فلسطين والحرب على داعش
فلسطين والحرب على داعش
معين الطاهر
"مشاكلكم ضعوها في الثلاجة". هذا ما قاله وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، لكبير المفاوضين الفلسطينيين، صائب عريقات، في واشنطن، لدى عرض الأخير عليه خطة الرئيس محمود عباس للسلام المفترض. وتمثل هذه الكلمات الأربع رداً بليغاً على الخطة، بل تلخص الرؤية الأميركية لما ستؤول إليه القضية الفلسطينية في مرحلة الحرب على داعش.
أعلن الرئيس الأميركي، باراك أوباما، خطته للتصدي لداعش، قال إنها ستستغرق ثلاث سنوات، لإضعاف هذا التنظيم وإنهاكه، ووقتاً آخر مستقطعاً لإنهاء القوات المسلحة للتنظيم المذكور، والقضاء عليها. وحشد من أجل ذلك تحالفاً دولياً ضم 50 دولة حتى الآن. المعركة ستجري في منطقتنا، وعلى الأرض العربية. وإذ يعلن أوباما أنه لن يتورط في حرب برية، فإنه يعلم أن الطائرة والصاروخ تدمر هدفاً، لكنها لا تحتله، ولا تسيطر عليه، ويبدو أن هذه المهمة قد تركت لجيوش المنطقة وميليشياتها التي ستزج في حربٍ ضروس، تستنزف مواردها، وقد تتناثر شظايا معاركها، لتصيب استقرار دولها وأمنها الداخلي.
واهمٌ من يعتقد أن القصف الغربي سيضعف من حاضنة داعش الشعبية، والتي نمت واتسعت، نتيجة ردة الفعل العامة على الاضطهاد والإقصاء والتمييز المذهبي الذي مارسه الشركاء في الوطن. هكذا هي الحروب الأهلية، تستمد وقودها من تصرفات الخصم الحمقاء، والتي تجعل الفرد مجبراً على أن ينتمي لمجموعٍ ما، لمجرد أن الآخر وضعه فيه، فيصبح لسان حاله بيت الشعر العربي الشهير: وما أنا إلا من غزية إن غوت غويتُ ... وإن ترشد غزية أرشد. وقد تنضم مجاميع جديدة لداعش، في ظل القصف الغربي، مما يعطي للحرب مدى أطول، وبُعداً أعمق.
الحرب على داعش لن يكون مجالها جبهات القتال فحسب، فثمة احتمالٌ كبير أن تبادر داعش، ومن سيؤيدها، إلى زعزعة الاستقرار الأمني في دول المنطقة المنتمية إلى التحالف الدولي، عبر خلاياها النائمة، أو أنصارها الجدد، كما أن الأنظمة نفسها ستستخدم هذا الهاجس الأمني والمعركة المفتوحة لمزيد من التضييق على الحريات، والقضاء على معارضيها، أياً كان لونهم، ووأد أي محاولات للإصلاح، أو أي حراك، بما في ذلك الحراك من أجل فلسطين. مرحلة جديدة من الأحكام العرفية تكاد غيومها السوداء تقترب من المنطقة.
ستعمل إسرائيل، بكل جهدها، لتكون جزءاً من محور عربي، كما أعلن ذلك بنيامين نتنياهو، في أثناء الحرب على غزة، يساعدها في ذلك خوف الأنظمة العربية من التردد الأميركي، أو من تخلي أميركا عن حلفائها، كما فعلت في تونس ومصر. وهي تلاحظ تراجع الدور الأميركي على المستوى العالمي، وانتهاء ظاهرة القطب الواحد، والدور المتزايد للمحاور الإقليمية. تسعى إسرائيل إلى إقناع حلفائها المفترضين في المنطقة بأنها قادرة على حماية استقرار أنظمتهم، بالإضافة إلى أهمية التنسيق معها، للضغط على الولايات المتحدة، لمنعها من اتخاذ قراراتٍ قد تضر بمصالح هذا المحور، أو استقرار أنظمته وبقاء حاكميه. ثمن ذلك معروف، وفلسطين من ستدفع القسط الوفير منه.
ستستغل إسرائيل وضع الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية في ثلاجة، إلى ما بعد الانتهاء من هذه الحرب الطويلة، في ابتلاع ما تبقى من الضفة الغربية، والانتهاء من تهويد القدس. حسبنا أن نذكر، هنا، أنه في ظل اتفاق أوسلو المشؤوم الذي قسّم الضفة إلى مناطق أ، ب، ج، فإن المنطقة ج التي تخصع للسيطرة الإسرائيلية الكاملة، ومساحتها 61% من مساحة الضفة أصبح يقطنها 675 ألف مستوطن في مقابل 57 ألف عربي. معركة التهويد ستتسارع، وستسعى إسرائيل إلى تعزيز الاستيطان وتثبيته أمراً واقعاً، مستفيدة من ظروف الإقليم لإنهاء القضية الفلسطينية.
قد تحاول أطرافٌ إيهام السلطة الوطنية الفلسطينية بأن عليها أن تكون جزءاً من التحالف الدولي، لمكافحة ما يدعى الإرهاب الإسلامي، وأن مساحة هذا الإرهاب تمتد لتشمل حركتي حماس والجهاد الإسلامي، أو المقاومة عموماً. وتمتلك السلطة، في هذه الأجواء، الفرصة للتخلص من خصومها في الداخل الفلسطيني. ويخطئ الرئيس محمود عباس، إذا اعتقد أن الحرب على داعش ستقوي مواقعه في مواجهة خصومه، أو أن هذه هي معركته المقبلة، فالمعركة الحقيقية لكل الشعب الفلسطيني هي وقف الاستيطان والتهويد المستمر بمواجهة العدو المحتل، ومنعه من تحقيق أغراضه، والانغماس في أي معركة أخرى خدمة مجانية لتحقيق أهداف العدو.
ترف الوقت ليس في صالح فلسطين، ومبادرة الرئيس محمود عباس تلقت رداً واضحاً من الإدارة الأميركية، المشغولة، الآن، بترتيب شؤون التحالف الدولي للحرب على داعش. وإذا استمرت هذه المبادرة بالوتيرة نفسها، ستصطدم حتماً بالفيتو الأميركي في مجلس الأمن. وبعد أيام، أو أسابيع، سيعلو صوت القذائف والصواريخ على كل صوت آخر.
من الواضح أن أي أفق لمفاوضاتٍ مسدود تماماً، وأن ما يسعى إليه المجتمع الدولي هو تجميد القضية الفلسطينية إلى ما بعد الانتهاء من الحرب على داعش، غير عابئ بالإجراءات الصهيونية اليومية التي تعمل على إحداث أمر واقع على الأرض، قد يصعب تغييره. لذا، على القيادة الفلسطينية أن تبدأ، فوراً، بما كانت ستنتهي إليه، لو فشلت مبادرة الرئيس، بالانضمام إلى كل المنظمات الدولية، والتوجه إلى الجمعية العامة لاعتبار فلسطين دولة تحت الاحتلال، لها الحق في كل أشكال الحماية الدولية، وذلك كله مع وقف كل أشكال التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي الذي عليه أن يتحمل كلفة احتلاله الأرض الفلسطينية، بتعزيز كل أشكال المقاومة ضده، وإنهاء الانقسام الفلسطيني بإنهاء البُعد السياسي له، بالاتفاق على منهج مقاومة موحدة في كل الأرض الفلسطينية.
على الفلسطينين قلب الطاولة، لتفادي تجميد قضيتهم في المطابخ الدولية، ولإبقاء شعلتهم ملتهبة. والوقت كالسيف، إن لم تقطعه قطعك، وأي تراخٍ أو تأجيلٍ لما ينبغي عمله، أو عودة إلى أوهام بمفاوضات وخطط ومشاريع ستكون بمثابة الخطيئة الكبرى، بعد مسلسل الخطايا المستمر منذ "أوسلو".