خلق الأزمات والإدارة الفاشلة

خلق الأزمات والإدارة الفاشلة !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

لو أن الحكومة المصرية تملك حدا أدنى من الإرادة والوعي بمصالح الشعب ، لتجنبت صنع أزمات ليست بحاجة إليها ولا تقدر على حلها ، ولاختارت لحل هذه الأزمات رجالا أكفاء ، يقللون إلى حد كبير من الخسائر التي أصابت سمعتها ، ومكانتها في الداخل والخارج .

لكن يبدو والله أعلم أن هناك من لا يريد بمصر خيرا ، ولابأهلها ، ويحرص على أن يسمم حياتها ويضعها بين شقي الرحي ، رضا الغريب ، وسخط القريب ، وهذه ماساة بكل المقاييس أن يرضى عنك أعداؤك ، ويغضب عليك أهلك وأشقاؤك.. ولكن هكذا سارت الأمور في مصرنا العزيزة ..

في المباراة النكدة بين فريقي كرة القدم في مصر والجزائر ، دفعت مصر بأبنائها لمهانة غير مقبولة بسبب تراخي السلطة في حمايتهم ، أوقل عدم رغبتها في حمايتهم ، فدفعت بهم إلى السودان ، وهي تعلم أنهم سيتعرضون للمهانة والأذي ، وتركتهم لمصيرهم المأساوي ، وخرج وزير الخارجية الموقر ، ليقول كلاما سقيما لا معنى له ، ويتحدث عن خيارات كانت مطروحة ، بالانسحاب من المباراة ، أو قصرها على الفريقين أو ترك الجمهور يذهب لمشاهدتها ، وكان الخيار الصحيح ألا يذهب الجمهور ، ولكن السلطة تركته يذهب ليلقى مصيره المهين ، وتكتفي بالسادة المشخصياتية والعوالم والغوازي والأميين من معلقي الكرة ، ليظهروا على شاشات التلفزة ، وبعضهم راح يبكي مثل النساء ، وبعضهم الآخر راح يشتم ويسب شعب الجزائر والعرب والعروبة ، ويجهر بالفرعنة والشعوبية ، وتتحول مصر على أيديهم إلى مجرد واحدة من جمهوريات الموز لا قيمة لها ولا هيبة ، ويترتب على ذلك أزمة عميقة بين الشعبين ، والحكومتين ، لم تنته حتى يومنا هذا ، وما كان أغنانا عن ذلك كله لو انسحبنا من هذه المباراة – مثلما فعلت جمهورية توجو مؤخرا في لقاءات أنجولا - التي كنا على ثقة أننا سنخسرها لأسباب واقعية تخص فريقنا المتعب، ووفرنا على أنفسنا المهانة والهزيمة والأزمة الدبلوماسية والشعبية جميعا !

في قافلة شريان الحياة 3 التي قادها الناشط البريطاني جورج حالاوي مع نشطاء من أربعين دولة لمناصرة أهل غزة ومساعدتهم ، اتخذت الحكومة المصرية موقفا غريبا وعجيبا من القاقلة وأفرادها ، وفضلت أن تضيف إلى هذا الموقف موقفا آخر في الوقت ذاته بإنشاء ما يسمى الجدار الفولاذي على الحدود بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية ، وفي الموقف الأول أرغمت القافلة على العودة من نويبع إلى الأردن مرة أخرى والقدوم إلى العريش بالرجوع إلى سوريا والركوب من اللاذقية عبر البحر المتوسط حتى ميناء العريش فالسير إلى معبر رفح ، ومع تدويخ الحملة ونشطائها وبعضهم تجاوز عمره الثمانين عاما ، والعالم كله يرصد ما يجري بالصوت والصورة ، كان التعسف في دخول الحملة إلى العريش وحدوث الصدامات التي جرت بين أفرادها وبين الأمن المصري ، وإصابة العشرات من الفريقين ،واستشهاد جندي مصري ، وانهيار سمعة مصر العربية المسلمة على مستوى العالم حيث هبطت إلى درك سحيق وخاصة لدى الشعوب الإسلامية

أما كان من الأولى حرصا على سمعة مصر ومكانتها أن تمنع مصر القافلة منذ بداية تحركها من أوربة حتى لا تعرض نفسها وسمعتها للهبوط أمام العالم بوصفها دولة عربية إسلامية جارة لفلسطين ، يفترض أن تقف إلى جانب الشعب الفسطيني ، وتتعاطف معه ، وتحدب عليه أكثر من غيرها من أمم الأرض ؟ هل يكون جالاوى الإنجليزي أو اليهود أصحاب الضمير أو غير العرب وغير المسلمين أكثر إنسانية من الحكومةالمصرية العربية المسلمة ؟

كان من الأوفق أن تقول لهم مصر إن الغزاة القتلة اليهود يرفضون أن أسمح بدخول قوافل الإغاثة ، ولو فعلت سيترتب على ذلك مشكلات خطيرة لا أتمكن أنا الحكومة المصرية الضعيفة المستسلمة من مواجهتها ، وعندئذ كان العالم كله سيتوجه بالنقمة إلى دولة الغزو النازي اليهودي ويتعاطف مع الحكومة المصرية ، ولكن القوم في بلادنا العريقة آثروا أن يوكلوا أمر القافلة إلى الجهات الأمنية أو البوليسية ، وتركوها تواجه القافلة بعقلية بيروقراطية لا تقدر العواقب ، ولا تدرك أبعاد الخسارة المعنوية والأدبية لمصرأمام الأشقاء العرب والمسلمين وأصحاب الضمير في العالم ..

وإذا كان الأمر انتهى إلى دخول القافلة إلى غزة فلماذا كانت المتاعب ووضع العقبات والمصاعب والاشتباكات ومنع بعضهم من الدخول ومصادرة بعض السيارات وتحويل حركة القافلة منذ وصولها إلى مصر حتى خروجها إلى مسلسل من الفضائح السياسية بامتياز ، ليحمل النشطاء أسوأ صورة عن مصر وحكومتها ، وينقلوها إلى بلدانهم بينما الكيان النازي اليهودي يزغرد في كمه ، فقد وجد من يقوم نيابة عنه بما يريد ، ويؤكد لمن يريد مساعدة شعب فلسطين في غزة أنه سيلقى الذل ألوانا ؟

لماذا لم تكن حكومتنا أذكي من العدو ؟

لنقرأ كتاب معالجة السلطة المصرية لموضوع الجدار العازل ، فهو لا يقل بؤسا عن كتاب القافلة ، فقد نشرت صحيفة صهيونية خبر إقامة الجدار الفولاذي ، ومضى على نشر الخبر أيام  ولم تنف السلطة أو تؤكد ، وتركت المجال للتكهنات والتخرصات والأخذ والرد، وبعد أن أفاقت من النوم دفعت المتحدث باسم الخارجية ليقول كلاما مائعا يتحدث عن السيادة المصرية ! بعد الكلام عن السيادة قيل إن مايجري على الحدود ليس جدارا فولاذيا ولكنه إنشاءات هندسية .. وظهرأحد أعوان النظام على شاشة الجزيرة يحلف أن يعدم أولاده بأن ما يجري ليس جدارا ولكنه إنشاءات .. هزلت !

ولجأ النظام في إدارة الأزمة إلى فرق الردح الضاربة من كتاب السلطة وأبواق الفضائيات والإذاعة ، وراحت مذيعة مثل ( شاويش نوبتجي ) تفكر بلسانها وتفرش الملاءة لحماس ، وتهجو الفلسطينيين ، وترحب بالفتى دحلان صوت العقل الفسطيني ، وحبيب الجنرال دايتون ، والجنرال آفي دختر وغيرهما من أصدقائنا ( الجدد!).

إدارة أزمة الجدار ، وأزمة القافلة من قبلها ، والأزمات السابقة عليهما ، تؤكد أن القوم لا يعنيهم أمر البلد ، ولا يستخدمون عقولهم من أجل العمل السليم والتصرف الصحيح ، ولكنهم يفضلون القبضة الحديدية ، والعصا الغليظة ، والأبواق الرداحة التي لا تملك منطقا ولا برهانا ولاحجة مقبولة ؟

وكان على الناس أن يطرحوا أسئلة عديدة من قبيل : إذا كان اليهود القتلة النازيون يسمح لهم بزيارة قبر أبى حصيرة بدمنهور، فيرقصون ويسكرون ويفجرون على الأرض المصرية الطاهرة ، وتقوم السلطة بحمايتهم بآلاف الجنود والأجهزة ، وتنفق على هذه الحماية عشرات الألوف من عرق الشعب المصري البائس الفقير.. فلماذالايسمح للقافلة بدخول غزة في هدوء ليروا ما فعله القتلة النازيون اليهود من قتل ودمار وخراب ؟

وإذاكانت مصر تسمح للصهاينة القتلة بالدخول إلى جنوب سيناء بدون تأشيرة ليرتعوا ويلعبوا ويعربدوا على شواطئ خليج العقبة دون أن ينفقوا ما يعادل قيمة حمايتهم .. أفلا يكون من باب أولى ان نسمح للغزاويين بدخول العريش والحصول على احتياجاتهم الأساسية ولو بضعف ثمنها دون أن ننفق عليهم مليما واحدا لحمايتهم ؟

هل صار دور الحكومة المصرية حماية الكيان اليهودي الغاصب بخنق قطاع غزة وقتل أهلها جوعا ، ويخرج العجائز المتصابون ليقولوا إن تجارة الأنفاق تدر الملايين على قيادات حماس ؟

لقد رأى العالم كله أن مصر العربية المسلمة صارت أشد قسوة على أشقائها من الأعداء ، وأن الدور المصري صار خاضعا للإرادة الصهيونية المجرمة بدليل أن الاستباحة لسيادة مصر من جانب اليهود الغزاة لا تثير أية حساسية لدى الإدارة المصرية ، ولاتمثل أية معضلة لدى فرق الردح الضاربة فى الإعلام والصحافة والإذاعة ، وأن هذه الفرق لا تتحدث أبدا عن كسر رجل اليهود الذين يقتلون الجنود المصريين ويستبيحون السيادة المصرية بالطيران والرصاص وغير ذلك !

لقد اقترحت من قبل أن يتدرب وزير الخارجية المصري على يد وزير الخارجية التركي الذي ينصف بلاده دون أن تتحرك الجيوش والقوات المسلحة التركية ، ولكني نسيت أن الأول يسير دائما بصحبة مدير المخابرات ، مما يعني أنه لايملك من أمره شيئا ، وبالتالي فإن المتحدث باسمه  لايعرف ما ذا يجري ، ولا كيف يتناوله ؟

هل هناك في السلطة المصرية من يدرك قيمة مصر ودورها ؟