تساؤلات على هامش مباراة مصر والجزائر

حسام مقلد *

[email protected]

أسفت وأسف كثيرون مثلي للمشاهد الغريبة والمناظر الصادمة التي نقلتها وسائل الإعلام المختلفة، وعرضتها شبكات التلفزة العالمية مؤخراً عقب مباراة كرة قدم بين مصر والجزائر!! والذي ساءني كثيرا واستاء له الكثيرون هذه العصبية الحمقاء التي أججت مشاعر الغضب والكراهية بشكل هستيري، وهذه الرعونة من قطاع كبير من المتحدثين من الطرفين، وهذا التعصب الأعمى والانفعال الأهوج باسم الوطنية والانتماء الوطني!! والأسف كان أشد عندما خلط بعض العامة والدهماء الجد بالهزل، وتناولوا هذا الحدث التافه السخيف على أنه دفاع عن الكرامة، وتصور البعض أن في الأمر مجد وشرف وفخر، ونسي هؤلاء أو تناسوا أن الأمر مجرد هزل ولعب، كان من المفترض أن يجلب بعض الترفيه والترويح لبعض المواطنين الكادحين المكدودين من محبي هذه اللعبة وهذه الرياضة، ولا يعدو الأمر أكثر من ذلك فلا بطولات، ولا أمجاد، ولا انتصارات... كما يروج بعض المضللين الذين أفسدوا عقول الشباب وصرفوا طاقات معظمهم عن الجد والعمل إلى مثل هذه العصبية السخيفة...!!

وفي الحقيقة هذه المباراة وتداعياتها المؤسفة تثير مجموعة من التساؤلات ينبغي أن نواجه أنفسنا بها في جو من المصارحة والشفافية؛ بغية الإصلاح ونقد الذات لتقويم المسار في هذه الأمة الكبيرة التي نسميها الأمة العربية وتنضوي شعوبها ودولها تحت جامعة الدول العربية، التي ترصد الملايين والمليارات للعمل العربي المشترك!!

 أولا: أين مفهوم الأخوة الإسلامية والعربية؟! هل ما حدث من البلدين الكبيرين (...!!) يعبر عن هذه الأخوة؟! هل نسينا قول الله تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" [الحجرات:10] وقوله سبحانه: "فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا" [آل عمران :103] وقوله عز وجل: "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" [الأنبياء:18]، وأين كل ما يجري ويحدث من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (رواه البخاري ومسلم وغيرهما) وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:"من سره أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه موتته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه" (رواه مسلم وأحمد والنسائي والبيهقي).

1.        ثانياً:لِمَ كل هذه العصبية الجاهلية؟!وعلى أي شيء؟! أمن أجل مباراة كرة قدم يحدث كل هذا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؟! ألم نسمع قول الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن العصبية، ونهيه عنها لأنها منتنة؟!! فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا في غزاة مع رسول الله فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار( أي ضربه من الخلف بيده أو بقدمه أو بسيفه )  فقال المهاجري: ياللمهاجرين!! وقال الأنصاري: ياللأنصار!! فسمع ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "ما بال دعوى الجاهلية؟!" قالوا: رجل من المهاجرين كسع رجلا من الأنصار، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "دعوها فإنها منتنة" ( رواه الترمذي).

2.        ثالثاً:أين كانت هذه الأصوات الهادرة والجموع الحاشدة من الصحفيين والإعلاميين والمسؤولين الرسميين في كلا البلدين العربيين الشقيقين (...!!!) أثناء حرب غزة؟! وأين دورهم الآن وغزة الأبية الصامدة لا تزال محاصرة للعام الثالث على التوالي، وآلاف من أهلها جياع مشردون في العراء رغم قدوم فصل الشتاء، ولا مأوى يؤويهم من البرد القارس؟!

3.        رابعاً:هل زئير أسودنا الهادر في الاستوديوهات المكيفة أثناء التعليق على المباريات هو الذي سيجعلنا أمة قوية متحضرة يهابها الجميع؟!! هل هذا الزئير الهادر هو الذي سيزلزل الأرض تحت أقدام أعدائنا المتربصين بنا؟!

4.        خامساً:نقول: نعم للرياضة التي تبني الأجسام وتوفر جوا من الترفيه والترويح والمنافسة الشريفة التي يسودها الأخلاق الطيبة، ولا وألف لا لتلك الرياضة التي تغيب العقول، وتلهب النفوس، وتجرح المشاعر والأحاسيس، وتهيج الناس، وتصرفهم عن ميدان العمل البنَّاء والكفاح الحقيقي في الحياة، وتضيع الأوقات، وتهدر الطاقات والإمكانيات فيما لا طائل من ورائه، ولا جدوى ترجى منه!! 

5.        سادساً:ما معنى أن يخرج مسؤولون من كلا الدولتين العربيتين الشقيقتين للتحريض ضد بعضهما البعض بطرق مباشرة وغير مباشرة؟! وأي نفع سيجنيه العرب الأشقاء من هذه المهاترات الغريبة؟! ولِمَ سكت الأخوة الأشقاء في الدول الأخرى عن هذا الخبل؟! وما هذا الضياع الذي تعيش فيه أمتنا؟!! أنسينا أن لدينا دولا عربية شقيقة (...!!!) محتلة يعيث فيها المحتلون فسادا ينهبون خيراتها ويستنزفون مواردها ويستذلون شعوبها ويسومونهم سوء العذاب ماديا ومعنويا؟! هل تحررت فلسطين؟! هل حُرِّرَ الأقصى؟! هل حررنا العراق وفككنا أسر بغداد حاضرة الخلافة العباسية؟! هل عاد الصومال دولة موحدة تدب في شرايينه دماء الحياة كغيره من الدول في شتى بقاع الدنيا؟ وهل ...؟! وهل ...؟! وهل....؟!

6.        سابعاً:ثم ما هذا التعاطي المؤسف من بعض شباب الصحوة الإسلامية؟!إن البعض خشي من نُصْحِ الناس بعدم التعصب حتى لا يتهم في وطنيته!! والبعض الآخر اهتم بمتابعة المباراة بكل اهتمام، ومتابعة ما أعقبها من مناكفات ومهاترات وكأنها قضية حقيقية من قضايا الأمة تستحق الاهتمام، وللأسف لم يكن بعض الشباب من أبناء الصحوة الإسلامية على مستوى المسؤولية، أومن الوعي والنضج بحيث يصرف الناس عن هذا العبث، بل أخذته الحمية وراح يخوض في الفتنة ويردد المهاترات الإعلامية المغرضة دون أدنى حرج!

7.        ثامناً:أين دور علماء المسلمين؟! وأين تفاعلهم مع قضايا أمتهم الحياتية التي يعيشونها بالفعل؟! لماذا سكتوا على هذه المهزلة أو هذه الفضيحة ؟! وإلى متى سنظل نرى سجالاتهم النظرية (بل معاركهم أحيانا) في غير معترك الحياة؟! إلى متى سنظل نسمع كلاما في قضايا يفترض أنها واضحة ومعروفة من خلال جهود علماء الأمة وبحوثهم فيها على مدى قرون طويلة؟! ماذا ينتظر علماؤنا الأجلاء (مع كل الحب والاحترام والتقدير والإجلال لهم جميعا على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم ...) لمعايشة الناس مشاكلها وهموما ومشاغلها واهتماماتها ... ؟! ألم يأت الدين لإصلاح دنيا الناس ومعاشهم قبل إصلاح آخرتهم؟! فلمن يترك الشباب والمراهقون ؟! في الحقيقة لم يسمع بوضوح وصراحة سوى فضيلة الشيخ العلامة يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ـ حفظه الله وأطال في عمره على طاعته ونصرة دينه ـ وهو ينصح الجانبين بكل ود وأبوة، ويبين لهم أن هذه فتنة يجب أن لا ينجرا إليها، ويكفي أمتنا ما بها من جراحات نازفة.

8.        تاسعاً:كم من أموال أهدرت في هذا السباق المحموم؟! وكم حدثَ من تعطيل للمصالح والأعمال وتوقيف لعجلة الإنتاج؟! وهل يعقل أن تنبري القنوات والصحف وتحشد وسائل الإعلام المختلفة في الدولتين العربيتين الشقيقتين لتهييج الجماهير وشحنها بالغضب بهذه الطريقة الشاذة البعيدة عن أخلاق وقيم العرب والمسلمين؟! ولمصلحة من نقل محطات إخبارية كبرى في العالم العربي نقل هذه الأحداث المؤسفة في صدر نشراتها الإخبارية الرئيسة؟! لمصلحة من يتم شغل قطاعات واسعة من الشعوب العربية بهذا الهوس المعيب ؟! ثم أليس فقراء البلدين ـ وغيرهما من فقراء العالم العربي والإسلامي ـ أولى بهذه الأموال المهدرة؟!

9.         عاشراً:أليس من الأجدى توجيه طاقات الناس نحو مجالات الحياة الأنفع والأهم؟ ومتى نستفيق من هذا اللهو والعبث؟! وأين ما ينبغي أن يقوم به الحكام والساسة، والعلماء والحكماء، والمربون، وكافة وسائل الإعلام لبناء القيم والأخلاق، وصياغة العقل والشخصية العربية المسلمة المعاصرة وتشكيل وعيها في سياق منظومة متكاملة من العوامل والمؤثرات الحضارية التي تحافظ بها على هويتها وثقافتها وعروبتها وإسلامها ؟!

وأخيرا أتساءل سؤالا عفوياً ربما يبدو ساذجاً: هل نحن في غيبوبة؟ أم نعيش في كوكب آخر؟ أم أننا أبناء أمة أخرى غير الأمة العربية والإسلامية التي تعاني من تخلف تقني حاد ، وتكالب استعماري مروع يعمل بشكل سافر لتمزيق أواصر هذه الأمة وتفتيت مكوناتها؟! إنه في خضم انشغال مصر والجزائر الدولتين العربيتين الكُبريين بسفاهات التعصب الكروي البغيضة كانت السفن الحربية الإسرائيلية تجوب البحر الأبيض المتوسط (ولأول مرة كجزء من حلف الأطلنطي) لتمشيط مياهه بحثا عن الأسلحة، فماذا ستفعل الدولتان العربيتان (مصر والجزائر) اللتان تطلان على البحر المتوسط لحماية أمن شواطئهما ومياههما الإقليمية، وضمان ورود الأسلحة والمعدات المختلفة إليهما ... أخيرٌ لهما أن ينشغلا بأوهام المجد الكروي الزائف أم أن يبحثا مع أشقائهم العرب والمسلمين عن مصادر القوة الحقيقية لهما ولأمتهما لنصون الكرامة العربية والهيبة الإسلامية من الإهانات الكثيرة التي تتوالى على أمتنا من كل حدب وصوب؟!!!

               

     * كاتب إسلامي مصري