الغدر والخيانة من العصر الجاهلي إلى حكم الحزب الوطني
الغدر والخيانة من العصر الجاهلي إلى حكم الحزب الوطني
أ.د/
جابر قميحةلقد كان العصر الجاهلي غاصًا بالمآثم والموبقات: عبادة الأوثان. أكل الميتة. إتيان الفواحش، قطع الأرحام، الإساءة إلى الجار، منطق البغي والقوة، كانت هذه الملامح تمثل قائمة القيم الجاهلية. وهي ـ كما هو واضح ـ قائمة مختلة منحرفة، ألم تر إلى هؤلاء الجاهليين، وهم يفخرون "بفضيلة" البغي والعدوان، يقول عمرو بن كلثوم:
بغاة ظالمين وما ظلمنا ولكنا سنَبْدَأُ ظالِمينّا
وقد يمتد الظلم إلى أقرب الناس على طريقة:
وأَحيانًا على بَكْرٍ أخِينَا إذا مَا لَمْ نَجِدْ إلا أخَانَا
وتسربت رواسب من هذه المفاهيم الغالطة إلى نفوس بعض المسلمين فرددتها في ساعة من ساعات الضعف البشرى والملاحاة العنيفة: فتميم بن مقبل يغضب غضبًا شديدًا؛ لأن النجاشي الشاعر هجاه.. نعم هجاه وهجا قبيلته بقوله:
قبيِّـلةٌ لا يغدرون بذمةٍ ولا يظلمون الناسَ حبَّة خَرْدَلٍ
ولا يردون الماء إلا عشية إذا صدر الوُرَّاد عن كل منهل
تعاف الكلابُ الضارياتُ لحومَهُم وتأكل من عَوف بن كَعْبِ بن نَهْشَلِ
وما سمى العجلان إلا لقولهِم خُذ القعبَ واحلب أيها العبْدُ واعجلِ
وينطلق تميم مستعديًّا عمر بن الخطاب على النجاشي ليؤدبه على هذا الهجاء، ويأتي رد عمر "تصحيحًا" لمفاهيم جاهلية غالطة: يعلق عمر ـ رضي الله عنه ـ على البيت الأول قائلاً: " "ليتني من هؤلاء" وعلى الثاني بقوله: "ذلك أصفى للماء وأقل للزحام" وعلى الثالث بقوله: "كفى ضياعًا بمن تأكل الكلاب لحمه"، ويعلق على الرابع بقوله: "خير القوم أنفعهم لأهله".
***
وكانت لغة الدم ـ كما ألمحنا ـ هي اللغة المنطوقة واللغة المسموعة في الجزيرة العربية، وكانت الحروب تشتعل لأتفه الأسباب، من أجل ناقة.. كحرب البسوس، أو من أجل فرس كحرب داحس والغبراء، حتى أرباب الأديان السماوية في الجزيرة العربية، كانت لغة الدم هي أرفع اللغات صوتًا عندهم: يقول الفخر الرازي في تفسيره لسورة الأخدود "وقع إلى نجران رجل ممن كان علىدين عيسى فدعاهم فأجابوه فصار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير، فخيرهم بين النار واليهودية. فأبوا، فأحرق منهم اثنى عشر ألفًا في الأخاديد، وقيل سبعين ألفًا، وذكر أن طول الأخدود أربعون ذراعًا، وعرضه اثنى عشر ذراعًا".
ومما ينقله التاريخ عن المجتمع الجاهلي وسيادة منطق القوة فيه،أنه إذا قابل الجاهلي آخر معه ظعينة وليس من قبيلته؛ ولا من قبيلة لها معها حلف، تقاتلا، فإذا قهر صاحب الظعينة أخذت منه سبية فاستحلها بذلك الغالب، ولكن الأولاد الذين تكون هذه أمهم يلحقهم العار في مدة حياتهم؛ ولذلك كان من مفاخر الرجل منهم أن تكون أمه حرة نسيبة لا سبية جليبة.
وبجانب الغدر ومطق القوة، والدم، والحروب الدائمة، والعدوان الغاشم كانت هناك أمراض اجتماعية متعددة وعادات قبيحة كثيرة، منها وأد البنات (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (النحل: 58 ـ 59).
وكان هناك أكل السحت، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وعبادة الأصنام، وعبادة الملائكة، والجن، وإنكار البعث، والإيمان بالأزلام، ولعبهم الميسر، وحرصهم على الخمر، وتفننهم في شربها، وافتخارهم بالحرص عليهاومعاقرتها، وإتلاف المال من أجلها على حد قول عنترة:
وإذا شربتُ فأنني مستهلك مَالِي وعرضي وافرٌ لهم يُثْلَمِ
* * *
ولكن هذا المجتمع لم يخل من عددٍ من الفضائل منها : إكرام الضيف، ونصرة المظلوم أحيانًا. ولا ننسى في هذا المقام (حلف الفضول) الذي شهده النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان حلفًا يناصر الضعيف على القوي، والمظلوم على الظالم، وقد قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدتُ في دار عبد الله بن جدعان، حلفًا ما أحب أن لي به حمر النَّـعَم، ولو اُدْعَى به في الإسلام لأجبت".
وهناك صورة خالدة من الوفاء اشتهرت على مدار التاريخ في واقعة حدثت في الجاهلية منسوبة للشاعر السموأل بن عادياء وتتلخص فيما يأتي:
كان السموأل يملك حصنًا في شمال الجزيرة، وقصته بدأت مع ضياع المُلك من امرئ القيس الكندي، فبعد زوال ملك أبيه أحب أن ينتصر له فجمع السلاح، وأودع امرؤ القيس دروعه وأسلحته عند السموأل، لكن الذي حدث أن صاحب الأمانة امرؤالقيس مات، فأرسل ملك كندة يطلب الدروع من السموأل، فرفض أن يعطيه الدروع قائلاً له: إنه لن يدفعها إلا لمستحقها.
فعاود الملك الطلب، وثبت السموأل عند رفضه، مؤكدًا: لا أغدر بذمتي، ولا أخون أمانتي ولا أترك الوفاء المفروض علي.
فرأى ملك كندة أن يحارب الشاعر العنيد، فحاصر جنده حصن السموأل، وصادف أن قبض جيش كندة على ابن السموأل خارج الحصن، فأخذه رهينة، وساوم الملك الكندي الشاعر السموأل أن سلم الدروع وإلا قتلت ابنك، لقد كانت لحظة اختيار صعبة، أيضحي بابنه أم يضحي بكلمته؟
لكن السموأل حسم أمره، وقال: "ما كنت لأخفر ذمامي وأخون عهدي وأبطل وفائي فاصنعْ ما شئت". وشاء الملك أن يذبح ابن السموأل وأبوه ينظر إليه من أعلى الحصن، وعاد ملك كندة خائبًا، نعم لقد قتل الابن أمام والده، لكنه لم يقتل الوفاء والشرف، وصيانة العهد، بل حفر اسم السموأل في التاريخ رمزًا للوفاء،وقد قال الأعشى في السموأل شعرًا جميلاً يمدح فيه إخلاصه ووفاءه، قال:
كنْ السموأل إذْ طاف الهُمام به في جحفلٍ كهزيع الليل جرارِ
فقال غدرٌ وثكل أنت بينهما فاخترْ وما فيهما حظ لمختار
فَشَطُ غير طويلِ ثم قال له أقتل أسيرَكَ إني مانع جاري!
ولعل أقوى فكرة وردت في هذه الأبيات هي أن السموأل دخل ملكوت الوفاء حين منع جاره ـ أي حمى من استجار به - رغم الثمن الباهظ لهذا الوفاء.
إنها قبسات من الفضائل ظهرت في مجتمع الخوف والدم، والغدر، والرعب، وتعد قليلة بالنسبة للرذائل التي سادت هذا المجتمع.
* * *
ونعود إلى عنوان المقال لنقدم المقصود بالغدر والخيانة. فالغدر كما جاء في لسان العرب هي ضد الوفاء، وقيل: الغدر ترك الوفاء. وتقول: غدر إذا نقض العهد.
وقال الراغب الأصفهاني في (المفردات في غريب القرآن): الغدر الإخلال بالشيء وتركه، والغدر يقال لترك العهد، ومنه قيل: فلانٌ غادر. وفي المرجع نفسه: الخيانة والنفاق واحد، إلا أن الخيانة تقال اعتبارًا بالعهد والأمانة، والنفاق يقال اعتبارًا بالدين، ثم يتداخلان فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر. ونقيض الخيانة: الأمانة، يقال خنت فلانًا وخنت أمان فلان، وعلى ذلك قوله تعالى: (لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)الأنفال27 .
وقد حفظ لنا التاريخ من وفاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنكاره الغدر وخيانة الأمانة - الكثير والكثير، من ذلك ما جاء في ابن إسحاق: بلغني أن عبدا أتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وهو محاصِرٌ لبعض حصون خيبر، ومعه غنم كان فيها أجيرًا لرجل من يهود، فقال: يا رسول الله، اعرض علي الإسلام، فعرضه عليه ـ فأسلم ـ وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يحقر أحدًا أن يدعو إلى الإسلام، ويعرضه عليه ـ فلما أسلم قال: يا رسول الله، إني كنت أجيرًا لصاحب هذه الغنم، وهي أمانة عندي، فكيف أصنع بها؟ قال: اضرب في وجوهها، فإنها سترجع إلى ربها ـ أو كما قال ـ فقال الأسود، فأخذ حفنة من الحصى، فرمى بها في وجوهها، وقال: ارجعي إلى صاحبك، فوالله لا أصحبك أبدًا، فخرجت مجتمعة، كأن سائقًا يسوقها، حتى دخلت الحصن ، ثم تقدم إلى ذلك الحصن ليقاتل مع المسلمين، فأصابه حجر فقتله، وما صلى لله صلاة قط، فأتى به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم - ومعه نفر من أصحابه، ثم أعرض عنه، فقالوا: يا رسول الله، لِمَ أعرضت عنه؟ قال: إن معه الآن زوجته من الحور العين.
ولو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صادر هذا القطيع من الأغنام لاعتبر غنيمة حرب، ولكنه أراد أن يكون مثلاً أعلى في الأمانة والبعد عن الغدر.
* * *
ومما يؤسف له أننا نجد العهد الذي نعيش فيه ... عهد حكام الحزب الوطني الذي يأخذ بخناق الشعب، قد استحل لنفسه كل مُحرم، وقدم لموبقاته وآثامه من التبريرات الكثير والكثير، مستعينًا بكتاب المستنقع من مدرسة روز اليوسف والصحف القومية: استهانة بكرامة الشعب واعتداء على الآمنين، وهتك الأعراض في السجون، والتعذيب إلى درجة الإتلاف البدني، ومن أهم سمات هذا العهد، الغدر وكأننا في غابة تحكمها الوحوش الكاسرة.
ونكتفي بخبرٍ واحد نصه ما يأتي:
القصة الكاملة .. لمنع الأستاذ عصام حمبوطة من تقديم أوراق ترشيح الأستاذ طارق حشاد:
ابتكرت أجهزة الأمن المصرية أسلوبًا جديدًا، هو الأول من نوعه على مستوى العالم لتفويت الفرصة على مرشحين ليسوا على هواها للحيلولة دون تقديمهم أوراقهم في انتخابات الشورى التي ستجرى الشهر القادم.
ضباط أمن الدولة ومديرية الأمن بمحافظة البحيرة وضعوا (أقراصًا منومة) في كوب شاي قدموه كواجب ضيافة للمحامي عصام حمبوطة الذي ذهب يوم الخميس 7 / 5 / 2007م لتقديم أوراق ترشيح الأستاذ / طارق حشاد كمرشح لجماعة الإخوان المسلمين عن دائرة دمنهور، ذهب على أثره في غيوبة وفقد وعيه لعدة ساعات، حتى انتهى وقت الترشيح في هذا اليوم، ثم اقتادوه خارج المديرية بعد ذلك، وهو يترنح من أثر المنوم الذي دسته أجهزة الأمن له!!
الأستاذ "عصام حمبوطة" توجه لطبيب أجرى له العديد من التحاليل الطبية التي أكدت تلقيه عقارًا يؤثر على توازنه الجسمي لمدة 48 ساعة، ومنحه تقريرًا طبيًّا وتحليلات للدم تثبت ذلك.
النائب د. أحمد أبو بركة ـ عضو الكتلة البرلمانية للإخوان المسلمين ـ عن دائرة كوم حمادة علق على الواقعة التي حدثت بأنها أحد أنماط إرهاب الدولة والبلطجة السياسية التي مورست بشكل مبتكر، مارس فيه السادة الضباط دور خفافيش الأوكار والبؤر الإجرامية بأن قاموا بإعطاء وكيل المرشح - بلاأخلاق، ولا مراعاة لإنسانيته - عقارًا مؤثرًا على التركيز العصبي والنفسي، مما أفقده وعيه لمدة يومين كاملين، وقد أثبتت التحاليل الطبية ذلك.
وقال أبو بركة : إن الأستاذ عصام لم يتخيل أبدًا أن تصل الخيانة السياسية لهذا الحد، وأن تلجأ الأجهزة الأمنية لهذه الأساليب القذرة، واصفًا ما حدث بأنه جريمة ارتكبت في حق كل مصري، وطالب أبو بركة النائب العام بالتحقيق في الواقعة.
ونقول لهؤلاء الغادرين الظالمين، إنكم ترقصون رقصة الطائر الذبيح، وتدقون جديدًا من المسامير في نعش النهاية. (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ).الرعد 17 .
وأقول لنشامَى الحزب الوطني : تعلموا شيئا مما طاب من أخلاقيات المجتمع الجاهلي , واطمئنوا , فلن أطالبكم بالتحلي ولو بالحد الأدنى من قيم المسلمين الأوائل ؛ فهذا صعب وشاق جدا عليكم , وحتى لا تكرروا اتهامكم لأمثالنا بالظلامية والتخلف والرجعية . وأخيرا أذكركم بقول الشاعر :
اليوم عندك دلُّـها وحديثها وغدا لغيرك كفها والمِعْصمُ
ودولة الحق الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.