هل من حاكم يتمنى ما تمنى الإسكندر

محمد فاروق الإمام

محمد فاروق الإمام

[email protected]

وقف الإسكندر يوماً بقامته المديدة وحوله حرسه وحاشيته المدججين بالدرع والسلاح أمام الفيلسوف ديوجين الجالس بين تلامذته يلقي عليهم دروسه ومواعظه وحكمه، فحجب ضوء الشمس عنه، فالتفت ديوجين إلى الإسكندر وقال: (أرجو أن لا تقف عائقاً بيني وبين ضوء الشمس).. فعلـّق الإسكندر على ذلك الطلب وقال: (لو لم أكن الإسكندر لوددت أن أكون ديوجين).

هل وعي حكام اليوم لمثل هذه الحادثة التي وقعت قبل ثلاثة آلاف سنة، لما طلبه ديوجين وما تمناه الإسكندر؟!

ديوجين كان يملك كامل الحرية فيما يقول ويفكر.. فلم تكن هناك قوانين وأنظمة ومراسيم وقرارات ومحاكم ميدانية واستثنائية وعسكرية وأقبية تحقيق وسجون ومعتقلات ونفي وإبعاد وإقصاء تحول بينه وبين التعبير عما يريد بشفافية وحرية أمام أكبر قائد عرفه التاريخ، وأعظم حاكم دانت له ممالك الشرق والغرب، دون حساب لعواقب أو نتائج أو تداعيات!!

الإسكندر لم تفتنه ما تحت يديه من ممالك وما يملك من سطوة وعز وصولجان وجاه، فلم يكن حوله جوقات من المخبرين والجواسيس والأمن والمباحث والمطبلين والمزمرين والهتافين والمنافقين والوصوليين والطفيليين يفكرون له أو يلقنونه أو ينوبون عنه أو يرفعون إليه التقارير الكاذبة الملفقة، كان إنساناً يفكر كما كان ديوجين يفكر بحرية وشفافية وعقلانية، ويحترم رأي الآخرين ويصيخ السمع لنصائح الصفوة من رجال الأمة وعقلائها بصدر رحب وعقل مفتوح، فتمنى ويا ليت حكام اليوم يتمنون ما تمنى.. تمنى هذا الحاكم العاقل (لو لم يكن الإسكندر أن يكون ديوجين) الحافي القدمين البالي الثياب المليء بالحكمة والموعظة الصادقة ليغرف منها ويتعلم!!

لم يتخذ الإسكندر قراراً بمصادرة فكر ورأي ديوجين بحجة أنه (يوهن من عزيمة الأمة) أو (يحط من قدر الحاكم ومكانته ومنزلته)، ويسوقه إلى التحقيق والمحاكم والأقبية والزنازين والمعتقلات والسجون أو النفي وكان يملك كل ذلك، ولا يكلفه هذا سوى الإشارة لأحد أعوانه فيقتلع ديوجين من بين تلامذته ويلقي به حيث لا يعرف أحد مكانه أو يتجرأ أحد بالسؤال عنه!!

الإسكندر كان باستطاعته فعل ذلك.. ولكن رجاحة عقله وإدراكه وفهمه وقناعته بأن ديوجين وأمثاله هم من تقوم على كواهلهم حضارة الأمة ومجدها وسؤددها ورفعتها وعزتها وقوتها ومنعتها وهيبتها، وتحفظ أمن وسلامة أوطانها، وليست جيوش المطبلين والمزمرين والصداحين والمخبرين والمتملقين والمنافقين والفاسدين، ولا طوابير الأمن وفيالق المباحث وأجهزة التنسط والمراقبة.. فكم روت لنا كتب التاريخ عن دول تساقطت كتساقط الفراشات عند أول لهيب يطالها لأنها ظنت أن في كثرة رجال الأمن وزرع الجواسيس والتنسط والمراقبة والملاحقة والإبعاد والإقصاء والنفي هي من يبقي ديمومية حياتها ويصونها ويحفظها ويحول دون تفككها واندثارها، ولعل آخر مثل لمثل تلك الدول هو الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية التي تفككت وتهاوت لأن بنيانها كان أوهى من بنيان بيت العنكبوت.. قام على القهر والإذلال والعبودية، فحصدت أنظمتها المصير الأسود الذي ساقت نفسها إليه.

فهل نجد في بعض حكام الأمة من يتمنى ما تمنى الإسكندر؟!