المقاومة الشعبية لاستئصال الإسلام !

المقاومة الشعبية لاستئصال الإسلام !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

تربع السادة مثقفو الحظيرة من اليسار المتأمرك ، فى أحد البرامج بقناة فضائية يملكها رجل قروض ، وراحوا يُقدمون وصلة هجاء مقذع للتدين الشعبى بوصفه رمزاً للإسلام وعلامة عليه . ومع أنهم – استخدموا مصطلح " ثقافة الميكروباص " وكنت أول من صك هذا المصطلح ، تعبيراً عن ارتماء مثقفى الحظيرة على بيادة النظام البوليسى الفاشى وتلميعها بهجاء الإسلام والتشهير به من خلال بعض القضايا الهامشية ، والانتقاء المتعمد لبعض الرموز الشاذة فى الفكر والسلوك ، وإشباعها نقداً وتجريحاً بوصفها رمزاً للإسلام والمسلمين .

السادة اليساريون المتأمركون أقاموا الدنيا ولم يُقعدوها ، لأن سائق الميكروباص قام بتشغيل شريط لواعظ يتحدث عن القطران المغلى والثعبان الأقرع كما زعموا ، وركزوا على الانفصام بين الفعل والقول ، أو السلوك والمعتقد لدى سائق الميكروباص وغيره .. ثم واصلوا وصلة الهجاء المقذع لكل من ينتسب إلى الإسلام بصلة ، حتى لو كان يسمع شريط قرآن بصوت قارئ خليجى يبكى فى أثناء القراءة . ولك أن تتصور ماركسياً سابقاً ، أو شيوعياً تأمرك يفتى بأن البكاء فى أثناء قراءة القرآن ، يجعل المستمع لا يحسن تأمل الآيات ، بل لا يتمعّنها ولا يُدرك أسرارها ، وكأن السادة الشيوعيين السابقين ، صاروا أئمة فى الوعى بالقرآن ، والعمل بما جاء فيه ويؤدون أركان الإسلام الخمسة ، ويقومون الليل ، ولم يشاركوا النظام البوليسى الفاشى ، فى حملته الاستئصالية لكل ماهو إسلامى ، تارة تحت مسمى " التنوير " أو " الاستنارة " وأخرى تحت مقاومة الظلام والظلامية ، أى الإسلام والإسلامية .

تمنيت من هؤلاء السادة المتأمركين ، الذين يشمئزون من الإسلام ، ويُكفّرون المؤمنين به فضلاً عن علمائه باسم " التاسلم والمتأسلمين " ، أن يبحثوا فى الظاهرة التى تشغلهم ، وتجعلها موضوعاً لمصطبتهم التلفزيونية فى قناة رجل القروض الذى تزوج مع غيره من رجال القروض السلطة ، وهو الزواج الذى أشاروا إليه باسم زواج " السلطة والثروة " .. والغريب الذى ليس غريباً أنهم حملوا على الإخوان المسلمين مثلاً ، لأنهم يُيسّرون علاج الفقراء ، ويُعلمون أبناءهم فى المساجد مجاناً حيث لا يقدرون على تعاطى الدروس الخصوصية لدى حيتانها ، الذين فرّختهم وزارة التعليم بقياداتها " الطليعية " على مدى ربع قرن من الزمان . ووصفوا ما يقوم به الإخوان فى هذا السياق بأنه عمل سياسى .. وهل منع أحد حزب السلطة أو حتى حزب الشيخ الصباحى العمل السياسى بالتيسير على الناس فى أمور العلاج والتعليم وغيرها ؟

كان بين الحاضرين أستاذ فى علم الاجتماع ، يفترض أن يكون على قدر من الموضوعية أكثر من رفاقه الذين ركزوا على وصلة الهجاء للإسلام ، صحيح أنه حذر من مستقبل مظلم متفجر ، ولكنه لم يقل لنا أبداً لماذا يلجأ سائق الميكروباص إلى شريط القطران المغلى والثعبان الأقرع ، ولم يقل لنا لماذا تكثر النساء المنتقبات ، ولم يقل لنا لماذا يصرّ الناس فى بلادى على الاهتمام بالسنن والفضائل والمستحبات أكثر من الفرائض والواجبات والالتزامات فى التشريع الإسلامى ، ولماذا يهتمون باللحى الكثيفة وتقصير الثوب ولبس الساعة فى اليد اليمنى بدلاً من اليسرى .. لم يتطرقوا أبداً إلى سبب ذلك . إن رصد الظاهرة أمر مطلوب ، ولكن تفسيرها على أساس علمى لابد أن يعتمده أى باحث منصف يحترم الناس كلامه ويأخذونه مأخذ الجد ، فيناقشونه علمياً ، ويدرسونه موضوعياً .

اكتفى السادة اليساريون المتأمركون بأن ذلك نتيجة هبوب رياح الخليج ، جاءت مع الذين سافروا للعمل هناك ، فتشبّعوا بما رأوه هناك وسمعوه ، وراحوا يطبقونه فى مصر التى ماعرفت التشدد أو المغالاة .. وإذا كانت البيئة تؤثر على أهلها بطريقة ما ، فإنها لا تغير الوافدين إليها تغييراً جذرياً ، بل لا تؤثر فيهم اللهم إلا إذا كانت هناك عوامل أخرى ، قوية ومؤثرة ، تجعل استجابتهم للتغيير واردة ومقبولة ، وهذا مالا يُريد أن يفهمه أهل الاجتماع من الماركسيين السابقين أو المتأمركين الحاليين الذين يخدمون النظام البوليسى الفاشى !

قبل عام 1961م الذى صدر فيه قانون تطوير الأزهر رقم 103 ، كان فى مصر كلها فصل واحد فى معهد واحد من معاهد الأزهر الشريف ( الابتدائية والثانوية ) يدرس الفقه الحنبلى الذى يشيع فى معظم بلاد الخليج الآن . وكانت الأغلبية الساحقة من طلاب الأزهر تدرس المذاهب الثلاثة الأخرى : المالكية والحنفية والشافعية . وكان الطالب يتدرب على أن هناك آراء مخالفة له فى المذهب . بل إن المذهب الواحد فيه آراء متعددة ، بعضها راجح والآخر مرجوح ، وكان يدرس رأى أصحاب المذهب المخالف مسبوقا بلفظة السادة الأحناف قالوا كذا ، والسادة المالكية ، أو السادة الشافعية ، أو السادة الحنابلة لهم رأى يقوم على كذا وكذا .. وهو ما كان يجعل المناخ العام يتقبل كل رأى ولو خالفه ، ويُتيح مناقشته بطريقة علمية هادئة قائمة على الاحترام ، يستفيد منها صاحب الرأى ومخالفه جميعاً ..

بعد القانون المذكور ، انهار الأزهر ، وأوشك الآن على الضياع ، لأن التطور حمّل الطالب الأزهري فوق طاقته فهجر الطلاب الأزهر المعمور ، مما اضطر بعض قياداته إلى قبول طلاب التعليم العام ، ضعاف المستوى ، فضلاً عن كونهم لا يحفظون القرآن ، ثم دخلت تعديلات عديدة على المناهج أدت إلى تقليص المواد الإسلامية والعربية ، وانتهت مؤخراً إلى إلغاء فقه المذاهب فى المرحلة الإعدادية ، ونتج عن ذلك خريجون لا يفقهون دينهم فى الأغلب ، وخطباء لا يعرفون معنى الإسلام ، ولا تستقيم ألسنتهم لُغويا ، ويُشرّقون ويُغرّبون بقصص لا يغنى ولا يُسمن .. بل إن بعض من صاروا أساتذة فى الأزهر اليوم نتيجة القانون 103 لسنة 1961م بحكم ثقافتهم الضحلة وبعدهم عن الواقع ، وحرصهم على جمع المال ، صاروا لا يعرفون معنى فقه الأولويات ولا مخاطبة الناس بمنطق يخدم الإسلام والمجتمع ..

أضف إلى ذلك كله ، ماتقوم به السلطة البوليسية الفاشية ، من مطاردة للتدين الحقيقى الذى يرفض الظلم والتزوير والاستبداد والقمع ، وإلغاء مادة التربية الدينية علمياً فى مدارس التعليم العام ، وإطلاق سلالة هنرى كورييل ومثقفى الحظيرة واليسار المتأمركين فى الصحافة والتلفزة والإذاعة لربط الإسلام بالإرهاب والتخلف والظلام .. واقرأ إن شئت على سبيل المثال ما كتبه أحدهم فى مجلة شهرية ، حيث كتب يقول : " لقد ظلت قوى الظلام ( يقصد الإسلام ) المعادية للإبداع والعلم ، تتربص بكل المكاسب التى حققتها قوى الإصلاح ( أى الموالية للغرب ) وهالها أن تنتصر القيم النبيلة ، وتسود تلك القيم التى لا يجدون فيها تربة صالحة لزرع أفكارهم الماضوية ( يقصد الإسلامية ) الداعية للخرافة والدجل وتغييب العقل ومعاداة الحرّيات .. واستطاعت فى غفلة تيار التنوير – استدعاء الماضى ( يقصد الإسلام ) بأفكار وفتاوى أسست لفكر أحادى يُقدس النصّ ( يقصد القرآن الكريم ) ، ويُكرّس الجهل والتبعية ، ويُحقّر من إرادة الإنسان ، ويُفرّق بين الناس ، ويُعادى الثقافة والعلماء والفن والحرية والإبداع والمرأة ، ويرفض الاختلاف ، ويدعى وحده امتلاك الحقيقة .... إلخ !

ما رأيك فيما يقوله هذا الكذّاب الأشر ، الذى تناسى أن السلطة التى يلمّع بيادتها ، تحارب الإسلام ، وتقدم " العوالم " على العلماء ، و" الغوازى " على الغزاة ، وتحرّم على المتدين الحقيقى أن يتولى أى منصب أو وظيفة لها قيمة ، وتضع بدلاً منه أمثال هذا الكاتب الشيوعى السابق ، المتأمرك الحالى ؟

إن التدين الشعبى بكل مافيه من خلل كان هو الردّ الطبيعى على الاستئصال الذى تمارسه السلطة البوليسية الفاشية ضد التدين الحقيقى ، وكان المقاومة الشعبية لنظام استسلم لأعداء الإسلام ، وإذا كان الشعب المصرى يرد على الاستبداد بالنكت والسخرية من المستبدين ، فإنه يُدافع عن إسلامه بالتدين الشعبى ، وفقا لنظرية الأوانى المستطرقة ، حيث إن الفراغ لابد أن يُملأ ، ويوم يعْدل النظام البوليسى الفاشى عن محاصرة الإسلام ، فسيعتدل الميزان ، ويعود التدين الحقيقى إلى مجراه الطبيعى .. الحرية هى الطريق إلى الإسلام الصحيح ، والإسلام الصحيح هو الطريق إلى الإصلاح والتغيير الذى يعزّ الأمة والوطن والمجتمع ، ولا غالب إلا الله .