إلى حل المشكلة ، وإقناع الأطراف بالتفاهم والانصراف متصالحين . فإما يجد صاحب المشكلة صدّا ورفضا وصرفا دون تحرير محضر ، أو تحرير محضر يتم حفظه إداريا ، ما لم يكن مدعوما بتقرير طبى .. وما أدراك ما التقارير الطبية ؟ اسألوا القضاة !

سيولة القيم شجعت الكذب والضلال والانحراف وتكريس مبدأ الغاية تبرر الوسيلة ، وشهود الزور ، والوساطة والمحسوبية ، فضلا عن الرشوة التي صارت أمرا مفروغا منه !

وزاد على ذلك التعذيب الممنهج الذي يسوّغونه بضرورة الحصول على اعتراف من المتهمين بالسرقة والاختلاس والعدوان .. ومع أن دول العالم اخترعت وسائل أخرى غير " التعذيب " للحصول على الاعتراف دون  تعذيب او إهانة أو استخدام الرهائن أو التهديد باغتصاب الأمهات والزوجات والبنات أمام المتهم ، فما زال التعذيب الممنهج هو الوسيلة الأسهل بالنسبة للشرطة المصرية ، لسبب بسيط ، وهو أن الإنسان المصري رخيص ، بل أرخص إنسان على وجه البسيطة ! لا يسأل عنه أحد ولا يهتم به أحد ، ولا يدرى عنه أحد شيئا ، وهو لا يشارك في سياسة وطنه ، ولا يُدعى إلى هذه السياسة إلا عندما تقع الكوارث والمصائب ، فيُطلب منه تقديم دمه وحياته مجانا وبلا ثمن !

وما جرى مؤخرا في تلبانة والعمرانية ، حيث قُتل أحد الأشخاص تعذيبا، وألقى الآخر من النافذة أو الشرفة ، يؤكد أن المصري ما زال أرخص مخلوق في العالم ، ولا قيمة له لدى السلطة أو حتى المجتمع ، باستثناء أقاربه المقربين .. حتى منظمات ما يسمى بالمجتمع المدني لا يعلو صراخها أو صوتها إلا إذا كان الضحية من فصيلة معينة ، تستمد قوتها ووجودها من خارج الحدود .

لوحظ أن أحد القتيلين ( قتيل العمرانية ) لم يكن مسلما ، لذا فإن الدنيا تحركت ، وظهر الجلادون على شاشات الفضائيات والأرضيات لنفى قبول الداخلية بالتعذيب ، والتأكيد على أن ما يجرى هو مجرد حالات فردية يتم معاقبة مرتكبيها..( أى عقاب يا سادة ؟ .. إن أقصى عقوبة هي ثلاث سنوات إذا ثبت أن التعذيب كان لانتزاع اعترافات من المتهم !)

ثم إن السلطة البوليسية قدمت بعض أفراد الشرطة المتهمين بالتعذيب والقتل إلى القضاء لامتصاص غضب الناس ، مع محاولات لإغلاق الموضوع ، بدفع دية أحد القتيلين ، ويبدو أن المسألة لم تغلق حتى كتابة هذه السطور .

كما لوحظ أن الجمهور بدأ يحتج ، ويتظاهر ضد سلوك التعذيب ، وعبر عن ذلك عند تشييع جنازة القتيلين ، وهو ما ينذر بخطر قادم ، لا يعلم مداه إلا الله .

إن المحاولات الإجرامية لاستئصال الإسلام من نفوس الناس ، ونزع أخلاق القرآن من سلوكهم وأفعالهم ، وقتل الرحمة في سلوك الشرطة وتصرفاتها ، وإحلال العنف والتعذيب في ممارساتها وتعاملاتها ؛ مؤشر خطير على انهيار المجتمع، وحرية أفراده وبناء مستقبله .

والمؤسف – بل غير المؤسف – أن تنشغل النخب الثقافية بإدانة القضاء لأنه حكم على أحدهم بالغرامة ( عشرين ألف جنيه ) ، لأنه سبّ عالما مسلما وقذفه وحرّض عليه ووصفه بأوصاف غير لائقة ، وأخذت تنوح وتولول على حرية الإبداع المهدرة وحرية التفكير المصادرة ، مع أنها – وهى تخدم النظام البوليسي الفاشي – لا تتوقف يوما عن الطعن في الإسلام ، والتحريض على علمائه ، وتكفير دعاته والمنادين بحريته وبقائه؛ ووصفهم بالمتأسلمين ، في الوقت الذي لاينبسون فيه بحرف – ولا يسيتطيعون – عن حرية الوطن والمواطن .

لقد صار عدوهم الأول هو " الإسلام " ، يسفّهون شريعته ، ويطعنون في ثوابته ، بل يزعمون أنه لا توجد في الإسلام ثوابت ، ويغضّون الطرف عما يمارسه سادتهم في لاظوغلى وفروعها المتشعبة في  أرجاء البلاد، بل وصل بهم التوقح إلى المطالبة بقوانين تبيح لهم الإساءة إلى الإسلام وعلمائه ، وتحصينهم من الوقوف أمام القضاء..

وإني أسألهم – كما أسألهم دائما – هل يمكنكم أن تطعنوا في شريعة غير إسلامية ، أو تنالوا من شخص غير إسلامي ، فضلا عن رمز من الرموز غير الإسلامية ؟

إن عصر البودي جارد " لن يزول إلا بإحلال القيم الإسلامية ، وأولها الحرية ، ثم العدل والرحمة والإخلاص والمساواة والطهارة المعنوية والبدنية ، والعمل الجاد المنتج.. وإلا فالويل لشعبنا ولأمتنا في الدنيا والآخرة .

إن استعادة المجتمع المصرى المسلم ( كل المصريين مسلمون بالعقيدة أو الثقافة ) من خاطفيه الأشرار ، وفي مقدمتهم النخب الخائنة في شتى المجالات، ضرورة ملحة ، قبل أن يجرفنا الطوفان ..ولا غالب إلا الله .

رجاء: الإخوة الكرام الذين يتفضلون بإرسال كتبهم وأبحاثهم للكتابة عنها أو تقديمها ، آمل أن يدركوا أني أحبهم وأضعهم في حبة القلب ، وأرجو منهم المعذرة حين لا أستطيع تحقيق رغباتهم بسبب ظروفي الصحية والتزاماتى الكثيرة ؛ التي لا تسمح لى بتحقيق ما أحب وأرغب ، ولهم منى وافر المودة .