البحث عن قضية

صلاح حميدة

[email protected]

أثارت الحمى والعصبية والعداء والشغب، أو لنقل المعركة الحامية بين جماهير المنتخبين المصري والجزائري عاصفة من التحليلات لواقع الحال العربي، ورأى العديد من المحللين بأن ما جرى ما هو إلا تصرفات سلبية تعبر عن حالة القطيع وسوقه لقشور القضايا الأمة، بينما رأى غيرهم أن ما يجري هو تعبير حقيقي عن تعصّب محمود ووطنية صادقة وانتماء واضح لشعوب تتوق للنصر وتسعى له، ورأوا أن ما جرى ما هو إلا حالة طبيعية، شابتها بعض الشوائب المرفوضة.

قد يصدق المرء التوصيفات السابقة لحالة الهياج الشعبي المدعومة من الإعلام الوطني في تلك الدول، جزئياً أو كلياً، بدرجة التصاقه بالحدث، أو لأسباب خاصة، ولكن من المؤكد أن هذه الظاهرة ليست بدعاً، ولكنها جزء من كل متكامل لحالة عامة تجتاح المجتمعات العربية، وجمهور الشباب بشكل خاص، ومن الجنسين، كما أن هذه الحالة لا تتعلق بالرياضة المحلية فقط، ولا برياضة كرة القدم فقط، بل تعدتها لتصل لقضايا تتعلق بالمسلسلات والأفلام والعادات والألبسة والكماليات، وأساليب وأنواع الأكل وغيرها من القضايا التي تغزو المجتمعات العربية، بلا مقاومة حقيقية.

فمنذ فترة غزت الأوساط الشبابية والجماهيرية العربية حمى المسلسلات المدبلجة، مرة من أمريكا اللاتينية، ومرة من تركيا، ثم غزتنا حمى ريال مدريد وبرشلونة، وأصبحنا نرفع أعلامهما في كل مكان، وأينما جلست تسمع أخبار الدوري الاسباني، وأصبح شبابنا يحفظون أخبار وأسماء لاعبي الفريقين أكثر من معرفتهم بشؤون وأخبار وأسماء قادة وساسة عرب ومسلمين.

إذا لماذا أصبحت قضايا الآخرين هي قضايانا؟ ولا نعير اهتماماً لقضايانا التي تمس حاضرنا ومستقبلنا، و قوت يومنا ومعاشنا وحتى مماتنا؟ ولماذا نتحارب ونتخاصم على لعبة كرة قدم؟ ولماذا ونتقاتل ونتشاتم بسبب لعبة كرة قدم في إسبانيا، ولا نهتم لمقتل وحصار ودمار شعوب عربية شقيقة، أو ربما إخواناً لنا من نفس الشعب؟.

التفسير المنطقي لكل هذه التصرفات الغريبة، هو الهروب من مواجهة معضلة متشعبة ومتجذرة في المجتمعات العربية، وهذا الهروب ناتج عن شعور عميق بالعجز عن تغيير الواقع الذي تحياه هذه الشعوب، ونوع من الاستسلام للواقع، بل التعايش معه، وأحيانا الانسياق وفق رغباته.

فالمواطن العربي، يعيش حالة مركبة من المآسي، بطالة متفشية في الدول العربية قاطبة، وحتى تلك التي لا تعاني من البطالة، تجلب عمالة غير عربية للعمل فيها، والمواطن العربي يعيش في دول فيها معدلات عالية جداً من الفساد المتفشي في أغلب أركانها، ويعيش وضعاً من انعدام تكافؤ الفرص، بل انعدام الفرص نفسها في الكثير من الأحيان، والمواطن العربي يعيش حالة من القمع الاجتماعي والأسري والسياسي، التي عز نظيرها في الكثير من دول العالم، فهو ممنوع من التعبير عن نفسه في أغلب الأحيان في الأسرة والقبيلة والمؤسسة والمدرسة والجامعة والمجتمع، وممنوع أن يكون رأيه إلا من ضمن قطيع المطبلين والمزمرين لرب الأسرة أو القبيلة أو مدير المدرسة أو المؤسسة، وممنوع أن يعبر عن موقف سياسي أو مطلبي، إلا بما يتوافق مع رغبات الساسة ورجال الحل والربط في المجتمع والدولة، فإرادته يجب أن تكون تعبيراً عن إرادتهم، ورأيه يجب أن يكون تعبير عن رأيهم، إذا رأى رأوا، وإذا قال قالوا، وإذا فكر فكروا، وفي هذا الصدد قصة طريفة عن مسؤول عربي كان في اجتماع موسع مع مجموعة من رؤساء مؤسسات مجتمع مدني تختص بالنشاط الشبابي، وخلال الاجتماع لم يتوقف المسؤول عن شرح رؤيته، ولا أحد يجرؤ على الكلام، فبادر أحد الموجودين بالقول:- ( أنا أفكّر) فقال له المسؤول العربي:- ( من قال لك ان تفكر؟)

فحتى التفكير ممنوع إلا بإذن من المسؤولين، وحسب ما يريدون فقط؟!.

كما أن المواطن العربي محظور عليه أن ينخرط في أي نشاطات للتفريغ عن الطاقات التي يحملها إلا في مجالات تسمح بها الانظمة العربية، فقائمة الممنوعات معروفة للمواطن العربي، السياسة والاقتصاد والمطالب والحقوق والتعبير عن الذات، وهذه من الموبقات التي تتحرك عصا الأنظمة مباشرة لقمعها وضربها بشدة حتى يكون المضروب والمقموع عبرة لغيره، وهذه السياسة لا تحتاج لكثير تدليل.

أما المسموح في عرف الأنظمة العربية، فهو الانطلاق إلا سياسة هروب وتفريغ في قضايا هامشية، لا تمت لما تريده الشعوب بصلة، وتشجيعهم على ذلك، فالمواطن مسموح له بالتفريغ في قضايا غرائزية، فحريته في إقامة العلاقات الغير مشروعة محفوظة، وله الحق بالترفيه المحرم، وشرب الخمور والمسكرات، وله الحرية بالتحوصل حول العائلة والقبيلة والطائفة، وله الحق بالتعصب المناطقي، وله الحق باستيراد ثقافات الآخرين وأفكارهم من مسلسلات وأفلام أحيانا لا تعرف لها معنى سوى عد الحلقات واختلاق الأحداث، وفي بلدانها لا يكون لها أي قيمة فنية، وقد لا تحظى بنسب مشاهدة حقيقية، ومن المسموح للعربي أن يتعصب ويقتتل من أجل نادي برشلونة أو ريال مدريد، ومن المسموح له رفع أعلامهما، ولكن من الممنوع عليه التحزب في حزب سياسي معين ورفع شعاره، ومن المسموح له أن يخوض معركة حامية الوطيس ضد شقيقه العربي من أجل جلدة منفوخة، وأن يعتبر رشقه له بحجر أو حرق علم بلاده بطولة البطولات، أما ان يخرج في مسيرة تضامنية مع شقيق آخر يقتل ويجوّع على مدار الساعة فهذه جريمة ما بعدها جريمة، تستحق السجن والتعذيب، وربما القتل.

إذاً المواطن العربي يلجأ للهروب من القضايا الرئيسية والجوهرية التي تمس كل جوانب حياته اليومية، بل تمس حاضره ومستقبله بأكمله، ويكون سبب هذا الهروب هو حالة القمع الشديد الذي يتعرض له هذا المواطن إذا قرر التدخل والاحتجاج والتجنّد لهذه القضايا الجوهرية، وحالة الهروب هذه تسعى للتفريغ في قضايا هامشية داخلية أو بينية أو حتى خارجية، هروباً من حالة العجز التي يعيشها هؤلاء الناس، وبحثاً عن قضية يقاتلون من أجلها، أما ما يستحق القتال من أجله، فممنوعون، أو عاجزون أو ربما هناك من لا يريد أن يخوض الصراع، ولكن في المحصلة، إذا استمرت الشعوب العربية في السير بنفس الاتجاه من فقدان البوصلة وبنفس الوتيرة فقد نعاير مستقبلاً بأننا أصبحنا أسوأ من جمهوريات الموز.