الحل الممكن للانقسام الفلسطيني
معين الطاهر
ما إن هدأت نيران غزة، وتوقفت صواريخها، حتى اشتعلت نيران أخرى، تنذر بعودة الانقسام الفلسطيني، بصيغة أشد ممّا كان عليه. وتؤكد أن الانحناءة أمام صمود المقاومة وتضحيات الغزيين، سواء في تشكيل الوفد الموحد، أو تراجع قوى الأمن الفلسطيني في الضفة الغربية عن مطاردة المتظاهرين، لم يكن سوى حدث عابر لم يمسّ الجوهر، ولم يؤسس مرحلة جديدة من الوحدة والوفاق.
جرت، سابقاً، محاولات عديدة لدفن الانقسام الفلسطيني، لم تنجح أيّ منها في تحقيق المصالحة الوطنية، وفشلت في التصدي لأسباب الانقسام الحقيقية، وحاولت أن تعالج مظاهره وأموره الإجرائية والتنظيمية التي كان من الصعب معالجتها في تلك الظروف. كانت أوراق المصالحة المختلفة مجرد استجابة لضغط جماهيري، أو ظروف ذاتية، تحتّم على الطرفين التوقف، قليلاً، بانتظار متغيّرات إقليمية، لعلّها تتيح تغييراً ما في موازين القوى والعلاقات بينهما، تمهيداً للوصول إلى اتفاق جديد. ولما كانت منطقتنا حبلى بالأحداث وتعدّد اللاعبين وبقاء الحال من المحال، سرعان ما تنشأ ظروف ومستجدات، أو آمال ورغبات، تجعل من الاتفاق السابق أمراً منتهياً، قبل أن يجف الحبر الذي كتب به.
لم تنجح حكومة الوفاق الفلسطينية، وهي حكومة الرئيس محمود عباس، في حل المشكلات الإدارية لموظفي غزة، وفشلت فشلاً ذريعاً في اختبار الحرب التي أجهزت على ما تبقى من ذلك الاتفاق، وفرضت رؤى وموازين قوى جديده، وأكدت أن سبب الانقسام كان، ولا يزال، الخلاف السياسي حول سبل المواجهة مع العدو وآلياتها، وأي طريق نسلك، وأي درب نسير، وما عدا ذلك تفاصيل صغيرة.
ما إن بدأ تنفيذ وقف إطلاق النار، حتى عدنا إلى النهج السابق نفسه، وعاد الحديث عن الصواريخ التي لم تقتل سوى ثلاثة صهاينة، وموازين القوى التي لا تسمح لنا بمواجهة إسرائيل. تجدّد الخلاف من حيث بدأ، وبشكل أقسى من السابق. وعادت المقولات السابقة نفسها إلى الواجهة، وأضحت المقاومة المسؤولة عن قتل ألفي فلسطيني، وجرح عشرات الآلاف، والتدمير الهائل في البنية التحتية، بدلاً من تحميل العدو الصهيوني المسؤولية كاملة، وملاحقته كمجرم حرب أمام المحافل الدولية. وبدأت مقايضة المعابر والحصار والإعمار بسلاح المقاومة، بل بوجودها وسلامة نهجها من حيث المبدأ.
هذه المرة، لم يعد ممكناً الاختباء خلف أي مبررات، لتمرير أي اتفاق مصالحة جديد، إذ يتحتم على كل الفرقاء مواجهة الأمور كما هي، والاعتراف بالأساس السياسي والمنهجي للانقسام، والاتفاق، إذا أمكن، على رؤية جدية مختلفة لآليات الصراع والمقاومة.
يقول رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، خالد مشعل، إن الحركة لن تكون جزءاً من المشكلة، وستكون جزءاً من الحل. لكن، واضح أن المشكلة في طبيعة الحل نفسه، وليس في نوعية اللاعبين أو شخوصهم. ما زال الرئيس محمود عباس يرى في نهج المقاومة والانتفاضة خطراً كبيراً، ويرفضها من حيث المبدأ. لذلك، هو غير مستعد لتجربة حرب أو انتفاضة جديدة، ويريد أن يكون قرار الحرب بيده، ولو لم يكن يملك السيطرة على قوة المقاومة المحاربة، فيما يريد مشعل المشاركة في تقرير تفاصيل الخطوات المقبلة على مستوى التحرك السياسي.
الجديد في ذلك، وأمام تخندق كل من الفريقين في موقعه، هو خطة التحرك السياسي الذي يطرحه الرئيس عباس، والقائمة على أخذ موافقة الولايات المتحدة على قرارٍ يلزم إسرائيل بالانسحاب، ثم عرض ذلك على مجلس الأمن، وإذا اصطدم بالفيتو الأميركي المتوقع، يعرض على الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتصبح دولة فلسطين تحت الاحتلال، ويطلب من الأمم المتحدة وضعها تحت حمايتها. وتتضمن هذه الخطة تهديداً بتسليم مفاتيح السلطة التي يعترف بأنها غير موجودة في ظل الاحتلال الإسرائيلي، لكنها، أيضاً، تتضمن تأجيلاً لأي إجراءاتٍ قد تتخذها باتجاه ملاحقة العدو جنائياً، والانضمام للمنظمات الدولية، إلى ما بعد فشل هذه الخطة التي وضع لها سقف زمني ثلاثة أشهر للتقدم إلى مجلس الأمن، وتسعة أشهر لاستئناف المفاوضات، وثلاث سنوات لتحقيق الانسحاب.
أغلب الظن أن الولايات المتحدة سترفض الخطة تماماً، بدعوى أنها إجراء أحادي، وحتى لا نُتّهم بأننا نأخذ دوماً موقف المعارضة، نقول إننا مع خطة الرئيس، مع تعديلاتٍ نراها ضرورية، تجعلها أساساً صالحاً لتحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام، ودرء خطر خلاف فلسطيني ـ فلسطيني، قد يطيح إنجازات عديدة لشعبنا.
ينبغي أن تحوّل هذه الخطة إلى خطة كفاحية وصدامية مع العدو، تحافظ على منجزات المقاومة، وتبني عليها لصالح الكل الفلسطيني، خصوصاً في ظل انشغال المجتمع الدولي والمنطقة العربية في ما عُرف بالحرب على داعش. هذا يستدعي عدم تأجيل أي إجراءات باتجاه ملاحقة العدو جنائياً، والانضمام إلى كل المنظمات الدولية من دون إبطاء. بل يؤكد هذا الإجراء للعدو وللولايات المتحدة النية الفلسطينية في خوض معركة دحر الاحتلال، وعلى كل المستويات. كذلك، وطالما أن الضفة الغربية تحت الاحتلال، فإن على الجزء الأكبر من القيادة الفلسطينية التوجه نحو غزة، والإقامة فيها، باعتبارها أرضاً فلسطينية محررة، وتعزيز صمودها وقوتها باتجاه مواجهة أي عدوان إسرائيلي جديد. وعند انقضاء الأشهر الثلاثة الأولى، وبعد الفيتو الأميركي المتوقع، فإن على الرئيس محمود عباس، وبدل أن يسلّم مفاتيح السلطة للاحتلال، أن يعلن عن غزة قاعدة لتحرير باقي المناطق الفلسطينية المحتلة.
قد يكون هذا صعباً، ويحتاج خطوات جريئة. لكن، لعله السبيل الوحيد المتاح لإنهاء الانقسام ودحر الاحتلال، بل وإنقاذ حركة فتح وإعادة بناء منظمة التحرير، ويضع خطة فلسطينية، يسير بها التحرك السياسي الدولي، مع تعزيز المقاومة وحمايتها، وحماية النسيج الوطني الفلسطيني، في ظل انشغال المجتمع الدولي بالحرب على داعش، والتي تعني مزيداً من تدمير المنطقة، وإشغالها في حروب جانبية.