التربية والتعليم في سوريا المستقبل
سوريا بعد الأسد (10)
التربية والتعليم في سوريا المستقبل
د.خالد الأحمد *
يتخوف بعض السوريين ، وبعض العرب ، من تغيير النظام الأسدي الذي أهلك الحرث والنسل ، في سوريا ولبنان ، وساهم في هلاك العراق ، ولن يتورع عن إلحاق الأذى بأي دولة عربية .... يتخوفون من تغييره ... ويتخوفون من البديل الذي سيحل مكانه ، ويتصورون الفوضى التي حلت بالعراق ، لذلك يخافون من تغيير النظام الأسدي ...
لذلك ومن متابعة مسيرة المعارضة السورية الداخلية والخارجية ، تجمعت لدي معالم واضحة ، وأهداف مؤكدة ، اتفقت عليها فصائل المعارضة السورية ، داخل سوريا وخارجها ، ترسم هذه المعالم والأهداف صورة لسوريا المستقبل ، سوريا ما بعد الأسـد ، سوف أعرضها في هذه الحلقات بإذن الله عز وجل .
التربيـة والتعليـم في سـوريا المســتقبل :
في البداية لابد من القول أن التدهور الاقتصادي الذي قصده ونفذه النظام الأسدي دمر كل شيء في سوريا ، ومنها النظام التربوي والتعليمي ، ومنذ أكثر من ربع قرن قال التلاميذ السوريون في المرحلة الثانوية لمدرسهم وهو يحثهم على المذاكرة والاجتهاد ، قالوا له : هل تريدنا أن نذاكر ونجتهد ، لندخل الجامعة ونصبح مدرسين !!؟ لا ... دعنا نتعلم حرفة منذ الآن نعيش منها ، ولانخجل أن نعمل بها بعد أن نصير جامعيين ...أقول هكذا يقول الطلاب السوريون في زمن الحكم الأسدي ...
التربية والتعليم قبل النظام الأسـدي :
أما جيلنا جيل الخمسينات والستينات ـ قبل النظام الأسدي ـ فقد ذاكرنا على ضوء القمر ، وعلى ( لمبة ) الشارع ، كي ننجح ونصير معلمين ؛ لأن المعلم يومذاك كان محترماً في المجتمع ، مادياً ومعنوياً...
ولك أن تأخذ فكرة عن قـوة ومتانـة التعليم العام ، والجامعي ، من هذه الأمثلة التي أسوقها من خبرتي :
1- في عام (1954م) كنت تلميذاً في الصف الثاني الابتدائي ، وكنا ندرس يومــذاك أنواع الفعل ، ونحفظ أن الفعل المضارع يبدأ بأحد حروف كلمة ( أنيت ) ، وفي الصف الثالث الابتدائي كنا ندرس التاريخ والجغرافيا ، والعلوم ( الأشياء ) ، وكنت التلميذ الوحيد في القبيلة يومها ، يأتي إلي الناس لأقرأ لهم رسائل أولادهم التي أرسلوها لذويهم من خدمتهم العسكرية الإلزامية، أقول ليس هذا الأمر خاصاً بي ، بل أكثر من نصف تلاميذ الصف الثاني الابتدائي يقرأون الرسائل المكتوبة باليد ( على صعوبة ذلك ) ... أما القراءة من القصص المطبوعة ( أبو زيد الهلالي مثلاً ) فكنت أقرأها أمام جمع من أقاربي ليسهروا على أخبارها وقصائدها ، وأنا في الصف الثاني الابتدائي ....
2- في عام (1964) كنت في السنة الثالثة من دور المعلمين ، وشقيقي وشقيق أم ثائر كانا في الثالث الإعدادي ، أعطوني مسألة رياضيات ( كانت تسمى جبر ) أحلها لهم ، ووصلت إلى جواب يختلف عن الجواب الذي وضعه الكتاب ، ولما كنت واثقاً من صحة حلي ، قلت لهم الجواب في الكتاب خطأ ، وإذا أردنا الوصول لهذا الجواب الذي وضعه الكتاب يجب أن نغير أرقام المسألة ونضعها كذا وكذا ، وسكت شقيقي وابن عمي على مضض ، كيف أصحح الكتاب !!!؟ وكيف أقول لهم الكتاب غلط !!؟ وفي اليوم التالي وجد المدرس أن هذه المسألة عجز الطلاب عن حلها ، فنادى شقيقي وكان متفوقاً في الرياضيات ، فوقف شقيقي حائراً خجلاً أن يقول الكتاب خطأ ، وقال بعد تردد : يا أستاذ أخي يقول المسألة فيها غلط ، والصح أن تكون الأرقام كذا وكذا ، فقال له المدرس : أحسنت ......كلامك صحيح ...
أقول لم يكن هذا حالة خاصة بي وحدي ، بل كان ربع أو ثلث الطلاب الذين درسوا معي المرحلة المتوسطة متفوقين مثلي وبعضهم متفوق أكثر مني (( كان طلاب المرحلة المتوسطة في ريف حماة يدرسون في مدينة حماة لأن الريف يومذاك لاتوجد فيه مدارس إعدادية )) . وأسـوق هذه الأمثلة لأبين متانة وقوة التعليم في سوريا قبل الأسد ، ولم نتفوق لولا وجود مدرسين أكفاء ، بل أسميهم عباقرة قياساً باليوم ، وجهاز إداري قوي وحازم ، لولا ذلك ماتفوق أحد ...
3- في عام( 1976م) كنت مدرساً معاراً في مدينة ( ورقلة ) عاصمة ولاية الواحات في الجزائر ، ووصل إلينا زملاء سوريون ، أحدهم ( أبو سامر ) معلم ابتدائي حموي ، حصل على شهادة خبرة من مديرية التربية في حماة تقول أنه مارس تدريس الرياضيات لمدة سنتين ، وبالطبع هو حاصل على الثانوية العامة ( الفرع العلمي ) ثم الصف الخاص في دور المعلمين ، وهو من زملائي في الحسكة في بداية عملنا في التعليم ، دخلت إلى مدير ثانوية ورقلة لأوسطه في مساعدة أبي سامر كي يعينوه في مدينة ورقلة أو مدينة قريبة منها ، ولايبعدونه إلى ( عين جانيت ) مثلاً أو ( عين صالح ) التي تبعد عن العاصمة ( 2000- 3000) كلم ... قال لي المدير : هل تعرفه جيداً ؟ قلت : نعم . – كيف ضبطه للفصل ؟ قلت له : ممتاز – قال : كيف مستواه العلمي في الرياضيات ؟ قلت : ممتاز للمرحلة المتوسطة طبعاً . وإذ يقول المدير : سوف أحضره عندنا ( ثانوية ورقلة كانت للمتوسط والثانوي معاً في البداية ) ، وطلبه مدير الثانوية من مدير التعليم ، وبادله بمدرس رياضيات متخرج من الجامعة وله خبرة عدة سنوات ،عربي من دولة مشرقية ، واستمر الزميل ( أبو سامر ) مدرساً ناجحاً للرياضيات في المتوسطة قرابة ( 7- 8) سنوات ، وقد تأكدت من رضا المدير بل سروره وشكره لي حيث كنت سبباً في ذلك ... وعلق مدير الثانوية ( الجزائري ) وقال لي : أنا أعرف السوريين ، وأعرف أن الثانوية السورية تعادل الليسانس خارج سوريا ... وأفضل منها أحياناً ... هكذا كان التعليم في سوريا قبل الأســد ...
وليس الأمر مقتصراً على مدرس واحد ، بل خلال إعارتي وقبلها إلى الجزائر كانت وزارة التربية السورية تعير معلمين من المرحلة الابتدائية ، إلى الجزائر وربما غيرها ، معلمي مرحلة ابتدائية في سوريا ، لتدريس العلوم أو الرياضيات أو اللغة العربية في المرحلة المتوسطة ، وكان معظم هؤلاء المعلمين مارسوا تدريس هذه المواد في المرحلة المتوسطة ( الإعدادية ) في سوريا ، وربما بعضهم لم يمارسها ، وحصل على تلك الشهادة بالمعرفة والواسطة ، وأعير لتدريس إحدى هذه المواد ، وشهادة للتاريخ أنهم كانوا ينجحون في عملهم أكثر من خريجي الجامعات من دول عربية غير سوريا ... وهذا متعارف عليه يومذاك بين وزارة التربية السورية ، والجزائرية ، والمغربية ، وغيرها ... وهذا يؤكد بدليل قوي جداً مكانة التعليم الراقية في سوريا قبل الأسـد ...
4- وأخوكم العبد الفقير الحاصل على شهادة دور المعلمين العامة ، وثانوية منازل ( أدبي طبعاً ) ثم ليسانس فلسفة، وماجستر ودكتوراة في التربية ، أدرس الرياضيات ( دروس خاصة ) منذ ربع قرن ، وكل ذلك بفضل الله ثم بسبب فهمي العميق للرياضيات في المرحلة المتوسطة ، حيث درستها مع مدرسين قمم في العلم والمعرفة وفن التدريس ... وتعلمون أن الدروس الخاصة ( عرض وطلب ) إذا فشل المدرس تركه طلابه وبحثوا عن آخر ، وإذا نجح كثر زبائنه، واستمر عمله فيها ... وهذا من فضل الله ونعمه عليّ ، ثم من فضل أساتذتي الذين درسوني في المرحلة المتوسطة وفي دور المعلمين ، عندما كان التعليم في سوريا قوياً ومتيناً ومتفوقاً قبل النظام الأسدي ... ومن البدهي لدى كل مدرس سوري مغترب ، عاش في عدة دول عربية ، تأكد أن المدرس السوري قمـة ( أقصد جيلنا ومابعدنا قبل النظام الأسدي ) ، ويفضل على جميع المدرسين العرب ...وجميع مدراء الثانويات يتنافسون على المدرس السوري ليكون عندهم ...كما أنهم ماهــرون ونـاجحون في ( سـوق ) الدروس الخصوصية ...
هكذا كان التعليم في سوريا قبل النظام الأسدي ، ثم انحدر وانحط خلال عصر الظلم والنهب والسلب الأسدي !!؟
وللموضوع صلـة في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى
* كاتب سوري في المنفى باحث في التربية السياسية