الطريق إلى دمشق بين خيارات الاحتلال والاستبداد

الطريق إلى دمشق بين خيارات الاحتلال والاستبداد

أنس العبدة

[email protected]

 يَحِقّ للمواطن السوري أن يشعر بالقلق والخطر، فما يشهده اليوم من أحداث يُذكّره إلى حد بعيد بما مر به شقيقه العراقي من قبل عندما بدأت سماؤه تتلبد بغيوم العدوان ووجد نفسه أمام خيارين اثنين: إما الاحتلال وإما الاستبداد، فآثر الانتظار حتى وقع ما وقع، وإذا بخيارات أخرى تفتح أمامه واقعا جديدا مما سهل عليه عملية الاختيار المعقدة، ولكن بعد أن دفع ثمنا غاليا جدا لذلك «الانتظار» وما يزال يدفع. من سوء حَظّنا كسوريين أننا نواجه هذين الخيارين اليوم، ولكن بالمقابل فمن حسن حظنا أيضاً أننا مازلنا نمتلك قدراَ من الوقت اليسير للبتّ فيهما على مافي ذلك من صعوبة وألم. إن أهم درس يمكن لنا استخلاصه من التجربة العراقية هو أن الانتظار خيار من لا خيار له، وأن المبادرة الى شق طريق ثالث ورابع وعاشر هي الضمانة الوحيدة لحفظ وحدة وسلامة المجتمع السوري.  

 إن الخيار بين الاحتلال والاستبداد هو بمثابة المفاضلة بين الطاعون والسرطان، فكلاهما يهتك خلايا الجسد ويتركه نهبا للوهن والضّعة. وإذا كان علاج طاعون الاحتلال في المقاومة الوطنية علاجا ناجعا ومُجَرّبا من كل أمم الأرض على مر الدهور والأزمنة، فإن سرطان الاستبداد أشدّ فتكاً وأمنع من الاستجابة للدواء. ومن هنا فإن الانتظار في كلا الحالتين مهلكة وأيّ مهلكة. فهذه المعضلة توفر للأنظمة العربية بيئة مثالية للابتزاز، وفرصة ذهبية لانتهازية المثقفين المدجنيين للدعوة إلى صمود الاستبداد، وفسحة إضافية للاوليغارشية في مد نفوذها الاحتكاري على النزر اليسير المتبقي من الكرامة الاقتصادية للمواطن العربي. وهذا الحلف غير المقدس للمستبد السياسي والثقافي والاقتصادي يبدو اليوم في أعلى جاهزيته القتالية لخوض معركة بقاء مع مجتمعه وأمته التي باتت على استعداد سيكولوجي على الأقل للفظه واستبداله بمنظومة وطنية تسعى للحفاظ على المصالح العليا للمجتمع، فقد بات واضحاَ أن استمرار هذا الحلف في تَصَدّر الحياة العامة في العالم العربي هو أكبر خطر يتهدد المصالح الاستراتيجية العليا للمجتمع العربي بالمعنى الحضاري الجامع للأطراف كافة لا بالمعنى القومي الضيق المُفَرّق. ولعله يمكن لنا أن نفهم الآن مصدر تلك الدعوات المجانية للتدخل الأجنبي في شؤوننا الداخلية سواء بطريقة مباشرة أوغير مباشرة حيث يقوم هذا الحلف على توزيع تلك الدعوات فوق الطاولة وتحتها، وديدنُه الأساسي هو البقاء بأي ثمن ومهما كان الثمن. وقد أثبتت التجربة الحية أن لا فائدة من الحوار الهادئ والهادف مع صناع القرار في هذا الحلف، لأنهم يعتمدون «البلطجة» في أمورهم كلّها وذلك لفرض ذاتهم المُستَبِدّة، ويؤمنون بالإقصاء مبدأً ومنهجاَ ولا يحنون رؤوسهم إلا «للبسطار» الأجنبي لأن هذا يتماشى مع سياستهم العامة في تقديس القوة. ولابأس عندهم بعد ذلك بأطنان المساحيق من شعارات برّاقة وأفكار وطنية خارجة عن محتواها وإطارها الموضوعي مع درجة عالية التركيز من النفاق الذي يبعث على الغثيان.

 لن يرحل الاستبداد من تلقاء نفسه.  وعصا الاحتلال الغليظة غالبا ما تؤسس لاستبداد جديد مادامت القابلية موجودة. فكلا الخيارين وصفة لزيادة حجم المشكلة دون مساهمة حقيقية في حلّها. يقول خليل العناني في مقاربة سوسيولجية حول صمود الاستبداد في العالم العربي: "إن توصيف الاستبداد العربي، فضلاً عن إدراك عواقبه، ليس بالأمر العسير، بيد أن المعضلة هي في تفسير تلك القدرة العجيبة التي يجدد بها هذا الاستبداد «شبابه» كلما شعر بأي تهديد داخلي أو خارجي. فما يوشك احد أعمدته في السقوط حتى يُقام غيره، وربما في المكان نفسه (إحلال وزير محل آخر أو حكومة محل أخرى) وكأنه استبداد «بيولوجي» لا تذبل احدى خلاياه حتى تولد الأخرى من أصلابها". انتهت مقولة العناني. ولعمري فإن ابن خلدون وليو شتراوس و جون لوك كمُتخصّصِين في دراسة علاقة الحاكم بالمحكوم كانوا جميعا سيقفون حيرى أمام ظاهرة مأسسة الاستبداد وتجذره وإحاطته بثنايا مجتمعنا.

 وبناءاَ على ما تقدم: ألا يحق للمواطن العربي عامة والسوري خاصة أن يستشعر الخطر وهو يرى هذا الحلف ممسكاَ بمقاليد الأمور كلها؟ وهل تُرانا «ننتظر» مرة أخرى لنرى عراقاَ جديداً في سورية؟ أم هو الخوف من اتخاذ المبادرة! مرة أخرى أجِدُنا معشر السوريين محظوظون بالمعنى النسبي للكلمة لأنّ الإدارة الحالية للولايات المتحدة الأمريكية اكتشفت وبالتجربة المباشرة أن هزيمة بلد من بلدان العالم الثالث عسكرياَ شيئ، واحتلاله وإخضاعه لنفوذها شيئ أخر يختلف تماما. ورغم محاولة النظام السوري تصوير ما يجري على أنه استهداف للوطن، إلا أن المواطن السوري يدرك أن النظام الذي استعان واستقوى عليه بجملة من التوافقات والصفقات الإقليمية والدولية فيما مضى، هو نفسه النظام الذي يحاول اليوم الاستخفاء وراء مسمى الوطن ليفوز بفرصة جديدة لاستقواء جديد ولكنه هذه المرة أشد بؤسا وتخلفا. والنظام السوري يدرك تمام الإدراك حجم شعبيته في الداخل السوري ويعلم تمام العلم أن درجة الدفاع الداخلي عنه لن تختلف كَمّاَ أو نوعاَ عن مثيلتها العراقية. لذا لم يبق له إلا أن يلعب ورقته الأخيرة والمؤثرة على المستوى الخارجي وهي أن البديل عنه هو الفوضى والإرهاب. وتجد هذه الورقة صدىً على المستوى الإقليمي والدولي وخاصة في اسرائيل التي لا ترغب في حدوث فوضى على طول أكثر حدود آمنة منذ حرب تشرين/اكتوبر.

 إن معادلة التغيير في سورية مازالت معادلة من الدرجة البسيطة، طرفيها النظام ومن يُمثّل من جهة والولايات المتحدة وما تُمثّل من جهة أخرى. ومالم يدخل هذه المعادلة متغير قوي جديد فإن مصالح الشعب السوري