هل أصبح أفق التداول السلمي للحكم مسدودا!
فلم يبقَ إلا الانقلابات العسكرية!
الطاهر إبراهيم *
من يقرأ ماتنشره مواقع الإنترنت على صفحاتها من كتابات تهاجم أنظمة حكم عربية يدركْ مدى الإحباط الذي أصاب الشباب العربي المثقف، على وجه الخصوص. ولِمَ لا وهم يرون الأنظمة العربية التي توصف بالشمولية حينا وبالثورية حينا آخر، وقد سيطرت على مرافق الحكم، وكأن الرئيس لا يحسب لغيره حسابا ولا يلقي بالا لمن يعمل سحابة يومه في خدمته وخدمة نظامه وكأن الرئيس باقٍ في كرسيه أبد الدهر. وإذا حدث وذكّره عزيز عليه بساعة الموت، قال: ذلك إذن يوم بعيد. واحتياطا للأمر فإنه يعمل على تهيئة وريث له ليحمي من الضياع أسرته من بعده التي تسكن معه في قصر الرئاسة، فلا يصيبها ما أصاب أسرة من سبقه قبله في القصر الرئاسي، عندما انقلب عليه، وشرد من نجا من أهله في المنافي.
لا أبالغ إذا قلت أن كل دولة يحكمها "حاكم بأمره" سوف يعمل على أن تصبح "مزرعة" كل من يعمل فيها، من أصغر موظف إلى رئيس الحكومة، هم "بيادق" يحركهم متى شاء وكيف شاء، أو يستبدل بهم آخرين إذا شاء. وكل ما تنتجه هذه الدولة "المزرعة" يحول منه ما شاء إلى حسابات له في سويسرا. أما باقي الناس الذين يسميهم مواطنين، ففي واقع الحال ليسوا إلا بعض أملاكه. والويل كل الويل لمن يحاول أن يخرج نفسه من ربقة التبعية ليكون بشرا سويا، عندها تقوم قائمة الدكتاتور، فيعتقله أو ينحره، ويضع المسدس في يده ليقول الأتباع الآخرون أنه أصابه وسواس خناس فنحر نفسه.
ليلاحظ القارئ أني هنا لا أتحدث عن دولة بعينها. فهناك عدة دول عربية، تفرد فيها قيصر ممن حكموا في القرن الماضي وبداية هذا القرن، وقد وضع كل واحد نفسه في سدة السلطة في واحدة من هذه الدول واتخذها لنفسه "مزرعة". وكل "فرعونَ" كان يرفض أن يراجعه أحد في حكمه، ولسان حاله يقول: "ما أريكم إلا ما أرى". ولولا أن ذلك عهد مضى لقال: "ما علمت لكم من إله غيري"، وإن لم تذكرها أقواله نطقت بها أفعاله. في هذا الجو الكئيب المكفهر يصاب المواطن العربي بالإحباط، لأنه لا يكاد يرى له خلاصا من هذا الكابوس المرعب، أو يحس قرب زواله، إلا أنه يتمنى لو تنزل صاعقة من السماء أو طوفان يتخير أفراد الظالمين من بين الناس، كما حكموا البلاد والعباد أفراداً .. وأنى يكون هذا؟
المواطنون العرب بكافة شرائحهم مغلوبون على أمرهم في هذه الأنظمة. ولا حديث لهم في خلواتهم إلا عن إهدار حقوقهم وحريتهم من قبل أجهزة الأمن المهيمنة على شئون البلد. إذا خلا أحدهم بصاحب له تلفت يمينا وشمالا قبل أن يهمس في أذنه ببعض آلامه. فهو لا يأمن أن يكون وراء كل زاوية عنصر مخابرات. وهو يظن أن كل من يضع على عينيه نظارة سوداء ويجلس في مقهى يقرأ جريدة، فهو عنده مخبر يسترق السمع على رواد المقهى.
بعض النخب الوطنية رفضت التسليم لأنظمة الحكم القمعية باستبدادها بالسلطة. وظنت أنها يمكن أن تقف في وجه الاستبداد الوطني كما وقفت في وجه المستعمر الأوربي، عندما كان يحتل معظم البلدان العربية. حاولت هذه النخب أن تفعل مع الأنظمة القمعية ما فعلت مع المستعمر الأوروبي. حشدت هذه النخب المظاهرات في الشوارع. ووقف الخطباء ينددون بالقمع والاستبداد وباحتكار السلطة وإقصاء باقي الاتجاهات الوطنية عن الحكم. فعلت ذلك، وهي تظن أن الحاكم، وإن اغتصب الحكم بانقلاب، فلن يتجاوز سقف ما فعله المستعمر.
وقد تجد الأنظمة القمعية أن التعذيب في أقبية الاعتقال لا تكسر شوكة من لم يعتقل، فتحيل بعض الموقوفين على محاكم أمن الدولة أو المحاكم العسكرية، وربما حكمت على البعض بالسجن سنين طويلة، أو بالإعدام بتهمة الخيانة أو التآمر على مكتسبات الشعب أو الاتصال بدول أجنبية أو توهين عزيمة الأمة، وقد ينفذ الحكم في بعضهم، وتنصب المشانق لإرهاب المواطنين خارج المعتقل عندما يشاهدون ما حل بمن حدثته نفسه أن يقف في وجه الحاكم "الرشيد"، حتى يقول المواطن الخائف: "أنج سعد فقد هلك سعيد"..
في تسعينيات القرن العشرين تسارعت الأحداث وحدثت متغيرات دولية هامة. فقد أطيح بدكتاتور رومانيا "نيكولاي تشاوشيسكو"، صديق واشنطن، لكن بموافقتها. كما تعرض العالم العربي لأحداث عنيفة غير مسبوقة، عندما اجتاح العراق دولة الكويت في 2 آب من عام 1990، ما دعا أمريكا لتشكيل تحالف دولي بقيادتها لشن حربٍ على العراق، شاركت فيه ثلاثون دولة كان منها دول عربية ثورية. بعد إعدام "تشاوشيسكو" وهزيمة العراق وانهيار حائط برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي، جمعت واشنطن العرب وإسرائيل في مدريد، فتغير مزاج العالم العربي، بعد أن أصبح العالم يهيمن عليه قطب واحد هو أمريكا.
في هذا المناخ الدولي والعربي المتوتر ظنت النخب العربية أنه حان الوقت لتعيد الأنظمة حساباته، فتسعى لتخفيف قبضتها الأمنية وتتخلى عن جزء من السلطة لصالح شعوبها، بعد أن خافت الأنظمة أن يحيق بها ما حاق بدكتاتور رومانيا وبعد أن رأت رأس "تشاوشيسكو" المقطوع، وكيف قامت واشنطن بتحجيم الرئيس العراقي بعد أن هزمته في الحرب. كما أن المعارضة خففت كثيرا من لهجتها، وتوقعت أن تلاقيها الأنظمة في منتصف الطريق.
كانت سنوات تسعينات القرن العشرين وما جرى فيها من أحداث، مناسبة كي تعيد الأنظمة المستبدة تقويم واقعها وما آل إليه الأمر في المنطقة، فتحاول دخول القرن الواحد والعشرين بمزاج مختلف، إعلاميا على الأقل، وهي تحسب ألف حساب لما يدور داخل كواليس القرار في واشنطن وهي ترى كيف تخلت عن "تشاوشيسكو" حليفها الوثيق، أو ما فعلته مع "صدام حسين" الذي ما كان يشكل عدوا لواشنطن، بل ربما خدمها عندما دمّر أسلحة ترسانة إيران في حربه معها في ثمانينيات القرن العشرين. المعارضات العربية من جهتها حاولت إعادة دراسة الواقع العربي المستجد على ضوء مستجدات القرن الواحد والعشرين، وهي لا تشك أن الأنظمة العربية سوف تدخل كل تلك المتغيرات في حساباتها.
كانت مصر سباقة في فهم المستجدات باكرا. فتحت كوة ولوصغيرة كي يتنفس منها الشعب المصري قبل أن يختنق. سمحت لجماعة الإخوان المسلمين المحظورة في الترشح لمجلس الشعب على قوائم أحزاب مصرية أخرى مصرح لها حزبيا.
في سورية بقيت الأمور على ما كانت عليه حتى استلم الرئيس "بشار أسد" الحكم بعد موت والده، فأعلن في خطاب القسم عن حق الآخر أن يكون له صوت مسموع. وسمح لمنتديات المجتمع المدني بأن تتشكل وتعلن عن نفسها في ندوات جهرية، في ضوء النهار، أمام سمع أجهزة الأمن وبصرها. أما الجزائر فنحت نحوا تصالحيا مع الأحزاب المعارضة. وخففت تونس من قبضتها تجاه معارضيها وأطلقت سراح بعض المعتقلين، وخففت من تضييقها على الحجاب الإسلامي.
وجاءت أحداث 11 سبتمبر 2001 لتخلط الأوراق من جديد. وقد اتخذ الرئيس الأمريكي "جورج بوش" الابن تلك الأحداث سيفا مسلطا فوق رؤوس الأنظمة. وشعرت هذه الأنظمة التي ليست على علاقة طيبة مع شعوبها أنها مهددة من قبل واشنطن ومكروهة من شعوبها، خصوصا وأن واشنطن أعلنت عن "شرق أوسط جديد" ديمقراطي، ماجعل الأنظمة تعتقد أن واشنطن وضعتها على أجندة التغيير، خصوصا من صنفها "بوش" ضمن محور الشر.
الرئيس اليمني "علي عبد الله صالح" سارع إلى مخاطبة الرؤساء العرب قائلا: "تعالوا نحلق لأنفسنا قبل أن يحلقوا لنا". بعض المعارضات العربية التي لا تدرك طبيعة علاقة واشنطن مع الأنظمة حاولت ركوب الموجة، ورفعت صوتها مطالبة بالتغيير. ولأن الأنظمة القمعية لا تستند إلى دعم شعبي، شعرت أنها قاب قوسين أو أدنى من الإطاحة بها، وأنها سيستبدل بها أنظمة أخرى تتجاوب مع واشنطن أكثر مما تجاوبت هي، وقد ظهر بوادر انفتاح تلك الأنظمة الاستبدادية على شعوبها.
لكنه سرعان ما تبين أن تهديدات واشنطن لتلك الأنظمة نوع من الابتزاز ولزيادة رضوخها لإملاءات واشنطن أكثر مما كانت تفعل، فتنفست الأنظمة الصعداء، لأن الانصياع لإرادة واشنطن أهون عند تلك الأنظمة من توسيع هامش الحرية أمام المواطنين. لأن المواطن إذا ذاق طعم القليل من الحرية طالب بالمزيد. بعض فصائل المعارضة العربية لم تفاجأ بعودة تلك الأنظمة للتضييق على شعوبها ومن استئنافها اعتقال المعارضين بعد أن أمنت تهديدات واشنطن وصفا لها الجو، فهي تعرف كيف تفكر الأنظمة.
لكن حقا! هل صفا الجو لتلك الأنظمة بعدما سوت أمورها مع واشنطن؟ بعض المخضرمين يعيدون إلى الأذهان تاريخا مضى، عندما كان الضابط المغامر أو هاوٍ للسلطة يضع نقطة دمه على راحة كفه يركب دبابته ويقود لواء دبابات، فيتوجه إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون، وقد أرسل كتيبة لتطوق قصر الرئيس، ثم يعلن البلاغ رقم "واحد" مترنما بقول الشاعر: وما نيل المطالب بالتمني ولكن يؤخذ الحكم انقلابا.
وإذا كان هؤلاء الرؤساء جاؤوا بانقلاب أو ورثوا من جاء بانقلاب، فمن يضمن لهم أن لا يطيح بهم مغامر آخر بانقلاب؟ اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة،،،،
* كاتب سوري معارض يعيش في المنفى.