مثقف الأمة .. ومثقف الحظيرة !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

أثار مرض الدكتور عبد الوهاب المسيري ؛ أشجانا كثيرة حول موقف المثقف  وموقف السلطة ، فمثقف مثل المسيري ينبغي ألا يتعرض للمهانة من أجل تدبير قيمة علاجه وتكاليف الإقامة في البلد الذي سيعالجه ، وأقول المهانة ؛ لأنه إنسان ينتمي إلى هذا الوطن مثل أكثر من سبعين مليونا يدفعون الضرائب ، ويقومون بواجباتهم تجاه الدولة ، ولهم في الوقت نفسه حق العلاج الذي هو أبسط حقوق الإنسان . والذي صارت بموجبه مصر مؤخرا عضوا في مجلس حقوق الإنسان العالمي !!

السلطة في مصر تمارس التمييز العنصري بين أبنائها ، فهي لا تعترف بغير الأقلية المحدودة التي تتولى تقاليد الحكم ومستلزماته ؛ من حزب حاكم وحيد ، ودعاية عريضة تقتضي ميزانية ضخمة ، تروج له ، وتغطي على أخطائه وخطاياه ، وتذيع اكاذيبه ومفترياته ضد خصومه ومعارضيه.. وهذه الأقلية المحدودة تعتمد على نمط  من المثقفين والكتاب والإعلاميين ، تنطق بلسانها وتدعو لها وتتبتل في محرابها وتهجو كل مخالفيها ، ومؤهلها الأول الرئيس هو العداء للإسلام ، والخصومة لدعاته ، ولو كانوا من أكبر العقول في البلد ، لأن الإسلام هو الحرية ورفض الاستبداد والدعوة إلى العدل وحراسة القيم العليا والمال العام .. ومن ثم نشأ ما يعرف بكتاب السلطة أو كتاب لا ظوغلى ، وبجوارهم ما يعرف بمثقفي الحظيرة ، أي الذين خضعوا لسلطان النظام البوليسي الفاشي ، ودخلوا حظيرته – وفق تعبير الوزير إياه – وهؤلاء بالضرورة ، صاروا جزءا من الأقلية المحدودة التي تحظى بالامتيازات في كل شىء : الثروة والسلطة والشهرة والدعاية والوجاهة .. ثم العلاج المجاني الفوري على نفقة الدولة بطائرات خاصة – في بعض الأحيان – تذهب إلى أي عاصمة في النيا ، ولو كانت في بلاد واق الواق ، مع باقات الورود، والاتصالات الهاتفية للاطمئنان من كبار المسئولين وصغارهم على السواء !

مثقفو الحظيرة إذا ؛ هم الذين يعملون في ظل النظام البوليسي الفاشي ، ويقفون ضد إرادة الأمة ، وضد الحرية ، والعدل والأمل ، ولا يعترفون بالتنوع أو التعدد أوالتسامح في إطار الجماعة الوطنية ، مع أنهم يصدعون رءوسنا ليل نهار بالحديث عن التسامح واحترام الآخر ، ويثرثرون كثيرا عن الحرية والعدل ، ولكنهم في حقيقة الأمر مستبدون أنانيون لا يقصدون غير حريتهم هم ، ومصلحتهم هم ، ويطالبون لأنفسهم بكل الامتيازات التي يجب أن تكون قسمة عادلة بينهم هم ، وليس مع غيرهم من بقية الشعب البائس المسكين !

مثقفو الحظيرة حالة أنانية ساقطة بامتياز ، وخاصة أنهم يضمون ما يعرف باليسار المتأمرك ، أو المارينز العربي ، وخونة المهجر ،وطالبي الرزق بأية وسيلة ،وعلى حساب أية قيمة .. ولذا يجدون استجابة سريعة ومباشرة من النظام البولسي الفاشى لعلاجهم أو تنمية حساباتهم في البنوك ..أما مثقف الأمة ،مثل عبد الوهاب المسيري ، فلا مكان له في دولة النظام البوليسي الفاشي ، لأن هذه الدولة لا تعترف بأمثاله – وهم كثر – حيث يأخذون الثقافة مأخذ الجد ، وهو مفهوم مختلف عن مفهوم مثقفي الحظيرة للثقافة ، فمثقف الأمة يوقن أن الثقافة دفع وعطاء ، وقيمة وليست منفعة . وعبد الوهاب المسيري دفع عمره وماله من أجل أمته .. بحث عن الحقيقة في الماركسية والعالم الغربي ، ولكنه وجدها في ظلال الإسلام وثقافته الإنسانية الراقية ، فانحاز إليها بلا تردد ، وراح ينافح عنها ، ويكشف أكاذيب المرتزقة واليسار المتامرك ومثقفي الحظيرة ، وأبطل مفاهيمهم الماكرة الخادعة ؛ بدءا من الحداثة التي تعني الانقطاع أو القطيعة مع الماضى ( الدين تحديدا ) ، وترتبط بإسقاط القيم النبيلة  لحساب القيم المادية الإرهابية التي تتجعل الغاية فوق الوسيلة . كما كشف عن ارتباطها بالبارود والدمار واستنزاف الشعوب ونهبها ، من قبل الدول الأوربية صانعة الحداثة ( ما يعرف بالاستعمار ) .. وانتهاء بتجميل الوجه القبيح للنظام البوليسي الفاشى تحت مسمى الدولة المدنية !ومع أنه قارب السبعين ( من مواليد 1938م) – أطال الله عمره – فقد خرج إلى الشارع مع زوجه للتظاهر ضد الاستبداد والفاشية والجمهورية الملكية ، وكاد الجلادون يفتكون به دهسا أو دعسا – بمعنى أدق – بالأقدام ! ولكن الله سلم !

لقد أنفق الرجل من ميراثه على إنشاء دائرة المعارف أو الموسوعة التي تتناول الصهيونية واليهودية ، وهو عمل تعجز عنه أجهزة ومؤسسات رسمية ، واستشاط الغزاة النازيون اليهود غضبا في فلسطين المحتلة بسبب هذه الموسوعة التي تكشف زيف دعاواهم وكذب ادعاءاتهم عن فلسطين والقدس والمسجد الأقصى والتاريخ والجغرافيا عموما ، ولقد شاطرتهم بعض الأجهزة الحاكمة في بلادنا هذا الغضب ضمنيا ، وإن لم تعلن ذلك ، ولكنها عبرت عنه بأساليب أخرى مثل التعتيم والتجاهل والإقصاء !!

لو ظل المسيرى ماركسيا ، أو لو لم ينتج الموسوعة ، لكان " نجمك المفضل " في التلفزة والإذاعة والسلطة ، والمؤتمرات ، والندوات ، ومؤسسات النشر الرسمية ، ولكنه تمرد على الماركسية والسلطة جميعا ، وتحدث عن الإسلام – العدو اللدود للنظام الأميركي وأتباعة – وصار منسقا لحركة " كفاية " !

بالطبع فإن إباء لمسيرى دفعه لشكر من تعاطفوا معه ، وأعربوا عن رغبتهم في المساعدة لجمع تكاليف العلاج ، وهذا يحسب له بكل تأكيد ، ويعبر عن عفة نفس ، وهمة عالية ، وكرامة حقيقية لا تتوفر لمثقفي الحظيرة وأشباههم ، الذين تنقلهم الطائرات فورا للعلاج على حساب الكادحين والبسطاء الذين لايجدون شريط أسبرين مجانيا في مستشفيات السلطة ووحداتها الصحية !

ذات يوم كتبت – بمبادرة منى – رسالة في بريد الأهرام – أيام كان مفتوحا للناس جميعا – عن مرض عضال أصاب الكاتب والأديب الإسلامي العظيم نجيب الكيلاني – رحمه الله – وكنت قريبا منه ، وتمنيت لو أن أحدا من المسئولين في السلطة أو الصحة يبادر بعلاجه على نفقة الدولة ، خاصة وأن الرجل أنفق كل مدخراته على الأدوية والتشخيص ، ولكنها كانت صرخة في واد . وفي الوقت نفسه تقريبا ، كانت طائرة تتحرك على حساب الدولة تنقل ممثلا مشهورا – رحمه الله – إلى عاصمة أجنبية للعلاج على نفقة الفقراء البائسين ، وكان المذكور يملك الملايين من عائد أفلامه ومسلسلاته وشركات إنتاجه !

أما نجيب الكيلاني ، فقد تكفلت دولة عربية – تستحق الشكر والامتنان – بعلاجه في أرقي مستشفياتها التخصصية ، ووفرت له ولمرافقيه تذاكر السفر والرعاية اللازمة ، اعترافا بفضله وقيمته اللتين ينكرهما مثقفو الحظيرة من خدام النظام البوليسي الفاشي !

والمفارقة أن هؤلاء الخدام لايوجهون كلمة شكر إلى الدول العربية التي ترعى مثقفينا دون منّ أو أذى ، بل يوجهون – في جليطة مرزولة – إلى هذه الدول سهاما طائشة مسمومة ، بحجة الوطنية !!دون أن يقولوا للنظام الذي ألبسهم البيادة البوليسية ، والبالطو الأصفر إياه ، وجعلهم يمسكون الخيرزانة إياها؛ عيب !! إن الواجب عليك يانظام أن ترعى كل المواطنين ، المجهولين قبل المشهورين ، بدلا من التشفي والانتقام الرخيص من الخصوم ،والإنفاق السفيه على المؤتمرات الحريمي وأشباهها التي لا جدوى منها ، وتتكلف تغطياتها الإعلامية ( بند واحد فقط) الملايين !

عبد الوهاب المسيرى صاحب حق في العلاج بوصفه مواطنا قبل أن يكون مفكرا ، ومثله بقية المصريين ، ولكن الذين يتكلمون عن " المواطنة " ليل نهار ؛ يقصدون الأقلية المستبدة الحاكمة وخدامها من المثقفين وغيرهم .. وهنيئا لمثقفى الحظيرة !