أربعون عاماً مرت ولا زال الجرح مفتوحاً

أربعون عاماً مرت ولا زال الجرح مفتوحاً

عدوان 5 حزيران...

محمود كعوش

كاتب فلسطيني مقيم في الدانمارك

إنه لمن دواعي الحزن والأسى أن تحل الذكرى الأربعون لعدوان الخامس من حزيران هذا العام فيما لا زال النظام الرسمي العربي يبدو على أسوأ ما يمكن أن يكون عليه من العجز والهوان وفقدان الإرادة وامتهان الكرامة، بحيث تعذر معه التئام الجرح العربي المفتوح على مصراعيه منذ ذلك العدوان، وبحيث تعسر معه حتى مجرد التكهن بحدوث ذلك في المستقبل المنظور.

ففي مثل هذا اليوم من عام 1967 شنت "إسرائيل" حرباً عدوانيةً غاشمةً استهدفت كلاً من مصر وسورية والأردن أطلقت عليها وفق تسلسل الحروب بين العرب و"الإسرائيليين" تسمية "الحرب الثالثة"، بعد نكبة فلسطين في عام 1948 والعدوان الثلاثي على مصر في عام 1956.

وللتخفيف من وطأة نتائج وإرهاصات تلك الحرب العدوانية والآثار السلبية الفادحة التي ترتبت عليها على مستوى الأمة العربية التي كانت تعيش قبل وقوعها أوج مدها القومي وذروة آمالها العريضة بقرب أزوف اللحظة الموعودة التي يتم فيها تحرير فلسطين من الاغتصاب الصهيوني، أطلق الراحل العربي الكبير جمال عبد الناصر عليها تسمية "نكسة 5 حزيران".

لقد مثلت الحرب التي شنتها "إسرائيل" ضد العرب في 5 حزيران 1967 بكل ما أفرزته من نتائج عسكرية وسياسية واقتصادية وجيواستراتيجية تحولاً خطيراً في مجرى الصراع العربي ـ "الإسرائيلي"، لما نجم عنها من خللٍ واضحٍ وخطيرٍ في توازن القوى بين الأقطار العربية مجتمعة من جهة و"إسرائيل" من جهة أخرى.

وبفعل نتائج تلك الحرب، ترتب على قضية فلسطين أن تعود ثانية وبشكل غير محسوب إلى ردهات منظمة الأمم المتحدة لتخضع من جديد إلى دوامة من التكتلات والصراعات والمماحكات والمناقشات والاجتهادات حول قرارات ومشاريع قرارات متواترة ومتلاحقة، أدت بالنتيجة إلى صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 في 22 تشرين الثاني 1967 والذي تضمن، حسب رأي مجلس الأمن، ما اعتبر "مبادئ حلٍ سلميٍ" لها. لكن "إسرائيل" رفضته، بعدما فسرت بنوده بالكيفية التي أرادتها!!

وقياساً بالنتائج أيضاً، يمكن القول أن "إسرائيل" استطاعت على الصعيد السياسي أن تثبت لمعسكر الغرب الإمبريالي تفوقها على العرب، الأمر الذي مكنها من إقناعه باعتمادها شرطياً "أميناً" للمحافظة على مصالحه في "منطقة الشرق الأوسط" بما في ذلك الوطن العربي، وعلى الصعيد العسكري تمكنت من السيطرة على مساحاتٍ كبيرةٍ من الأراضي العربية بلغت أكثر من أربعة أضعاف ما احتلته إبان نكبة عام 1948، كما وفتحت مضائق تيران وسيطرت على شرم الشيخ وضمنت لنفسها الملاحة في خليج العقبة، وعلى الصعيد الاقتصادي، تمكنت من السيطرة على المصادر النفطية في شبه جزيرة سيناء المصرية (حتى ربيع 1982) وعلى موارد المياه في المرتفعات السورية والضفة الغربية وأصبح بمقدورها تطوير عملية الهجرة والاستيطان في الأراضي العربية المحتلة.

أما على الصعيد الجيو - استراتيجي، فقد تقدمت أكثر فأكثر من عواصم عربية كبيرة وفاعلة مثل القاهرة ودمشق وعمان وازداد عمقها الإستراتيجي، هذا وكسبت أوراقاً جديدةً للمساومة، وأقامت حدودها الجديدة عند موانع أرضية محكمة كقناة السويس ونهر الأردن ومرتفعات الجولان، وقد أثر ذلك في الروح المعنوية لجيشها وقادته إلى حد أن وهمهم وغرورهم صورا لهم أنهم استطاعوا فرض إرادتهم على العرب وباتوا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق مطامعهم التوسعية العنصرية في الوطن العربي.

وفي ما يتعلق بالطرف العربي، فإننا إذا ما سلمنا جدلاً بأن ما كسبته "إسرائيل" في تلك الحرب جاء على حساب خسارة العرب وإذا ما نحينا جانباً نتائجها على الصعيدين الاقتصادي والجيواستراتيجي، يمكن الجزم بأنها على مستوى نتائجها السياسية أيقظت الوجدان العربي وهزّته هزا عنيفاًً، ونبّهت الشعور القومي إلى الخطر الداهم على كل العرب من المحيط إلى الخليج، وانعكس ذلك على التحرك العربي الذي اتخذ اتجاهاتٍ عملية وسريعةً لإزالة آثارها ودعم مواقع الصمود والاعتماد على الأصالة الذاتية للأمة العربية، كما وأن تلك الحرب وما ترتب عليها من "نكسةٍ" قاسيةٍ على العرب، كشفت للعالم أجمع أكذوبة "إسرائيل الضعيفة التي يتهددها العرب من كل حدبٍ وصوب"، مما أكسب العرب عطفاً دولياً وتضامناً مع قضاياهم ساعدهم على عزلها عالمياً، لكن وللأسف إلى أمد لم يطل.

أما على الصعيد العسكري بالنسبة للطرف العربي، فيمكن التسليم بأن القوات العربية تعرضت لخسائر فادحة، أكان ذلك على المستوى البشري أو على مستوى الآلة العسكرية. غير أن هذه القوات تمكنت من التحرك السريع وإعادة تنظيم قدراتها وإمكاناتها، واستطاعت في فترةٍ وجيزةٍ أن تتعافى وتعود أقوى مما كانت عليه من قبل، وذلك بفضل الدعم العربي ودعم الدول الصديقة، وعلاوةً على ذلك فقد دفعت مرارة "النكسة" الجماهير العربية وحكوماتها وقواتها المسلحة إلى العمل الدؤوب من أجل رفع مستوى القدرة القتالية والتأهب للثأر الذي طال انتظاره!!.

والأهم من ذلك أن تلك "النكسة" أو "الهزيمة" التي ألمت بالعرب زادتهم إصراراً وتصميماً على مواجهة التحديات والمخاطر الداهمة، بدلالات قرارات مؤتمر قمة الخرطوم وحرب الاستنزاف ومعركة الكرامة، وبدلالة متابعة الاستعدادات لبلوغ النصر، الأمر الذي لم يمكن "إسرائيل" من فرض أهدافها السياسية على العرب أو إخضاعهم لإرادتها وإرادة المعسكر الغربي الذي اعتمدها شرطياً "أميناً" على مصالحه.

وبالعودة إلى القرار الدولي رقم 242 الذي أصدره مجلس الأمن بعد خمسة شهور من عدوان الخامس من حزيران 1967 يمكن القول أن استخفاف "إسرائيل" به وتهربها من تنفيذه زادا العرب إصراراً فوق إصرار وتصميماً فوق تصميم على مواجهة التحديات والمخاطر الداهمة، وقد اقتضى ذلك بدء مرحلة جديدة تميزت باتساع رقعة نفوذ الثورة الفلسطينية، وتعدد ساحات ومعارك النضال الفلسطيني المسلح، وتزايد تأييد حركات التحرر الوطنية القومية العربية والتقدمية العالمية، لكن كل ذلك لم يثن "إسرائيل" عن سياستها العدوانية ضد العرب، فظلت توغل في تنفيذ خططها الخاصة بقضم وضم الأراضي المحتلة شبراً شبراً، وفي رفض أي مبادرة دولية لتسوية الصراع العربي - "الإسرائيلي" بالوسائل السلمية، وفي تحدي ميثاق منظمة الأمم المتحدة وانتهاك مبادئها.

واستمر الوضع على ذلك الحال حتى نشوب الحرب العربية "الإسرائيلية" الرابعة في السادس من تشرين الأول عام 1973، ففي تلك الحرب استطاع العرب لأول مرة أن ينتزعوا زمام المبادرة من أيدي العدو "الإسرائيلي"، وأن ينتقلوا بنجاحٍ من الدفاع إلى الهجوم الإستراتيجي، وأن يباغتوا العالم ويأخذوا العدو على حين غرة، وأن يحطموا نظرية الأمن "الإسرائيلي" وأسطورة التفوق المزعوم، وأن يثبتوا قدرتهم على التضامن والعمل المشترك لتحقيق هدفٍ واحدٍ موحد.

وإن لم تفضِ حرب السادس من تشرين الأول إلى نصرٍ عسكريٍ حاسمٍ لأيٍ من طرفي الصراع بفعل الدعم الغربي لـ"إسرائيل" الذي تمثل بالجسر الجوي الذي أقامته واشنطن بين تل أبيب وعواصم الحلف الأطلسي وبفعل جنوح الرئيس أنور السادات إلى "السلم على الطريقة الأميركية - الإسرائيلية" وتطويعه نتائجها لغاية قطرية ضيقة ، إلا أنها جاءت في كثير من نتائجها لصالح العرب، وبالأخص على مستوى النتائج السياسية، ولعل ما أثبتته حرب تشرين الأول 1973 من قدرة العرب على التضامن ووحدة الصف والقوى والطاقات في مواجهة العدو المشترك هو من أهم النتائج وأكثرها قيمةً وتأثيراً، خاصةً وأنها تمكنت بجدارةٍ من محو آثار "نكسة" الخامس من حزيران 1967.

ترى هل يُقيض للعرب أن يشهدوا تضامناً عربياً مماثلاً للذي شهدوه في حرب تشرين الأول 1973 مرة أخرى؟ أتمنى أن أعيش لأشهد شيئاً كهذا في يوم من الأيام.. لكنني أشك في ذلك، خاصة إذا ما استمر النظام الرسمي العربي على ما هو عليه من تآكل وتهالك !!