في مصر العزيزة ثلاث سنين أمان و سلام

وكان ختامها اثنا عشر يوما من العذاب

د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري

[email protected]

[email protected]

جلست يوما في ساحة من ساحات القاهرة في مكان يسمى جامع السيدة نفيسة في عام 2008 ومعي صديقين سوريين واجتمع حولنا عدد من المصريين وتحدثنا وتعارفنا وكان ممن ربطتني به صداقة من وقتها اللواء المتقاعد  إبراهيم فتح الله .كونه  أديب مصري ونشيط في كتابة القصص والروايات .

واتصل بي بالهاتف ودعاني لحضور ندوة بمناسبة إصداره رواية بعنوان (الأيام بيننا )

وصلت القاعة قاعة طلعت حرب في حي السيدة نفيسه  ليكون أصعب موقف حرج تعرضت له في حياتي كلها.

جلست في كرسي بالقاعة بين الجمهور وبدأ الحفل ومع وجود كبار الشخصيات السياسية والفكرية ورجال الأعمال والشعراء وجمهور غفير وخمسة كراسي مخصصة للجنة المناقشة وعندما بدأ رئيس الحفل بتقديم أعضاء اللجنة الموقرة ليكون اسمي بينهم وتمت دعوتي لحضور المنصة الرئيسية وتم تعريفي للجمهور كالآتي:

الأديب الكبير السوري من جامعة تشرين الدكتور عبد الغني حمد و ليتفضل .

فلا أحمل تلك الصفة واختصاصي بعيد جدا عن الأدب العربي ولا أعرف عن كتابات اللواء شيئا ولن أتحدث كثيرا عن الموقف الحرج  الذي وضعت فيه .

وراودني شعور  الإنسحاب ولكن وجدتها صعبة للغاية .

توكلت على الله تعالى واستحضرت شعوري وعاطفتي تجاه مصر وحبي لها منذ أن وعيت وبدأت كلماتي تنهال كأنها قصيدة شعرية  تنساب كلماتها انسياب الماء في رقته .

منذ صغري كنت أحلم بمصر

منذ صغري وحتى كبرت وحلمي وأملي في زيارة مصر

وقد تحقق حلمي وحققه لي الله تعالى

فأنا من مواليد سنة النصر سنة ال56

أذكر كل شبر فيها من قبل أن أراها

سيناء كلها تجري في عروقي

قناة السويس والعبور والدفرسوار الوحدة والجمهورية العربية المتحدة بور سعيد ومجزرة مدارس بحر البقر

صوت العرب وإذاعة الشرق الأوسط

وأغنية أم كلثوم في الثانية بعد منتصف الليل

مفكريها ومثقفيها وعلمائها الشعراوي وشوقي ضيف  والزيات ,

لم أشعر فيها بالغربة شعبها كشعبي كل من تحدث معي وعرفني سوري

كلمتهم المعهودة أحلى ناس امنوره مصر فيك

أعجبني فيها نيلها وبحرها وآثارها

التكافل الإجتماعي بين أبنائها , وحلاوة وخفة دم نسائها, الشافعي قال من لم يتزوج مصريه  لن يعرف طعم الزواج , وابحث عن زوجه مصريه فمن ترشحون واشتد التصفيق ورفعت الأيدي ولتقول أنا عندي طلبك .

وأنهيت كلامي بالسلام عليكم .

لم اقصد من ذكر ذلك إلا شيئا واحدا وهو:

أليس من المحزن حقا أن اغادر مصر وأحمل في نفسي اضعاف الحب اللي ذكرته بالطريقة الصعبة القاسية التي عوملت بها  من إهانة وتعذيب للذي يحبك يامصر فلم أرتب الكلمات ولم أتصنعها وإنما خرجت من أعماق إحساسي وجرت على لساني ليسمعها أحبابي .

حزن عميق بداخلي عندما كنت أنظر إلى نهر النيل وأنا في سيارة السجن من خلال الفتحة الصغيرة فيها بأنني لم أراه بعد الآن .

وعندما تم نقلي للمطار لم أنظر من الشباك لكي لاتزداد حسرتي عليها .

سؤال يلح  علي دائما :

ليتني أعرف سبب ترحيلي منك يامصر؟

أحيانا أجد جوابا , اقول هو قدري مكتوب علي دائما مفارقة من أحب وأحببت .احب وطني فتخلى عني منذ ثلاثين سنه وفقدت فيه كل أحبابي , أحببت زوجتي وأبنائي وابتعدت عنهم مفارقا ليس بإرادتي منذ سبع سنين.

ازداد حبي لمصر بعد أن عشت فيها , شعبها طيب وفقير ومقهور من الظلم والجور والفساد كما حالنا , فالطيور على أشكالها تقع .

مقهور وحزين ومشوش عقلي , فمصر دائما كانت تحتضن المقهورين أمثالي فكيف وقع الجدار علي أنا ؟

عندما اشتدت المعركة في واتا استدعاني امن الدولة  وكانت جلسة طيبة تبادلنا الأفكار فيها والأخطار القادمة والمتوقعة والهجمة الصفوية من الشرق وهدفهم إسقاط مصر ليحلو لهم الوطن العربي كله .

تناقشنا في امور كثيرة وبعد جلستين لتكون الثالثة مع اعلى المستويات في امن الدولة كان طلبي منهم تسهيل إقامتي في مصر , وطلبت منهم أن اكون لاجئا عندهم .

وكان السؤال الأخير للمسؤوول الكبير فيهم :

هل تود أن تعيش في مصر ولا تفضل غيرها ؟

قلت له كفاني تشردا ومصر في كياني كله ولا أفضل دولة أخرى عنها إلا سورية .

فكان جوابه لي :طالما هذه رغبتك فأنت بين اهلك وناسك وأهلا بك .

وانتهى اللقاء وذهبت لحال سبيلي فرحا مسرورا في أن أموري أصبحت آمنة ولن يعكر صفو حياتي أحد.

ومضى حوالي شهرين على اللقاء الأخير ,ويتصل بي  أحدهم ليقول أرجو أن تأتي غدا لهنا لكي نرتب لك الإقامة في المستقبل وإقامتي سارية المفعول حتى 1012010 , وذهبت في اليوم التالي على الموعد وقابلني أحدهم وقال أي دولة تستطيع السفر إليها فقلت له لماذا قال لالشيء قلت له تركيه مثلا.

ثم قال الآن حان وقت صلاة الظهر انتظرني في الإستعلامات . وانتظرت حوالي  ساعتين لأجد ضابط شرطة قادم وضع السلاسل بيدي وقال تعال أيها الرجل الطيب ونقلت للجوازات وهناك سألني رئيس الشعبة هل عندك تذكرة طائرة لتركيه قلت له لا قال احجز الآن قلت كيف أحجز وليس معي نقود وحاجياتي في البيت قال شوف حد من أصحابك , قلت له المفتاح معي قال ليكسروا الباب ويأتو لك بالنقود أو تذهب للسجن .

إن كان رئيس شعبة الأجانب وهو برتبة عقيد يقول ذلك فما حال الشرطي يكون؟

ورموني في الزنزانة في غرفة صغيرة في قسم الجيزة فيها بين الخمسين والسبعين شخصا طولها ثلاثة أمتار وعرضها متران ونصف وأمضيت فيها 11يوما ولم يسمح لي بزيارة بيتي ولو خمسة دقائق , ولم يتركوني إلا عند باب الطائرة .

لم اخالف القانون المصري ولم أرتكب أية جنحة  والجواز ساري المفعول والإقامة سياحية وسارية المفعول , ولم يوجه لي أي اتهام ولم أعرض على أي قاضي أو محقق ولم أسأل عن شيء .

وكنت أدفع يوميا من ال100دولار إلى ال75 دولار لأجد مكانا أجلس فيه  مع أعتى أنواع المجرمين ومع جميع أنواع المخدرات .

حسرتي تقع هنا أنا ماذا فعلت ؟

من عنده الإجابة فعليه أن يخبرني بها لكي لاتبقى حسرة في قلبي مدى حياتي .

هل يقع ذلك لمواطن إسرائيلي  سائح في مصر ؟

ومن يرد لي اعتباري ويعوضني عن حرماني وعذابي وقهري هذا ؟

أكيد: لا أحد, لأنني مواطن عربي من الدرجة الدنيا في الترتيب العالمي لجميع الخلق عند الحكومات العربية أجمع