ربيع حماس الثاني والعشرين

د.مصطفى يوسف اللداوي

د.مصطفى يوسف اللداوي *

[email protected]

اثنان وعشرون عاماً مضت على انطلاق اسم حركة المقاومة الإسلامية " حماس "، التي انطلقت في فلسطين مدويةً في مثل هذا اليوم كالطود العظيم، وكالمارد الجبار، علماً يرفرف، ورايةً تخفق، واسماً مباركاً لحركةٍ عظيمة جذورها مغروسة منذ زمنٍ في أرض فلسطين، وفروعها في كل سماء الوطن، حركةً عظيمةً يزهو بها الفلسطينيون، ويفخر بفعلها المسلمون، انطلقت لتكون عروس الحركات الإسلامية، ومبعث فخر المقاومين، وثكنة المجاهدين، ودرب العاملين، وطريق المخلصين، إنها حماس، الحركة الرباننية التي قدر الله لها رجالاً أخفياء أنقياء أتقياء، لا يعرفهم كثيرٌ من الناس، ولكنهم من جيلٍ مبارك، عمل بصمتٍ لفلسطين، وأخلص الجهد لتحريرها، في وقتٍ فقد فيه الفلسطينيون بوصلة الطريق، وتاهوا في المسير، وكادوا أن يحيدوا عن السبيل، فانطلق صوتٌ في جوف الليل من أحد بيوت غزة المقاومة، يحدوهم الشيخ القعيد أحمد ياسين، ليصدح بصوته معلناً ميلاد عهدٍ جديد، بينما شباب غزة يخوضون بأجسادهم أشد المعارك، ويرسمون بدماء شهداءهم طريق الحرية، ودرب الانتصار، في غزة التي كانت تلتهب ناراً، وتشتعل مخيماتها مواجهةً، والجنود الإسرائيليون يفرون مذعورين من كل مكانٍ أمام جحافل رماة الحجارة الزاحفين تجاههم بكل أمل، أشرق فجر يوم الاثنين الرابع عشر من ديسمبر عام 1987، ليصدر البيان الأول لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، وقد نسج خطوطه أسد فلسطين الهادر الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، ليعلن عبر البيان الأول انطلاق حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، وليصف المواجهات التي يخوضها الفلسطينيون بأنها "انتفاضة" ، فكانت حماس ببيانها الأول صبيحة يوم الرابع عشر من ديسمبر أول من أطلق على الأحداث المتدحرجة لهيباً اسم الانتفاضة، لتكون من بعد أعظم مقاومةٍ يخوضها الفلسطينيون كلهم ضد الاحتلال في كل مكان .

انطلقت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في مثل هذا اليوم قويةً فتيةً جبارةً ذراعاً عسكرياً طويلاً وضارباً لحركةٍ إسلاميةٍ تضرب بجذورها في عمق الأرض، جنودها في كل مكان، وأتباعها يملأون الميدان، ورجالها يصنعون الأحداث، ومؤسسوها يصلون الليل بالنهار، يتابعون الأحداث، ويرسمون الخطوات، ويعدون لمواجهاتٍ قد تطول، وقد أثمر كثيراً ما قد زرعوا عبر السنوات الماضية، وبدأت حماس تخوض غمار مواجهاتٍ مع العدو دامية، وتصنع انتصاراتٍ رائعة، وترسم صفحاتٍ من البطولة ناصعة، ولم يكن يتوقع العدو من الفلسطينيين بأساً كالذي رأوه، وصلابةً كالتي واجهوا، ومقاتلين أشداء كمقاوميها لايرومون غير النصر أو الشهادة، وأخذت أشكال المقاومة والمواجهة تتجدد وتتغير، كلها تؤسس لمرحلة مقاومة مغايرة، سمتها الصمود، وعنوانها الثبات، فكانت الحجارة هي الذخيرة الأولى التي لا تنضب، وعززتها السكين والمدية، وشدت من عضدها العبوة والقنبلة، ولكن حماس الحركة الوليدة ذات الجذور العميقة أبت إلا أن ترغم أنف الجيش الإسرائيلي وتمرغه في التراب، فكان الاختطاف الشهير لآفي سابورتس وألان سعدون، الجنديين الإسرائيليين الذين ميزت بهما حماس مرحلة نضالها الجديدة، معلنةً تحديها للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، جيشاً ومؤسساتٍ أمنية، وتتابعت حلقات الأسر والاعتقال، ونجم حماس يعلو ويسمو، وصدر إسرائيل يضيق وروحها تتحشرج، وضربات المقاومة تزداد ضدها كل يوم، وتضرب بضراوة في عمق أرض فلسطين، في القدس قلبها النابض، وفي تل أبيب والخضيرة والعفولة وحيفا وأسدود وبئر السبع، عمليات مهولة هزت كيان العدو الإسرائيلي حكومةً وجيشاً، وأرعبت سكان إسرائيل كلهم، وقد أدركوا أنهم في مواجهة مع حركةٍ مقاتلة جديدة، ذات عقيدةٍ وانتماء، وصاحبة عزمٍ ومضاء، إذ جاء جيل من أبناء حماس يعرف كيف يستل النصر، وكيف يزرع الخوف، ويعرف طريقه نحو استعادة الحقوق .

أمام الهول الجديد القادم، وزحف حماس الذي لا يتوقف، بدأت إسرائيل تخطط كيف تواجه حركة حماس، وكيف تضع حداً لعنفوانها المتصاعد، فزجت بآلافٍ من أتباعها في السجون والمعتقلات، فكانت الاعتقالات الأولى لكوادر الحركة الإسلامية مع بداية الانتفاضة، وتلتها يوم الرابع عشر من أغسطس / آب 1988 اعتقال مئاتٍ من عناصر الحركة، وبعثت بهم إلى عمق صحراء النقب، ليشكلوا طليعة معتقل أنصار "3" الشهير، وفي السابع عشر من مايو / آيار 1989وإثر عملية الأسر الرائدة التي قامت بها حماس، زجت إسرائيل في سجونها بآلافٍ من أبناء الحركة، واعتقدت أنها تستطيع بهذه الخطوة أن تضع حداً لحركة حماس، وأن توقف مسيرتها النضالية، وأن تضع حداً لعملياتها المقاومة، ولكن بيان الحركة رقم "42" هز إسرائيل، وأفشل مخططاتها، فقد عادت حماس لتنطلق من جديد، وبرجالٍ أشداء آخرين، غير الأسود الرابضة في السجون والمعتقلات، ولم تجدِ الاعتقالات، ولم تنفع الاغتيالات، وباتت حماس كل يومٍ أقوى من ذي قبل، ولكن إسرائيل عادت يوم الرابع عشر من ديسمبر عام 1990 فاعتقلت آلافاً آخرين من أبناء حماس، وأبعدت مئاتٍ آخرين من قادة ورموز الحركة، وظنت أنها تمكنت هذه المرة من وضع نهايةٍ لقوتها، ولكن خاب فألهم، وطاش سهمهم، ووقعوا في حيرةٍ من أمرهم تجاه حركة حماس، إذ سما نجم حماس أكثر، وسطع دورها أكثر، ووقعت إسرائيل في براثن المهندس عياش، الذي أذاق الإسرائيليين الموت زؤاماً، ونشر الرعب في صفوف قادة الجيش الإسرائيلي، وسطر أعظم عمليات حماس العسكرية ضد إسرائيل، الأمر الذي منحها ذيوعاً أكبر، وتأثيراً أشد .

عجزت إسرائيل أمام حركة حماس المتجددة فكراً وشباباً، والمتقدة عنفواناً وعطاءاً، ولم تتمكن من إضعافها أو إطفاء لهيب شمعتها المتقدة عاماً بعد آخر، فألزمت السلطة الفلسطينية القيام بما عجزت عن تنفيذه، فقامت سلطة أوسلو وأجهزتها الأمنية بتوجيه أشد الضربات الأمنية إلى حركة حماس وبنيتها الاجتماعية ومؤسساتها التنظيمية، وحاولت مع الولايات المتحدة وبعض الدول الأخرى تجفيف منابع الحركة، وتجميد أنشطتها وأرصدتها المالية، ومحاربة المؤسسات الأهلية الداعمة لها في أي مكان، ولكن حماس كانت دوماً عصية على الكسر أو الاحتواء، واستطاعت أن تصمد أمام كل هذه الخطوب، وأن تواجه كل هذه الصعاب، وتخرج منها كلها أقوى عوداً وأشد مراساً، وأصلب إرادة، وقد استطاعت أن تخرج من معركة الاغتيالات التي طالت خيرة رموزها، وأعظم قادتها، قوية العريكة، متينة البناء، صلبة النواة، كما قد خرجت من العدوان الإسرائيلي الأخير الذي استهدفها في قطاع غزة منتصرةً، مرفوعة الرأس، عالية الجبين، ولديها من العزم واليقين ما يمكنها من الثبات والصمود، وخوض المزيد من المعارك والخطوب.

حماس في ظل ربيعها الثاني والعشرين، كما اليوم الذي فيه انطلقت، صافية العقيدة، واضحة الهدف، قوية البنيان، تسير بثباتٍ ويقين نحو أهدافها، متمسكةً بالثوابت، محافظةً على القيم، تؤمن بالعمل المسلح والخيار الجهادي طريقاً لتحقيق الأهداف، ونيل الحرية، مازالت ترفع البندقية، وتنادي بالمقاومة والجهاد، وترفض الإستسلام والخضوع والخنوع، كما ترفض القبول باتفاقيات الذل والهوان، وتأبى إلا أن تزيل الضيم عن الأمة، وترفع الحيف عن الشعب، وتستعيد الأرض والوطن، وتطهر القدس والمسرى، وتعيد الأمل والبسمة المشرقة إلى شفاه وقلوب الأمة، ولن تقوى قوةٌ في الأرض أياً كانت أن تكسر شوكة حماس، أو أن تضعف إرادتها، أو أن تمزق صفها، فستبقى نسيجاً واحداً كما غزلها قادتها البررة الأوائل، ياسين وصحبه الكرام، غايتها الوطن، وسلاحها الوحدة، وذخيرتها عقيدة الأمة، إنها حماس في ثوبها القشيب، في عيد ميلادها الثاني والعشرين، في عمر الشباب، وقمة سني العطاء، ستبقى رايتها ناصعةً نظيفة عالية خفاقة، شعارها خالد ما بقي الزمان " إنه جهاد نصرٍ او استشهاد "، بوركت يا حماس في يوم ذكراك الأغر، في عيد ميلادك المجيد .

                

*كاتبٌ وباحثٌ فلسطيني