محمود عباس يصرح

د.مصطفى يوسف اللداوي

د.مصطفى يوسف اللداوي *

[email protected]

كثرت في الأونة الأخيرة تصريحات واعترافات رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وهي تصريحاتٌ واعترافاتٌ خطيرة، جاءت بعضها رغماً عنه، ودون قناعةٍ ذاتية منه، وإنما اعترافٌ بالوقائع، وخضوعٌ للواقع، ووصفٌ للحال، بينما صدرت بعض تصريحاته بهتاناً واتهاماً وإدعاءاً وتحريضاً وتشويهاً، ونقلت وسائل الإعلام بعض تصريحاته العامة، بينما نقل بعض المقربين منه بعضها الآخر، خاصةً تلك التي جاءت في الجلسات المغلقة، وبين جمعٍ بسيطٍ يفترض فيه الثقة والأمان، فعبر عما يجول في صدره بحريةٍ ودون تحفظ، وسكت عن كثيرٍ مما نقل على لسانه، وأيد بعضها مؤكداً نسبتها إليه، وهي تصريحاتٌ واعترافات طالت جهاتٍ مختلفة، وملفاتٍ عدة، وقد بدا إزاء بعضها مستفزاً غاضباً ثائراً، وكان يائساً قانطاً محبطاً وهو يتناول قضايا أخرى، بينما ظهر على ملامح وجهه الحقد والكره والغيظ وهو يتناول في حديثه منافسي برنامجه السياسي في الشارع الفلسطيني، ولم يتمكن في أحيانٍ كثيرة من إخفاء الحسرة وخيبة الأمل التي ظهرت بوضوح على وجهه وقد تغضن، واضعاً وجهه بين كفيه حسيراً بائساً، وقد جاءت تصريحاته في أكثر من مكان، وأكثر من زمان، وكرر بعضها أكثر من مرة مؤكداً موقفه منها، ولكنها كثيراً ما سببت الاحباط للشعب الفلسطيني، وعمقت أزمته، وفاقمت في مشاكله الداخلية، وأحدثت ارباكاً وانقساماً بيناً في صفوف الشعب الفلسطيني .

فقد اعترف الرئيس محمود عباس بعقم المفاوضات الفلسطينية مع الجانب الإسرائيلي، وبتعذر الوصول معه إلى إتفاقية سلام، وأكد أن المسؤولين الإسرائيليين قد أجهضوا كل فرص السلام، ولم يبقوا لهم شريكاً فلسطينياً يقوى على تبني خيار السلام معهم، واتهم الحكومة الإسرائيلية بأنها تضع العراقيل أمام عملية المفاوضات، وأن أطرافاً في الحكومة الإسرائيلية لا يؤمنون بالسلام ولا يعملون من أجله، ولكنه رغم ذلك أعلن أنه مستعدٌ للقاء رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في أي مكانٍ وأي زمان، لكن عليه أولاً أن يجمد عمليات الاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية، واتهم السيد محمود عباس إسرائيل بتنصلها وعدم التزامها بتعهداتها السابقة، بينما اعترف باحترام السلطة الفلسطينية لإلتزاماتها تجاه إسرائيل، فهي تعمل بكل صدقٍ وأمانة لتطبيق بنود خارطة الطريق، فلا تسمح بقيام أي أعمال مقاومة ضد إسرائيل، وقد بذلت أجهزتها الأمنية أقصى ما لديها لجمع السلاح من أيدي عناصر المجموعات العسكرية التابعة لمختلف الفصائل الفلسطينية، بما فيها كتائب شهداء الأقصى، وتشهد سجون السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية على الأمانة التي يتحلى بها عناصر الأجهزة الأمنية الفلسطينية، فهم يحتجزون مئات العناصر الذين يشتبه في تورطهم بأعمال عسكرية، أو تمويل مجموعاتٍ أو أنشطة عسكرية، ولا يكاد يبزغ فجر يومٍ جديد إلا وتقوم الأجهزة الأمنية الفلسطينية باعتقال فلسطينيين مناوئين للعملية السلمية، ومؤيدين لاستمرار المقاومة ضد إسرائيل وصولاً إلى تحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية .

واعترف رئيس السلطة الفلسطينية بعجز المجتمع الدولي ومجلس الأمن عن القيام بمسؤولياته، وتردده في لجم إسرائيل، ووضعٍ حدٍ لتجاوزاتها وجرائمها ضد الشعب الفلسطيني، واتهم المجتمع الدولي بأنه يقف موقف المتفرج تجاه الممارسات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، وأنه لا يعمل شيئاً لمنع إسرائيل من التمادي في أعمال الإستيطان ومصادرة الأراضي، والاعتداء على حياة وحرية وممتلكات الفلسطينيين، واتهم المجتمع الدولي بأنه أفقد مجلس الأمن والأمم المتحدة أي مصداقية تجاه شعوب العالم، واعترف بأن المجتمع الدولي وخاصةً الولايات المتحدة يمارسون ضغطاً على الجانب الفلسطيني لتقديم المزيد من التنازلات، في الوقت الذي يسكتون فيه عن الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، واتهم الولايات المتحدة الأمريكية بالتراجع عن وعودها وتعهداتها العديدة بتأييد إعلان دولةٍ فلسطينية مستقلةالفلسطينية .ية باعتقال فلسطينيين مناوئين للعملية السلمية، ومؤيدين لاستمرار ا .

واتهم محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية حركة حماس بأنها تجري حوارات ومفاوضات سرية مع إسرائيل، وأن بعض الدول الأوروبية ترعى هذه الحوارات، وتسهل عقد اللقاءات بين مسؤولين من حركة حماس ومسؤولين إسرائيليين، واتهمها بأنها تقبل بدولةٍ فلسطينية وفق حدودٍ مؤقتة، وعلى جزءٍ من الأرض المحتلة عام 1967، وكان قد اتهم حركة بأنها تخطط للقيام بانقلابٍ آخر ضد السلطة في الضفة الغربية، وأنها تخطط لتصفية واغتيال عددٍ من الشخصيات والقيادات الفلسطينية، وأنها تسعى لاستعادة بنيتها العسكرية في الضفة الغربية لتهدد الاستقرار والهدوء فيها، وذلك لتبرير سياسة القبضة الأمنية التي تعتمدها أجهزته الأمنية في الضفة الغربية ضد حركة حماس، وأعلن رفضه أي محاولة للاتفاق مع حركة حماس، ناسفاً كل فرصة أو بارقةٍ للأمل، وكان قد شدد في مؤتمر صحفي عقده في العاصمة المصرية عقب اجتماعٍ له بالرئيس المصري حسني مبارك على أنه لا حوار مع من يرفض منظمة التحرير الفلسطينية، لأنها الممثل الوحيد والشرعي للشعب الفلسطيني، وكان يقصد بتصريحه أنه لا حوار مع حماس التي لا تعترف بأن منظمة التحرير الفلسطينية بواقعها الحالي بأنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، كما اتهم عباس حركة حماس بأنها غامرت بحياة الشعب الفلسطيني ومصيره، وأنها تسببت في العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة نهاية العام 2008، محاولاً تبرئة إسرائيل من الجرائم الدولية التي أثبتها بحقها تقرير غولدستون، واعتبر أن خيار المقاومة الذي تتبناه حركة حماس مضر بمصالح الشعب الفلسطيني، واصفاً أعمال المقاومة بأنها عبثية، وأن صواريخها ألعاباً نارية للأطفال، كما اتهم قيادات حركة حماس بأنها فرت من أرض المعركة في غزة ولجأت إلى سيناء، وأنها كانت بعيدة عن الخطر الذي لحق بأهل غزة، وكان قد اتهم قادة حماس بأنهم يأوون في غزة عناصر تنتمي إلى تنظيم القاعدة المحظورة دولياً، بل إنها خلقت المناخات المناسبة لتنامي نفوذ تنظيم القاعدة في قطاع غزة .

وكان السيد محمود عباس قد هاجم المحاولات الدولية لرفع الحصار عن قطاع غزة، واستخف بالجهود الشعبية العربية والدولية التي حاولت خرق الحصار المفروض على قطاع غزة، واعتبر أن السفن التي تحمل بعض الأدوية والمعدات الطبية، والمؤن والمساعدات الغذائية بأنها محاولات عبثية لا تنفع، وأنها لعبة سخيفة متكررة، واعتبر أنها محاولات دعاية رخيصة وزائفة، وأنها لن تتمكن من رفع المعاناة عن أهل غزة، ورفض تقديم الشكر والامتنان إلى القائمين على مبادرات السفن الدولية لرفع الحصار، واستخف بجهود المتضامنين الدوليين الذين يخاطرون بحياتهم، ويتكبدون الصعاب من أجل التضامن مع الشعب الفلسطيني، متهماً حركة حماس بأنها السبب في الحصار، وأنها تقود أهل غزة نحو كارثةٍ إنسانية كبيرة، مبرئاً إسرائيل من مسؤوليتها عن الحصار الظالم الذي تفرضه على غزة وأهلها .

كثيرةٌ هي التصرحات الفاقدة للمصداقية والاتزان التي أدلى بها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، والتي اتسمت في أكثرها بالكذب والافتراء على قطاعٍ كبير من الشعب الفلسطيني، وتميزت في كثيرٍ منها بالغوغائية والفوضوية والارتجالية والبذاءة وعدم الحياء، وهاجمت كثيراً خيار المقاومة الذي يؤمن بها شعبنا الفلسطيني، ويعتبرها الخيار الأفضل لتحقيق الأهداف الوطنية للشعب الفلسطيني، وفيها تطاول على قيم الأمة وشهداءها، واستخف بدماءهم وتضحياتهم وعطاءاتهم، وكرس الكثير من معاني الفرقة والانقسام بين أبناء الشعب الفلسطيني، ولكنه رغم الحقائق الدامغة التي لا يستطيع أن ينكرها أحد، والتي أجبرته على الاعتراف بها، والخضوع لقرائنها، والتي أكدت أن الخيارات التي راهن عليها طويلاً خياراتٌ باطلة، وبدائل عاجزة، ولا تستطيع بأي حالٍ أن تحقق أهداف الشعب الفلسطيني، ولا أن تلبي أياً من طموحاته، ومع ذلك فما زال السيد محمود عباس مصراً على مواقفه، متمسكاً بخياراته التفاوضية، ثابتاً على خيار التسوية، مراهناً على استجابة الحكومة الإسرائيلية لمطالبه، وإنقاذه من مأزقه، وانتشاله من الحمأة التي سقط فيها، ومازال يكابر ويرفض الانحياز إلى خيار المقاومة، وهو الخيار الذي أثبت التاريخ والزمان ووقائع الأشياء صوابيته وأهميته، وأنه أقصر طريق، وأبلغ وسيلة لتحقيق الأهداف والوصول إلى الحرية والاستقلال .

                

*كاتبٌ وباحثٌ فلسطيني