سوريا على مفترق طرق
م. حسن الحسن
ماذا يحصل في دمشق؟ الجواب ليس معقداً ولا سرّاًَ، لكن فهمه بحاجة إلى إزالة أطنان الأكاذيب التي تحيط بحقيقة الواقع السياسي الذي يعم المنطقة. وحتى لا نغرق في تفاصيل تلك المتاهات، لا بد من تسجيل نقاط تسلسل الأحداث ضمن سياق مفاهيم سياسية أساسية تحكمها.
فنظام الأسد في سوريا كان أحد أهم بيادق الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط، ويكفي التذكير ببعض الإشارات السريعة على ذلك: دخوله لبنان عام 1976 لضمان المشروع الأميركي فيه، اصطفافه وراء أميركا في حربها على العراق عام 1991، أحد أعمدة أميركا في الحرب على "الإرهاب" بعد 2001، الاعتراف بشرعية كرازيات أميركا في العراق بعد 2003 وضمان حدودها من تسلل المقاتلين، مطالبة النظام السوري على الدوام لأميركا بأن تكون الوسيط والضامن لأية تسوية بينها وبين (إسرائيل)، في حين كانت تطالب الأخيرة بعقد لقاءات واتفاقات فردية مع سوريا ومن غير وسطاء.
ماذ حصل إذن، هل تغير ولاء النظام السوري على الصعيد الدولي، أم هل استقلت سوريا في عهد بشار الابن عن الهيمنة الأميركية!؟ الجواب هو لا هذا ولا ذاك، فالنظام في سوريا لا يتكئ على إرادة داخلية، وليس مرغوبا به خارجياًً، ولا يوجد له مبادئ يدافع عنها سوى استمراره في السلطة بأي ثمن ممكن، ولذلك فإن النظام ليس لديه خطوط حمراء في مدى طواعيته لأميركا، فهي الحاضن الأساسي له، وهو أحد مرتكزاتها في سياستها الإقليمية.
إذن، لعلَّ نظرة أميركا إلى النظام السوري قد تغيرت وباتت تريد الإطاحة به على شاكلة ما حصل مع نظام صدام حسين بعد أن استهلكته؟ والجواب هو أيضا لا، فنظام صدام حسين لم يكن مرتبطاً بالإدارة الأميركية، بل كان خصماً لها، وكان هواه وارتباطه مُحكماً بأوروبا، وهو ما يفسر إصرار أميركا على الإطاحة بنظام صدام، وإصرار أوروبا على معارضتها. وهو ما يفسر تلك الخصومة أيضاً بين نظامي البعث العراقي (صدام)-السوري (الأسد) على مدار عقود، في سياق الصراع الدولي في المنطقة، أوروبا – أميركا.
أما المعادلة التي تشرح ما يحصل، فهي ببساطة استثمار أوروبا (بريطانيا-فرنسا) حادثة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري وما تلاه من أحداث في لبنان وتداعياتها، بغية ضرب النفوذ الأميركي في لبنان، بل واللحاق بها، لزعزعة حجر الزاوية الذي تركن إليه أميركا في المنطقة، أي النظام الأمني القابع في دمشق، ويندرج ذلك الصراع ضمن تصفية الحسابات، والتنافس على المنطقة بين طرفي الأطلنطي، بخاصة أن المشروع الأميركي للشرق الأوسط الكبير قد تعطل بفعل أزمته في العراق، وبدأت القوى الدولية المناوئة لأميركا باستغلال فترة ارتباكها وحرجها في العراق، بالتحرك لهزها في مناطق عديدة، كما هو واقع الحال من قبل روسيا في آسيا الوسطى وأوكرانيا، والتحالف الروسي الصيني في شرق آسيا، وتحرك أوروبا بشكلٍ فاعل في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا.
ويبقى سؤال يطرحه الجميع هو، هل نحن بصدد مشاهدة انهيار النظام السوري؟ والجواب على ذلك هو: إنَّ عراقة بريطانيا وشراسة فرنسا في السياسة الدولية وإصرارهما على العودة بفاعلية إلى اللعبة الدولية وعدم ترك أميركا تستأثر بخيرات الشعوب بمفردها، لهذه الأسباب اندفعت الدولتان إلى استثمار الظرف الراهن والأخطاء المتعاقبة من قبل النظام السوري الذي يتصرف بصلف وعجرفة ويتعامى عن معالجة الأزمات الملحة، كما أنه متكل بشكلٍ تام على ما ترسمه له الإدارة الأميركية التي تتخبط داخلياً وخارجياً في العالم، ما يعني أن النظام السوري وبفعل الطلقات المنتظمة التي تطلقها أوروبا عليه، إعلامياً وسياسياً في النطاق الإقليمي والدولي على سواء، أدى هذا إلى اهتزاز النظام السوري وتشتته وبات أشبه بزورق من ورق يغرق.
ولكن، هل تصمت أميركا عن خسارة قاعدتها المتمثلة بنظام الحكم في سوريا؟ لا، وللتأكيد على ذلك، فهي قد حاولت جهدها للالتفاف على القرارات الدولية التي صدرت بحق نظام دمشق، ومارست ضغوطاً مختلفة على ميليس من طريق كوفي عنان – الغمبري لإجراء تعديلات على تقرير ميليس ولتخفيف حدته قدر الإمكان، ثم إحباطها محاولة توسيع دائرة التحقيق الدولي بشأن قضايا الاغتيال الأخرى في لبنان، ونسفها مشروع المحكمة الدولية، وهي المطالب التي نادى بها ممثل لبنان ورفعها مبعوث فرنسا لدى الأمم المتحدة لمجلس الأمن. وفي نهاية المطاف حاولت أميركا أن تطوي ملف الحريري نهائيا عبر مبادرة الجامعة العربية بإشراف عرابها في المنطقة حسني مبارك وبمبادرة عمرو موسى وزيارات مصطفى اسماعيل مستشار الرئيس السوداني. وهو ما جعل أبواق فرنسا في لبنان تتهجم على عمرو موسى شخصياً وبشكلٍ حاد، ما وأد المحاولة بشكلٍ سريع. ولقد كان واضحاً أن أميركا من خلال المبادارت الآنفة كانت تسعى إلى تمييع التحقيق بشأن الحريري حتى تمنع من تدهور وضع النظام في سوريا على النحو الذي تدهور به في لبنان.
وجاءت تصريحات عبد الحليم خدام لتكون بمثابة رصاصة تطلق على رأس نظام دمشق من قلب فرنسا، ما بعث الحياة من جديد في لجنة التحقيق الدولية فطالبت مباشرة بالتحقيق مع بشار الأسد وفاروق الشرع وعبد الحليم خدام (الذي يملك الكثير ليقوله) وغيرهم. ما يعني أن العواصف على النظام السوري لن تهدأ أوروبيا قبل الإطاحة به، أو بإجراء تسوية بين طرفي الصراع الحقيقيين، أوروبا – أميركا، وذلك على مجمل الملفات العالقة بينهما في المنطقة، وهو ما يصعب وقوعه في المدى المنظور بخاصة مع وجود إدارة أميركية يحكمها بوش ويديرها رامسفيلد-تشيني.
لكن هذا لا يعني أن أميركا قد استنفدت محاولاتها لإنقاذ نظام دمشق، فاللعبة لم تنته بعد، وفي أيدي كل من القطبين الدوليين أوراق كثيرة ستلقى على الطاولة تباعاً، الأمر الذي يجعل الأيام القادمة مثيرة وساخنة. ومن المرجح أن تسعى أميركا للملمة أوضاعها في سوريا من خلال تغيير لشكل النظام من الداخل، ما يؤمن لها استمرار النظام بدون الوجوه المألوفة المستهلكة، تلك التي بدأت تشكل عبئاً عليها، بخاصة أنَّ أميركا ينتظرها الكثير من الملفات الساخنة في المرحلة المقبلة، وليست بحاجة إلى قيادات تثقل كاهلها.
وعليه ستبقى المنطقة ألعوبة بيد الغرب الطامع فيها، وستبقى الأمة ومقدراتها تستعمل وقوداً في الصراع الدولي الذي برز بعد زوال دولة الخلافة واشتدت وتيرته بعد الحرب العالمية الثانية، وما زلنا نشاهده إلى الآن. فمتى تستفيق هذه الأمة! ومتى تدرك أن رسالتها الوحيدة في الحياة هي الإسلام، وأن دولة الخلافة وحدها هي القادرة على تجسيد تلك الرسالة، وأنها المنقذ الوحيد للأمة من دوام استعباد الغرب لها واستمرار عبثه بها وبمقدراتها.