في ذكرى انطلاقتها...إلى أين تمضي

د.عصام محمد علي عدوان

في ذكرى انطلاقتها...

إلى أين تمضي "فتح"؟

د.عصام محمد علي عدوان

[email protected]

تأسست حركة فتح كحالة تمرد، وثورة، على الواقع المرير، والقيود العربية، والظلم العالمي للشعب العربي في فلسطين، ورأى فيها بعض السياسيين أنها حركة (مجانين)، لأنهم (يناطحون السحاب) ويريدون تحقيق المستحيل . وقد وطدت فتح نفسها على أساس هذا التحدي، وانطلقت عسكرياً في مطلع عام 1965 ثم انطلقت ثانية إثر نكبة عام 1967 .

لكنها عندما بدأت تستكشف الآراء والحلول السياسية، لانت عزيمتها، وانتقلت، تدريجياً، من حالة الثورة وتحدي المستحيل، إلى الواقعية السياسية . وكلما تعاطت مع الواقع سياسياً، كلما انحرفت عن خط الثورة والأهداف العليا، حتى أصبح كلّ محرّم في عام 1964 (قبل انطلاقتها)، مقبولاً، ومبرراً، ويجد من "يناضل" من أجله، بعد عام 1974 أو عام 1983.

فمن الدعوة إلى طرد الغزاة المحتلين، إلى الدعوة لدولة ديمقراطية يحصل فيها (الغزاة المحتلون) على حقوق كاملة . ومن تخوين الداعين إلى الواقعية السياسية [مثال : الحبيب بورقيبة سنة 1965] إلى تبني الواقعية السياسية والسخرية من معارضيها . ومن رفض الهيمنة الأردنية وتخوين نظامها، إلى التحالف معه والنداء بكونفدرالية أردنية- فلسطينية . ومن رفضٍ لهيئة الأمم المتحدة وقراراتها لدعمها قيام إسرائيل على أرض العرب في فلسطين، إلى الانخراط في هذه الهيئة والجري وراء قرارات تصدر عنها والاعتداد بهذه القرارات . ومن حالة عداء علني وصريح للولايات المتحدة بسبب دعمها المطلق لإسرائيل، إلى فتح خطوط سرية معها وتقديم خدمات لها مثل حماية سفرائها والتوسط لإطلاق رهائنها. ومن نظرية عسكرية تستخف بالقول أن الحرب مع إسرائيل يجب أن تكون نظامية وحاسمة وخاطفة، وتدعو للعمل على إرهاق إسرائيل من خلال حرب الشعب التي ستطور الأوضاع العربية وصولاً لمنازلة إسرائيل وهزيمتها، إلى الاستخفاف بقدرة الفدائيين على صد الهجوم الإسرائيلي عام 1982 لتبرير الهزيمة، أو بقدرة المقاومة المسلحة اليوم على تحقيق أي إنجاز، وأنه لا مناص من اللجوء إلى الحل السياسي، حيث لم يجدِ الحل العسكري . ومن رفْض قرار 242 لكونه لا يتعلق بالقضية الفلسطينية ولا يعترف بالشعب الفلسطيني، إلى التعاطي معه وقبوله من خلال قبول البيان السوفياتي – الأمريكي المشترك عام 1977 م، والبحث عن صيغ لتعديل القرار ليناسب القضية الفلسطينية، وفي سبيل ذلك قدمت تنازلات من مواقفها ومبادئها، إلى أن اعترفت به صراحة وعلناً عام 1987، وهو الذي يُقرُّ لإسرائيل بأراضي عام 1948 ويمنحها السيادة الكاملة عليها وحقها في الأمن على الأرض المغتصبة . ومن السعي لإقامة دولة عربية في كل فلسطين التاريخية، إلى القبول بدولة نهائية في الضفة الغربية وقطاع غزة (22% من فلسطين) . ومن رفْض كامب ديفيد ومقاطعة النظام المصري الذي وقّعها، إلى التباحث معه حول فرص أن يُدار الحكم الذاتي في الأراضي المحتلة، من قِبل منظمة التحرير، وكسر الطوق العربي المفروض على النظام المصري، بزيارة أبو عمار للقاهرة نهاية عام 1983، وإقرار الحركة بذلك، بل وتوقيع اتفاق أوسلو عام 1993، الذي هو دون كامب ديفيد بمراحل . ومن رفض مشروع المملكة العربية المتحدة (بين الأردن والضفة وغزة) إلى الحديث عن كونفدرالية فلسطينية – أردنية – إسرائيلية، ومن رفض ضمني (وفق سياسة لعم [أي لا ونعم معاً] ) لمشروع حكومة فلسطينية في المنفى، إلى إعلان هذه الحكومة بالفعل في عام 1988 في الجزائر . ومن رفض تجزئة القضية الفلسطينية إلى قضايا متعددة كالقدس، واللاجئين، والحدود، والسيادة، والمياه وغيرها، إلى قبول هذه التجزئة عملياً، بدءاً بمشروع خالد الحسن الذي طُرح عام 1980 وخلا من أي إشارة للقدس أو اللاجئين، وصولاً لاتفاق أوسلو الذي أجّل كل هذه القضايا . وبدلاً من مناورة الأعداء والخصوم، غدت المناورة على الشعب الفلسطيني، وفتْح قنوات اتصال مع الأعداء يتحدثون خلالها بصراحة لافتة للنظر، حتى كشف سقف مطالب القيادة الفلسطينية . ومن التمرد على الحزبيات المنغلقة التي سادت فلسطين عند تأسيس فتح إلى أن تصبح حالة حزبية متشنجة تقدِّم المصالح الفئوية والشخصية على المصلحة العامة للشعب الفلسطيني.

لقد توصل صلاح خلف إلى نتيجة خطيرة – في لحظة "نقد ذاتي"، فقال في كتابه (فلسطيني بلا هوية – ط2 ص 247) : "مضت ثلاثون سنة على خروج الشعب الفلسطيني، وعشرون سنة على تأسيس فتح، ولا بد لي من الاعتراف، وبعمق المرارة، بأن وضعنا اليوم [1978م] هو أسوأ من الوضع الذي دفعنا عام 1958 إلى إنشاء حركتنا . بل إني أخشى حقاً أن يكون لابد من عودٍ على بدء " .

لقد تم التفريط بكل شيء إلا شيئاً واحداً، هو التمثيل الفلسطيني، أو القرار الوطني المستقل، أو الكيانية الفلسطينية، وجميعها مرادفات لمعنى السلطة الفلسطينية . فقد كان الحرص على تصدّر الشعب الفلسطيني، وقيادته من قبل فتح، هو الملهم الأول في كل معاركها وتحالفاتها وسلوكها الداخلي والخارجي . ودفع الشعب الفلسطيني ثمن ذلك غالياً . وهذا لا يلغي نضال وجهاد ودآبة قيادة حركة فتح ومنظمة التحرير، فإن الإصرار على العمل لأجل فلسطين، وتحمّل المشقة وبذل المال والنفس، والتنقل والترحال جريا وراء ما ينفع القضية، وممالأة المتربصين ،والتعرض للقتل والسجن والإبعاد وغير ذلك، لدليل أكيد على صدق النوايا تجاه العمل الوطني لفلسطين من منطلقات وطنية كيانية، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة صحة الأسلوب وصحة المسار ،فذلك أمر آخر .إذ لو كان المسار صحيحا والأسلوب صحيحا ،لتحقق الهدف المرجو، فكيف بنا، والأهداف نفسها تتبدل ولا تتحقق؟!

لقد أضرَّت الوطنية الفلسطينية الضيقة ، والحرص على الكيانية الفلسطينية ، من غير قصد، بالقضية الفلسطينية،  فاستفردت إسرائيل بشعب فلسطين ،وطمعت في اعتراف الفلسطينيين أصحاب الأرض بها، ولم تكن المنطقة العربية التي وقعت تحت الاستعمار الأوروبي، ودارت في فلكه، مؤهلة ولا قادرة، ولا جادة في الدفاع عن الحق العربي في فلسطين، أو المضي قدما في التصدي لإسرائيل، وقد ظهر ذلك جليا في محاولات العديد من الزعماء العرب، القبول بإسرائيل والتعايش معها. وما لم يشعر الفرد العربي بعقيدة، يؤمن بها كمال الإيمان، بأن إسرائيل عدو تجب محاربته، وبأن أرض فلسطين مسئولية عربية وإسلامية، فإن فلسطين لن تتحرر. وهذا الشعور بحاجة إلى تربية، وإعادة تأهيل للشخصية العربية على أسس عقائدية، كما قال ابن خلدون بأن العرب ليسوا شيئا بدون الدين، وكما قال المفكر الجزائري مالك بن نبي بأن تفاعل الإنسان بالدين ضرورة لنشوء الحضارات، بل كما قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه:" نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره ،أذلنا الله".

فلا مناص، أن تتربى النفس العربية على الإسلام، فهو الذي يمنحها الشعور بالقدرة على الصبر والتحدي والمطالبة بالحقوق، والتمييز بين الحق والباطل . ومن هنا نفهم المنزلق الفلسطيني الذي وقعت فيه فتح، فقد جنبت الدين في المعركة، وهمشت القومية إلى حد كبير، ولم توفق في تحقيق الوحدة الوطنية أيضا، لأسباب ذاتية، وأخرى غير خاضعة لحسابات فتح. فكانت النتيجة، الدخول في عد تنازلي للقضية الفلسطينية، أوصلها إلى القبول بأي شيء.

وقد جربت فتح، وفصائل منظمة التحرير ، تقليد كافة تجارب التحرر المعاصرة، ولم تحاول مرة، أن تقلد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، الذي تدين به وبدينه، في كيفية عودته لمكة فاتحا بعدما أُخرج منها، وفي كيفية قيادته للأمة العربية.فإن قيل أن ذلك كان في الماضي البعيد، فبالمقابل، إن تجارب حركات التحرر المعاصرة، هي ليست من واقع أمتنا العربية، وغريبة عنا في مبادئها ومنطلقاتها وبيئاتها، وفي الموقف الأيدلوجي للمستعمِر منها، وهذه بتلك، ويكون الأوْلى الانبعاث من تاريخ وحضارة أمتنا،والتجربة خير دليل على الإمكان .

لقد همشت فتح، الدين كمؤثر في النفس البشرية ،ومحرِّض على التضحية والفداء،واستعارت أمثلة وتجارب وأفكاراً من الفكر الماركسي واللينيني والماوي والتروستي، ومن دروس جيفارا ،وهوشي منه،وفانون،ودرَّست ذلك في دوراتها السياسية وفي مخيمات الأشبال ،وحفظوه عن ظهر قلب .وهو لا ينسجم وطبيعة الأرض المقدسة التي تضم في جنباتها المسجد الأقصى المبارك ، مأوى أفئدة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ،فقد خلت أدبيات الحركة وندواتها ومهرجاناتها ودوراتها ومخيماتها الصيفية ودروسها للأشبال والفتيان من هذا الحس النابع من أرض الإسراء والمعراج والمتجانس معها، وعوضت ذلك بالفكر الاشتراكي والشيوعي، والعلماني حتى اختلت الموازين ، إلى أن قال صلاح خلف في خطابه في ذكرى الشهداء في بيروت في 22/1/1978 :"نحن لا نقبل بفلسطين بديلا في السماء قطعة في جنة الفردوس" فهل كانت هذه هي الوطنية التي ستعيد فلسطين؟!

إن المسار الذي انحرف بفتح عن أهدافها ومنطلقاتها الأولى منذ عام 1974 على الأقل، قد أوصلها إلى الاعتراف بإسرائيل وتوقيع اتفاق أوسلو عام 1993م متجاوزة كل المحرمات التي قاتلت دونها، ومتجاوزة كل التضحيات التي بذلها شهداؤها وجرحاها وأسراها، والتي قدمها أصحابها رخيصة في سبيل تحرير فلسطين وتدمير الكيان الصهيوني. وأصبحت فتح اليوم على مفترق طرق جد خطير، وهي مدعوّة اليوم للاختيار؛ فإما تكمل مسلسل التنازلات ومسار الانحراف عن المنطلقات فتبيع مجدها لقوى المقاومة التي ورثت عن فتح مبدأ الكفاح المسلح حتى تحرير كامل التراب الفلسطيني، وهي قوى منافسة بقوة لفتح، وإما تقف وقفة تأمل وتقييم ومراجعة، ومن ثمَّ تصحِّح المسار قبل أن يطويها التاريخ كما طوى مَن قبلها، {وتلك الأيام نداولها بين الناس}، فسُنّة الله ماضية: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}.

ولئن كان لا بد من عوْد على بدء كما قال أبو إياد نظريا، فإنه لا بد من عوْد على بدء عمليا، كما حاول أبو جهاد إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، حيث وجد الظرف الملائم لتطبيق مفاهيم حرب التحرير الشعبية التي لطالما نادت بها فتح في بداياتها غير أن الظروف آنذاك لم تواتها ، فانحرفت بها الظروف عن تلك المفاهيم، فاستدرك أبو جهاد الأمر وأوْلى اهتمامه بتلك الانتفاضة فبادرته أيدي العدو بالاغتيال لإفشال مراده، إلا أن انتفاضة الأقصى عام 2000 قد وفرت فرصة جديدة أمام فتح للعودة إلى المنطلقات ومفاهيم حرب التحرير الشعبية، ومفاهيم الوحدة الوطنية على قاعدة : اللقاء فوق أرض المعركة، وغدت ظروف الأرض المحتلة أكثر ملاءمة للثورة من أي وقت مضي، فهلاّ اغتنمت فتح الفرصة؟!