من يقف وراء تمرد الجيش على العبادي؟
من يقف وراء تمرد
الجيش على العبادي؟
علي الكاش
كاتب ومفكر عراقي
إن التركة التي أورثها رئيس الوزراء السابق ونائب رئيس الجمهورية الحالي نوري المالكي الى خلفه حيدر العبادي، ثقيلة للغاية، سيترتب عليها أن تكون حكومة العبادي حكومة معالجة أزمات دون أن تستطيع تحقيق الحد الأدنى مما يأمله العراقيون منها. وهذا ما عبرت عنه صحيفة الغارديان البريطانية "أن رئيس الوزراء العراقي الجديد حيدر العبادي يواجه مأزقا ضخما في الوقت الراهن بسبب حاجته وحاجة البلاد الماسة لمواجهة الطائفية التي تسببت في مشاكل كبرى للدولة العراقية". هذا إذا إفترضنا جدلا ان المالكي سيقف على الحياد! لأنه لا يمكن أن يتحذ موقفا إيجابيا من حكومة العبادي طالما إن شبح خسارة المنصب لا يفارقه لحظة! المنصب الذي عمل وخطط له بجد وصرف الملايين من الدولارات على ترسيخة، لتأمين حصوله على الدورة الرئاسية الثالثة.
إن خيال المؤامرة لا يفارق مخيلة المالكي المريضة، ومع إن منصبه الحالي كنائب أول لرئيس الجمهورية ذو مكانة مرموقة، لكنه لا يشكل شيئا مهما له طالما إن صفته بروتوكولية، ولا يستطيع أن يواصل تحكمه في مجرى الأحداث كما كان في السابق، أو على الأقل أن يستمر في مسك الملف الأمني لفترة طويلة، بالرغم من أن العبادي هو القائد العام للقوات المسلحة، لكن لا تزال أظافره مقلمة، كما أثبتت الوقائع خلال الإسبوعين الماضيين.
سيعمل المالكي وهو صاحب نفوذ عسكري ومالي كبير دورا خبيثا لإفشال حكومة العباي، ليثبت بأنه الحاكم الأمثل للعراق، وان العراق خسر مستقبله وأمنه برضائه على حكومة العبادي، سيما ان للمالكي جيش من الصحفيين قدره أحد المسؤولين في مكتب العبادي بحدود(5000) صحفي على المواقع الألكترونية، وهم موظفون على ملاك مجلس الوزراء والمؤسسات المرتبطة بالمالكي، علاوة على الصحف والمجلات التي يمولها المالكي، والتي بدأت بتوجيه الإنتقادات الى حكومة العبادي وتلميع صورة القائد الضرورة فإختلطت الأوراق.
في إجتماع حيدر العبادي مع القيادات الأمنية والعسكرية خلال الإسبوع الأول من وزارته عاهدته هذه القيادات بأنها ليست رهينة المالكي أو غيره، وإنما مهمتها خدمة العراق، وإنها ستعمل تحت إمرته بإخلاص، ولا نعرف هل إقتنع العبادي بالعهد إم قبله على مضض على إعتبار أن ما يزال على عتبة الوزارة؟
لكن العبادي إرتكب هفوة كبيرة بإعتماده على نفس القيادات التي نصبها المالكي، وهي قيادات أثبتت فشلها الميداني بتشخيص الولايات المتحدة الأمريكية التي أشرفت على تدريبهم وتمويلهم وتسليحهم، والحكومة العراقية نفسها. وكان من الأولى بالعبادي أن يعزل هذه القيادات لكي تمثل أمام القضاء على تخاذلها وفرارها من المواجهة، وليس تكريمها كما فعل المالكي! لقد لعبها المالكي بذكاء، وفاتت على العبادي بمنتهى الغباء! لم يفكر العبادي بالسبب الذي يقف وراء تكريم المالكي لقيادات سبق ان وصفها بالمؤامرة عليه؟ ووعد بأن تُحاسب بشدة على تخاذلها.
فقد قام المالكي بتوزيع أراضي قرضها من أمانه العاصمة، وهي عبارة عن متنزهات عامة، علاوة على هبات مالية وترقيات وإمتيازات أخرى للقيادات العسكرية والأمنية، قبل أيام من إنتهاء عمله، مع ان القانون لا يجيز تلك المكارم لأن الحكومة تعمل بصفة تصريف أعمال! والأدهى منه إنه نصب أحد أقزامه على رئاسة البنك المركزي لتسهيل الصروفات المالية، وحرق ما لابد من حرقه من وثائق تتعلق بالفساد المالي لحكومته.
لم يفطن الحيدري إلى لعبة المالكي، والأنكى منه ان بلع الطعم، وصرح ببلاهة أو حسن نيه، بأنه لا تغيير في القيادات الأمنية والعسكرية! وجرت رياح العبادي بما لا تشتهيه السفن، حيث أثبت عجزه وضعفه في أول قرار مهم إتخذه بوقف قفص المدن الآمنة بالسكان لأهل السنة. كان موقفا جريئا ولكن لم يتمكن العبادي من تنفيذه، والحفاظ على كرامته كحد أدنى أمام شركائه في العملية السياسية، كان في موقف لا يحسد عليه أمام الرأي العام العراقي والعربي والعالمي.
ليس من الصعب فهم من يقف وراء تمرد القيادات العسكرية على قرار القائد العام للقوات المسلحة، وهي جريمة ترتقي إلى الخيانة العظمى. لنرجع قليلا إلى الوراء ونستذكر تصريح المالكي خلال زيارته لكربلاء يوم 14 أيلول، فقد إنتقد المالكي قراري العبادي بوقف قصف مدن أهل السنة، وتشكيل الحرس الوطني للمحافظات السنية، وفي اليوم التالي مباشرة إستأنفت القيادات العسكرية الغارات والقصف المدفعي على المناطق المدنية متمردة على قرار العبادي! مما أذهل أهل هذه المناطق عن كيفية تمرد الجيش على القائد العام للقوات المسلحة، وأثبط عزائمهم في المصالحة الوطنية.
ما الذي حققه المالكي جراء هذا التمرد العسكري؟
1. إثبت المالكي بأن الملف الأمني ما يزال بقبضته، وإن القيادات العسكرية التي كرمها أعطت ثمارها، والدليل إنها تمردت على قرار العبادي بوقف قصف المدن. ومما يزيد اليقين ان قوات عسكرية تابعة لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي (قوات نخبة المالكي) فرضت يوم 16 أيلول، طوقاً أمنياً حول المنطقة الخضراء عقب محاولة عشرات المحتجين من أهالي ضحايا القاعدة الجوية سبايكر اقتحام مبنى مجلس النواب العراقي داخل المنطقة الخضراء، حيث ورد في الأخبار" إن قوات المالكي رفضوا كل الأوامر العسكرية والتوجيهات الحكومية التي أفادت بمنع انتشارهم العسكري، واكتفوا بالقول أنهم لا يأخذون اوامرهم من الحكومة الجديدة برئاسة حيدر العباد، على حد قول برلمانيين. كما منعت قوات النخبة انتشار القطعات العسكرية وقوات من لواء بغداد وعناصر من شرطة مكافحة الشغب في محيط المنطقة الخضراء، واجبرتهم على ترك مواقعهم، وأغلقت جميع البوابات المؤدية للمنطقة".
2. أثبت المالكي بأنه اللاعب الرئيس في القرارات الأمنية وإن كان خارج الوزارة، فقد صدق وعهده في كلمته خلال زيارته لكربلاء، علاوة على ما يرسله من رسائل سرية إلى العشائر الموالية له بأنه لا يزال الرجل الأقوى، و(إنتظروا عودتي إلى المسرح السياسي).
3. وجه المالكي ضربة تحت الحزام إلى القيادات السنية، بأن لا تعول كثيرا على أحلام اليقظة! وعليها أن لا تأمل شيئا من حكومة العبادي، الحال سيبقى على وضعه، فلا حقوق ولا تنازلات. وفعلا أصدر اعضاء وفد الانبار بيانا جاء فيه" ان عدم تنفيذ أوامر رئيس الوزراء باعتباره القائد العام للقوات المسلحة من قبل القادة من قبل العسكريين، أمر كارثي وغير مسبوق وهو عصيان لأوامره باعتباره المسؤول عن القيادة العامة للقوات المسلحة".
4. أثبت المالكي للجميع بأن حيدر العبادي ضعيف الشخصية وإن القيادات العسكرية لا تحترم قراراته، وهكذا شخصية لا تصلح لرئاسة الحكومة.
5. ضرب المالكي المساعي التي بذلتها الولايات المتحدة الأمريكية للحوار مع أهل السنة لإستمالتهم في حربها على داعش. مستعرضا عضلاته الأمنية، كما برهن بأن أي مساعي أمريكية يمكن أن يسحقها بما لدية من نفوذ على القيادات الأمنية والعسكرية.
6. ردٌ المالكي الكيد للأمريكيين لدورهم الرئيس في تنحيته من منصبه، ليثبت لهم بأنهم أخطأوا في إعتمادهم على الرجل الضعيف (العبادي) ورفضهم الرجل القوي (المالكي).
7. أرسل المالكي رسالة واضحة إلى نظام الملالي بأنه ما يزال العبد المطيع للولي الفقية وإنه سيصب جهده لخدمة المشروع الإيراني في العراق وضرب معاقل أهل السنة، أينما كان موضعه السياسي.
8. كانت مشكلة النازحين من أهم المشاكل التي تحدث عنها العبادي، وطالبت الأمم المتحدة حكومته بالإسراع في حلٌها، وقد وعد العبادي بإنه سيهتم بهذه المشكلة ويعطيها الأولوية في برنامج حكومته القادم. ويبدو إن المالكي عزف على هذا الوتر الحساس، لكي تستمر المشكلة ويثبت عجز العبادي عن حلها، من خلال إستئناف قصف المدن، ووقف عودة النازحين لديارهم وهم حوالي المليونين.
9. وجه المالكي أعضاء من حزبه ونوابه في البرلمان والميليشيات الموالية له كعصائب أهل الحق، بإنتقاد قرار العبادي بوقف قصف مناطق أهل السنة، وبالتالي مارس ضغطا على حكومة العبادي وجعله بين نارين. أما إرضاء أهل السنة بإيقاف القصف، أو إرضاء حزب الدعوة والميليشيات التابعة للمالكي، وكلاهما أمرٌ من الأخر، سيما على شخصية ضعيفة كالعبادي.
الحقيقة إن موقف حزب الدعوة وبقية الأحزاب الموالية للخامنئي غريب جدا، لأنه لا يمكن تبرير قصف المناطق المدنية بدعوى داعش، نحن نتحدث عن خسائر في صفوف المدنيين وليس مقاتلين، هناك حوالي(5000) مدني معظمهم من النساء والأطفال وقعوا بين شهيد وجريح جراء القصف الحكومي للأنبار فقط! وذكرت التقارير بأن 95% من الغارات إنما إستهدفت مواقع مدنية وليست حربية.
ومع هذا فان حزب الدعوة والميليشيات الشيعية، ومرجعية النجف ترفض وقف الغارات على المدن! حسنا! أليس هذا تبرير كافي لداعش وغيرها بأن تمارس نفس السياسة؟ أي أن يدفع المدنيون من الشيعة الأبرياء ثمن سياسية قياداتهم الرعناء، والنتيجة هي خسارة ناس أبرياء لا علاقة لهم بالعمليات العسكرية بين الطرفين.
إن منطق حزب الدعوة وعصائب أهل الحق وبقية الأحزاب الشيعية التي ترفض وقف قصف المدنيين لا تختلف عن قول أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة عندما سُئلت عن الحصار الأمريكي للعراق الذي تسبب في وفاة نصف مليون طفل حتى عام 1996 فعبرت بكل استهتار" أن الثمن يستأهل".
يبدو إن الأحزاب الشيعية ترى إن موت الأبرياء من أهل السنة نتيجة القصف الحكومي يستأهل أيضا! أي نفس المنطق الهمجي! فلماذا نعيب المقبورة ولا نعيب سماسرة حزب الدعوة، سيما نهيق النائب كاظم الصيادي. إن خسائر المدنيين غير مقبولة سواء كانوا من أهل السنة او الشيعة، إنهم عراقيون وهذا يكفي. من المؤسف جدا ان يكون موت الابرياء نتيجة لمهاترات السماسرة والسياسات الرعناء.
ربما فهم العبادي الدرس! فأعدائه في الوقت الحاضر من داخل البيت الشيعي ومن حزبه بالذات. وهذا ما دفعه إلى تغيير طاقم حمايته الشخصيين وفوج حراسته، ومن المتوقع ان يغير القيادات والقطعات الأمنية والعسكرية في المنطقة الخضراء بعد تمرد قوات النخبة على قراراته، سيما بعد أن وصلته إشارات بأنه معرض للإغتيال من قبل رفاق الدرب. بالتأكيد للمالكي ضلع! لأنه أول الجهات المستفيدة من موت العبادي أو فشله على أقل تقدير، كي يعيد الأضواء مجددا إلى شخصه.
هذا هو الإمتحان الأهم الذي يواجهه العبادي خلال الشهر الأول من وزارته. هل سيقوم بإعادة النظر في الملف الأمني؟ ويضرب بيد من فولاذ على القيادات العسكرية والأمنية التي تمردت على قراراته؟ هل سيوقف المالكي عند حده ويجرده من أسباب القوة والنفوذ؟ هل سيلغي قرارات المالكي خلال فترة حكومة تصريف الأعمال؟ هذا ما تكشفه الأيام المقبلة والتي من خلالها يمكن الحكم على مستقبل حكومة العبادي؟