أشعب الطماع وأغلبية الحزب الوطني
أشعب الطماع وأغلبية الحزب الوطني
أ.د/
جابر قميحةمن السهل أن يكذب الإنسان علي الآخرين, وقد يملك من القدرات العقلية والنفسية - والتمثيلية أحيانًا - ما يجعلهم يصدقون أكاذيبه وافتراءاته. ولكن هل يستطيع الإنسان أن يكذب علي نفسه, ويدفعها إلي الإيمان بأن ما قال وادعي هو عين الصدق والصواب?? استميحك عذرًا - يا عزيزي القارئ أن نرجئ الإجابة دقائق معدودة نعيشها مع شخصية عجيبة, هي شخصية "أشعب الطماع ".
أشعب أمير الطفيليين
هو شخصية حقيقية, اسمه أشعب بن جبير, عاش بالمدينة المنورة في القرن الأول الهجري, وتوفي سنة : 155 هـ - 771م. واشتهر بطمعه, وحبه للطعام , ونهمه وشراهته , وطموحاته التي تتجاوز حدود العقل, وحكي عنه مئات من القصص كلها تدور حول صفاته التي أشرت إليها: فسئل مرة: «ما بلغ من طمعك?» قال: بلغ من طمعي أنني ما علمت أن فتاة ستزف في الليل إلي زوجها إلا اغتسلت, وتعطرت, ولبست أغلي ملابسي, ولزمت بيتي طمعًا في أن تكون العروس لي زوجة إذا دب الخلاف, ولم يتم زواج .
وحكوا أن مجموعة من الأطفال أخذوا يعاكسونه ويعبثون به في الشارع, فأراد أن يتخلص منهم, فأشار إلي أحد البيوت, وقال لهم في هذا البيت وليمة, يقصدها من يشاء من الرجال والأطفال, فهرعوا إلي البيت ليحظوا بالوليمة المزعومة, وبذلك استراح «اشعب» من مضايقتهم, ولكنه بعد قليل حدّث نفسه قائلاً:.. ألا يحتمل أن يكون في البيت وليمة حقيقية? واستدار, وانطلق إلي البيت لإدراك الوليمة التي لا وجود لها..
إننا أمام رجل يعيش تحت مظلة من «الأوهام», يقوم هو بصنعها ذاتيًا, ويعيش عليها, ولا مانع في أن يكذب علي الآخرين, وبالإيجاء الذاتي القوي يصدق نفسه, ويعجب لهؤلاء الذين لا يصدقونه.
وحزب الأغلبية!!
تذكرت هذه الشخصية الغريبة, وما يروي عنها, وأنا أري عتاولة «الحزب الوطني» يصرون – ومازالوا- علي أنهم حزب الأغلبية, وكأنها بديهية تماثل الحقائق الكونية والعلمية التي لا تحتمل النقاش والتكذيب, كقولنا: الشمس من الشرق تشرق وفي الغرب تغرب. والخط المستقيم هو أقصر الخطوط التي تصل بين نقطتين.
وهذا الوصف الوهمي «حزب الأغلبية» ليس جديدًا فقد أطلقه رجال «الميمونة» علي كل تشكيل من تشكيلاتهم: «هيئة التحرير» , الاتحاد القومي, الاتحاد الاشتراكي, حزب مصر - ثم الحزب الوطني . ولكن الجديد هو الإلحاح الشديد, والمتكرر لهذا «التوصيف», وخصوصًا بعد المؤتمر الأخير للحزب الوطني.
السادات زعيم الأغلبية!
"...وأنا - بصفتي زعيم الأغلبية- رحت زرت إبراهيم شكري في بيته بشربين , بصفته زعيم المعارضة " . لم أملك نفسي من الضحك, وأنا أري السادات في جلبابه البلدي, وعباءته الفاخرة, يوجه هذه العبارة لهمت مصطفي, في واحد من اللقاءات السنوية التي كانت تعقد كل عام مرة , بمناسبة ذكري ميلاد السادات في بيته ب «ميت أبي الكوم» وكنت أسائل نفسي: من الذي أعطي هذا الرجل الحق في أن يخلع علي نفسه هذا الوصف? إنه «التوهم» الذي تحول إلي وهم عميق متجذر, هذا الوهم الذي زين له أن يقول لهمت مصطفي في واحد من هذه اللقاءات: «أنا لما عملت ثورة 52.. و... و..» ومرة أخري «أنا لما عملت الإخوان المسلمين مع الشيخ حسن البنا.. شوفوا بقي التلمساني ده كان فين?»... ومرة قال مهددًا متوعدًا في خطاب عام... «وقد أضطر إلي عمل ثورة يوليو من تاني".. وعلق رجل ظريف علي عبارة السادات بقوله"... الله!! هو السادات فتح مصنع ثورات - ولاّ إيه?.."
من حزب مصر إلي الوطني
وكان السادات وحواريوه يصفون حزب مصر بأنه «حزب الأغلبية» .. فلما أعلن السادات - فجأة - ميلاد حزب جديد هو الحزب الوطني لم يعلن عن برنامجه, انتقل أعضاء ونواب حزب مصر إلي الحزب الجديد, واكتسب في يوم وليلة وصف «حزب الأغلبية» وهذا ما لا يستقيم عقلاً إذ كيف ينتقل وصف «الأغلبية» من حزب إلي حزب في ليلة واحدة دون الرجوع إلي الشعب, والشعب وحده هو الذي يملك عمليًا حق منح هذا الوصف للحزب الذي يرجح كفته?!
التوهم. . والوهم. . والإيهام
فكبار رجال الحزب الوطني وقادته عاشوا نهب «عملية نفسية» من حلقات ثلاث متتابعة هي : التوهم, فالوهم, فالإيهام . فهم - كأشعب الطماع أمير الطفيليين - «توهموا» أنهم يمثلون الأغلبية, ثم تحول هذا التوهم إلي «وهم» تركز في أعماقهم, ثم أخذ هذا الوهم صورة «الإيهام» - وهو عملية غيرية - أي محاولة إقناع الآخرين بأن تشكيلهم الحزبي صاحب أغلبية, ويمثل قادته الأغلبية.
ونتساءل : إذا كان هؤلاء أصحاب أغلبية, فأين مكانهم في النقابات المهنية كنقابة الأطباء, ونقابة المحامين, ونقابة الصيادلة, ونقابة المهندسين, وأندية أعضاء هيئات التدريس, وغيرها...?
وأين مكان هؤلاء في الشارع المصري ? وأين مكان هؤلاء في اتحادات الطلاب لو أجريت الانتخابات بنزاهة? ولكن الواقع يقول إن ترشيح الطلاب في هذه الاتحادات أصبح مسألة تخضع ابتداء لإرادة الأمن. والله يعلم أنه لو توافرت حرية الترشيح, وحرية التصويت لفاز طلاب التيار الإسلامي فوزًا مبينًا.
أما الانتخابات العامة التي تتم - كما يقال - بإشراف القضاء فهذا ادعاء لا وجود له في الواقع, والصحيح أن نقول إنها تتم «بحضور» القضاة لا «إشرافهم» ... القاضي يأخذ مقعده في اللجنة بين حيطان أربعة, أما التوجيه الفعلي فلرجال الأمن خارج اللجان: يدخلون من يشاءون, ويمنعون من يشاءون وهذه الحقيقة المرة يعرفها الصغير والكبير في شعبنا المطحون المسكين. ولو كان هناك إشراف قضائي حقيقي, دون ضغوط أو إرهاب سلطوي, فإني علي يقين أن «الحزب الوطني» لن يحصد أكثر من 5% من المقاعد. ولن أتحدث عن الانتخابات الأخيرة ؛ فقد كانت مأساة تصم الحزب الوطني ورجال الأمن بالإجرام والتزويروالسقوط.
والأغلبية الصامتة
ومع ذلك نجد كاتبًا «فحلا» هو إبراهيم سعده يصر علي أن التيار الإسلامي يمثله في النقابات «قلة ناشطة» أما رجال الحزب الوطني, ومن يسيرون علي دربهم فهم أغلبية... أغلبية حقيقية, ولكنها «أغلبية صامتة» أي مفرطة مقصرة في مزاولة حقوقها. وأقول حتي لوصح هذا - وهو غير صحيح - تبقي «القلة الناشطة» أغلبية حقيقية . . لأن الأغلبية العادية «الصامتة» المفرطة, حضورها كغيابها, ووجودها كعدمها, فالناس يكثرون بالفضل والعمل , ويقلون بالتقصير والتخلف, وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله. ويروي لنا التاريخ أن أحد المسلمين قال - لما رأي جيش الروم لا يقل عن عشرة أضعاف جيش المسلمين «ما أكثر الروم, وأقل المسلمين!!» فصرخ خالد بن الوليد: لا بل قل : ما أكثر المسلمين وأقل الروم, فإن الناس يكثرون بالنصر, ويقلون بالهزيمة.