المتسلِّقون 3
د. عبد الله السوري
تسلق الجبال،رياضة محمودة، تنمي البدن والإرادة والصبر،أما تسلق شخص ما لأسرة أو جماعة أو قبيلة أوطائفة أو حزب معين فيصعد على أكتاف البشر، ويبني من جماجمهم قصوراً لنفسه وأولاده، فهو جريمة في غاية الخسة والرذيلة ...
ومازلنا مع المتسلق جمال عبد الناصر الذي تسلق حركة الإخوان المسلمين حتى صار رئيساً لمصر، ثم انقلب عليهم ونكل بهم وأذاقهم صنوف العذاب، لأنه جيء به من أجل القضاء عليهم ...
جاء في كتاب لعبة الأمم لمايلز كوبلاند ( 80-86) : ((خلال الفترة التي امتدت حتى (1952) انهمك موظفو الخارجية ( الأميركية ) في البحث عن ضم أحد الحكام العرب إلى طاولة اللعب ....وفي أوائل (1952) كان قرار اللجنة أن تكون مصر أول الخطوات الجديدة. وفي أيار تأكد ( روزفلت ) أن الجيش وحده هو القادر على مواجهة الموقف المتدهور في مصر(1)، وإقامة حكم يستطيع الغرب أن يقيم معه علاقات ود وتفاهم )).
وكلنا يعرف البقية عندما تستتلق عبد الناصر حركة الإخوان المسلمين كما ذكرت في الموضوع السـابق، وقام بتبديل مصطلح ( الضباط الإخوان ) ب ( الضباط الأحرار ) وبعد تفـرده بالحكم سحق الإخــوان المســلمين بعد أن تســلق على أكتافهم ...
وفي هذه الحلقة سنرى كيف تسلق عبد الناصر على أكتاف سيد قطب يرحمه الله ..
وسنعود إلى كتاب صلاح الخالدي ( سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد ) ص 295 :
سـيد قطب ورجال الثورة :
قصة سيد قطب مع رجال الثورة قصة عجيبة، تبدأ بجهود سيد الإصلاحية قبل قيام الثورة، ثم اتصال بعض ضباط الثورة به قبل قيامها،وتتلمذ ضباطها على كتبه وفكره، ثم التنسيق بينه وبينهم بعد قيامها، وكيف أنهم كلفوه ببعض الأعمال الإصلاحية، وكيف كانوا يشيدون به ويثنون عليه، ثم كيف انتهت قصته معهم بالانفصال التام والقطيعة التامة، وانحيازه الكامل إلى الإخوان المسلمين، ليجري له ماجرى للإخوان على يدي عبد الناصر، ثم إعدام عبد الناصر له بعد ذلك ..
جهـود سيد قطب في التمهيد للثورة :
اتجه سيد بعد عودته من أمريكا (1950) إلى الفكر الإسلامي والعمل الإسلامي العام، وصار يكتب المقالات وينشرها في الصحف والمجلات يقول سيد في تقريره الذي قدمه للمحققين عام (1965) : (( واستغرقت عام 1951 في صراع شديد بالقلم والخطابة ضد الأوضاع الملكية الفاسدة والإقطاع والرأسمالية وأصدرت كتابين : معركة الإسلام والرأسمالية، والسلام العالمي والإسلام ...
تـــأثــر ضــباط الجيــش بســيد :
من أوائل كتبه التي تداولها الضباط الأحرار ( العدالة الاجتماعية في الإسلام )، وقد شبه بعضهم سيد قطب بالرجل الفرنسي الشهير ( ميرابو) فأطلقوا على سيد ( ميرابو الثورة المصرية ) .
وكان يأتي إلى منزل سيد قطب في حلوان زعماء الضباط يستشيرونه في الإعداد للثورة، ويدرسون معه وسائل نجاحها . ويروي ( سليمان فياض ) عن زيارته لسيد في بيته في حلوان بعد قيام الثورة ويقول :
سألته عن رأيه في هذه الثورة . فابتسم وقال لي : هنا تحت هذه الشجرة كان الضباط الأحرار يعقدون اجتماعاتهم معي في فترة التمهيد للثورة، ثم دخل سيد البيت وعاد يحمل مظروفاً أخرج منه صوراً وأخذ يريها لي واحدة واحدة وكان هو في كل صورة، وكانت صوراً ليلية أخذت في ضوء ( الفلاش ) وفي كل صورة كان هؤلاء الضباط الأحرار، وهو بينهم أبداً واسطة العقد !! ولما رددت له آخر صورة قلت :
لا أرى بينهم محمد نجيب ؟ قال : هذا جاءوا به واجهة للثورة، الرتبة العسكرية لها حساب، ثم أشار إلى صورة عبد الناصر وقال : هذا هو قائد الثورة الحقيقي، يتوارى الآن خلف نجيب، وغداُ سيكون له شأن آخر !!
قلت له : أراض أنت عن هذه الثورة ؟ قال : لا أجد في تطور أمورها مايريح ! فهؤلاء الأمريكان يحاولون احتواءها بدلاً من الانجليز، أتفهم ما أعنيه .
ويقول الضابط ( محمود العزب ) : إن رائدنا وأستاذنا سيد قطب هو ( أبو الثورة ) وأبو الثوار، وتواضعه يزيدنا به تعلقاً وإكباراً له . ويتابع محمود العزب : قبيل الثورة بأيام تلقينا أمراً من الأستاذ سيد قطب بأن نكون على استعداد وكنت على رأس تنظيم الإخوان المسلمين في بور سعيد، ولما تلقيت الأمر حضرت إلى القاهرة ومضيت إلى منزل سيد قطب ( 19/يوليو /1952) وكان لديه بعض قادة الثورة منهم البكباشي جمال عبد الناصر، وذكر لي الأستاذ سيد أن أكون أنا ومن معي على أهبة الاستعداد، وأن يكون الإخوان المسلمون المدنيون على استعداد أيضاً لحماية الثورة، وحماية الأمن في بور سعيد، وحذرنا من سفك الدماء .,
ويروي الأستاذ أحمد عبد الغفور العطار ( السعودي ) أن سيد كان المدني الوحيد في مجلس قيادة الثورة،وأنهم أسندوا له وزارة المعارف لكنه اعتذر ورفض .ثم وافق أن يكون السكرتير العام لهيئة التحرير [ وهي حزب أراد عبد الناصر تشكيله بديلاً عن الإخوان ] . وكان لسيد مكتب في مبنى مجلس قيادة الثورة، وكان يقيم هناك إقامة شبه دائمة ... حيث أوكلت له مع محمد سعيد العريان مهمة تغيير مناهج التعليم .
حفـل تكريم لسـيد قطب :
يقول الخالدي ص 302 (( أعد رجال الثورة حفل تكريم لسيد، وكان حفلاً مشهوداً، أثنوا فيه على سيد ثناء رفيعاً، وأشادوا فيه إشادة بالغة . وقد حضر الحفل مرافقاً لسيد الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار، ووصف لنا في مجلته ( كلمة الحق ) بعض ماجرى فيه : كان الحفل أساساً محاضرة دعا زعماء الثورة سيد إلى إلقائها في نادي الضباط في الزمالك وجعلوا عنوان المحاضرة ( التحرر الفكري والروحي في الإسلام ) وكان ذلك بعد شهر من قيام الثورة أي في أغسطس 1952 .
ذهب سيد في الموعد المحدد يرافقه ـ أحمد العطار ـ لإلقاء المحاضرة، ويقول أحمد العطار : ( وفي الموعد المحدد حضرت معه، وكان النادي مزدحماً بحدائقه وأبهائه الفسيحة، وحضرها جمع لايحصى من الشعب، وحضر إلى النادي أبناء الأقطار العربية والإسلامية الموجودون في مصر، وكثير من رجال السلك السياسي، وكبار زعماء الأدب والفكر والقانون والشريعة،وأساتيذ الجامعات والكليات والمعاهد . وكان مقرراً حضور محمد نجيب وتوليه تقديم المحاضر بنفسه، إلا أن عذراً عارضاً اضطر محمد نجيب للتخلف، وبعث برسالة تليت على الحاضرين من قبل أحد الضباط . يقول أنه كان حريصاً للاستفادة من علم سيد ووصف سيد بأنه رائد الثورة ومعلمها وراعيها .
وحول الضباط محاضرة سيد إلى مناسبة للاحتفال والاحتفاء بـه، وبيان مناقبه، وبدل أن يحاضر سيد فيهم، صار الخطباء يتكلمون عن سيد ويثنون عليه .
افتتح أحد الضباط الحفل بآبات من القرآن الكريم، وأعلن أحد الضباط أن كان مقرراً أن يقوم الرئيس محمد نجيب بتقديم أستاذنا العظيم ورائد ثورتنا المباركة، مفكر الإسلام الأول في عصرنا، الأستاذ سيد قطب، ولكن أمراً حال دون ذلك، وأريد مني تقديم الأستاذ سيد قطب، وإن كان في غنى عن التقديم وعن التعريف .
وكان الدكتور طــه حسين حاضراً، قتقدم وألقى كلمة رائعة، قال فيها إن في سيد خصلتين : هما المثالية والعناد، وذكر سيداً وأدبه وعلمه وثقافته وكرامته، وعظمته وفهمه للإسلام، وذكر أثر ســيد في الثورة ورجالها وختم طه حسين بالقول : إن سيد قطب انتهى في الأدب إلى القمة والقيادة، وكذلك في خدمة مصر والعروبة والإسلام .
ثم وقف سيد قطب وألقى كلمة مرتجلة، وسط تصفيق المصفقين وهتاف الهاتفين وقال : إن الثورة قد بدأت حقاً،وليس لنا أن نثني عليها لأنها لم تعمل بعد شيئاً يذكر، فخروج الملك ليس غاية الثورة، بل الغاية منها العودة إلى الإسلام .
ثم قال : كنت في عهد الملكية مهيئاً نفسي للسجن في كل لحظة، وما آمن على نفسي في هذا العهد أيضاً، فأنا في هذا العهد مهيئ نفسي للسجن ولغير السجن أكثر من ذي قبل ....
وهنا وقف جمال عبد الناصر وقال بصوته الجهوري : أخي الكبير سيد لن يصلوا إليك إلا على أجسادنا، جثثاً هامدة، ونعاهدك باسم الله بل نجدد عهدنا لك، أن نكون فداءك حتى الموت !!!!
وصفق الناس تصفيقاً حاداً متواصلاً، مع الهتاف المتكرر بحياة سيد قطب ...
وللـذكــرى :
في عام (1965) قبض عبد الناصرعلى سيد يرحمه الله للمرة الثانية ، وحكم عليه بالإعدام بتهمة تنظيم سري لقلب نظام الحكم ( كالعادة )، وقد حاول كثيرون منهم الرئيس عبد السلام عارف رئيس العراق يومئذ، والملك فيصل بن عبد العزيز يرحمهم الله جميعاً، حاولوا إنقاذ سيد من الإعدام، فقد أرسل الملك فيصل برقية يطلب فيها عدم إعدام سيد قطب، وتبديل حكم الإعدام بالسجن المؤبد، ولكن عبد الناصر طلب من مساعديه أن ينفذوا حكم الإعدام بسيد يرحمه الله ثم يقدموا البرقية لعبد الناصر ليقول للملك فيصل أن البرقية لم تصله إلا بعد فوات الأوان ...
وهكذا تسلق عبد الناصر على أكتاف سيد يرحمه الله، وعلمه وفكره ومحبة الضباط الأحرار له، ثم نفذ عبد الناصر تعليمات أسياده الصهاينة والصليبية والماركسية وأعدم سيد قطب يرحمه الله تعالى في صيف (1966) .