تنامي دور الفضائيات العربية يقلق قوى الهيمنة الغربية ..
تنامي دور الفضائيات العربية يقلق قوى الهيمنة الغربية ..
هل كان التسريب متعمدا لتوجيه رسالة للقطريين بأن الصبر قد نفد؟ ..
التفكير في قصف /الجزيرة/ يزيد من الشكوك حول قدرة واشنطن على تحمل الإعلام الحر
قدس برس
أثار تسريب معلومات إلى صحيفة /دايلي ميرر/ البريطانية المعارضة للحرب على العراق، ونشرتها الثلاثاء (22/11) عن نية الرئيس الأمريكي جورج بوش، العام الماضي، قصف مقر قناة /الجزيرة/ الفضائية القطرية، بسبب تغطيتها للهجمة الأمريكية على مدينة الفلوجة، العام الماضي، وللحرب على العراق عامة، والحرب الدولية على "الإرهاب"، جدلا واسعا بين العديد من المهتمين والمراقبين، بشأن كيفية تعامل الإدارة الأمريكية مع وسائل الإعلام عامة، والعربية منها خاصة، وعلى رأسها قناة /الجزيرة/.
وفي تفاصيل القضية أن الرئيس الأمريكي، الذي برر حربه على العراق بأنها حرب العالم الحر على نظام دكتاتوري خطير، يمتلك أسلحة دمار شامل، ويهدد جيرانه والعالم أجمع، قد ناقش مع رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير يوم 16 نيسان (أبريل) 2004، عندما كانت قواته تقصف مدينة الفلوجة، وتحاول تطويعها للآلة الحربية العملاقة، فكرة قصف المقر المركزي لقناة /الجزيرة/ في قطر، ومكاتبها في أماكن أخرى حول العالم، في ما يبدو محاولة لاستئصال هذه القناة العنيدة من الوجود.
ويلاحظ المراقبون أن الحكومة البريطانية، بخلاف بعض الإعلاميين المقربين من الإدارة الأمريكية، لم تعمد إلى التشكيك في صحة المعلومات، التي احتوتها الوثيقة السرية، التي تسربت إلى صحيفة /دايلي ميرر/، بشأن المداولات، التي جرت بين بوش وبلير، وإنما عمدت إلى إعلان سعيها لمحاكمة ديفد كوخ، المسؤول في وزارة الخدمات المدنية، المتهم بتسريب المذكرة، ومنه إلى الباحث ليو اوكونور، حتى وصلت إلى الصحيفة.
كما عمد المدعي العام البريطاني إلى منع الصحف من نشر المزيد من تفاصيل الوثيقة السرية، تحت طائلة المتابعة القانونية، الأمر الذي يعني أن الأمر جدّ، وأن الوثيقة حقيقية، وأن المداولات قد جرت بالفعل، وأن قصف قناة /الجزيرة/ كان ضمن المداولات الرسمية في اجتماع القمة بين زعيم أقوى دولة في العالم: جورج بوش، وحليفه الرئيس في الحرب على العراق و"الإرهاب": طوني بلير.
ويؤكد محتوى هذه الوثيقة المسربة أن الإدارة الأمريكية والرئيس جورج بوش قد باتا لا يتقبلان بالترحاب من أجهزة الإعلام إلا ما يخدم السياسة الرسمية المقررة، كما تقول الصحافية الأمريكية كريستينا بورجيسون، في كتابها "في قفص الاتهام.. الإعلام الأمريكي بعد 11/9". وبسبب هذه الطريقة في التعامل مع الإعلام فقد استحال معظم الإعلام الأمريكي إلى "إعلام دعائي، (ينشر) أخبارا مزيفة، تقدم تحت قناع الأخبار الحقيقية، تقدمها لنا الحكومة الأمريكية"، على حد قول الصحافية بورجيسون، وهو ما يجعل مما تبثه /الجزيرة/ أمر لا يقابل بالترحاب لدى اليمين المحافظ المهيمن على إدارة بوش.
هل هي رسالة نفاد صبر؟
لكن مراقبين آخرين لا يوافقون كثيرا على هذا الرأي. ويعتبرون أن تسريب الوثيقة لم يفاجئ الحكومة البريطانية، وأن العملية برمتها قد تكون متعمدة من أوساط عليا، وأن صحيفة /دايلي ميرر/ قد ابتلعت الطعم، دون أن تدري، وأن كل ما في الأمر تبليغ الحكومة القطرية ومسؤولي /الجزيرة/ رسالة شديدة الوضوح بأن الصبر قد نفد، وأن على القناة أن تراجع بجد سياستها التحريرية، التي جعلتها موضع جدل، وإن كانت قد حققت لها شهرة دولية واسعة، وجعلت منها خامس مؤسسة إعلامية واقتصادية في العالم، في وقت وجيز، حتى لا تتعرض للقصف والتدمير.
ويرى هؤلاء أن الأمر بقدر ما هو متعلق بالسياسة التحريرية لقناة /الجزيرة/، التي انتقدها مسؤولون أمريكيون مرات عديدة، هو أيضا مرتبط بالنسخة الجديدة للقناة، الناطقة بالإنجليزية، والمتوقع أن ترى النور في آذار (مارس) من العام القادم، خاصة وقد استقطبت عددا من أهم الصحفيين البريطانيين، مثل الصحفي ديفيد فروست وآخرين من الوزن الثقيل إعلاميا. فمع النسخة الإنجليزية لم تعد /الجزيرة/ تلعب في ساحة بعيدة، بل صارت تلعب في قلب البيت الأمريكي والبريطاني، وهو مكان يبدو اللعب فيه غير مسموح به بالمرة.
وتتعزز وجهة النظر هذه من القول إن عددا من القوى الغربية المهيمنة على المشهد الدولي، قد بدأت تتأذى من تنامي أقدار الحرية في وسائل الإعلام العربية عامة، وأن الأمر لا يقف عند حد /الجزيرة/. ويقول مراقبون إن هناك قلقا غربيا متزايدا، مع الدور المتنامي للقنوات الفضائية العربية المختلفة، من إفلات الرأي العام العربي من توجيه كبريات وسائل الإعلام الغربية، في ظل تولي صحفيين عرب ووسائل إعلام عربية، صياغة الرأي العام في الدول العربية والإسلامية، بل وبداية التأثير في الرأي العام الغربي ذاته.
وهنا يستحضر هؤلاء ما حصل من منع قناة /المنار/ اللبنانية من البث في أوروبا، ومن تفكير متزايد في عواصم غربية عديدة مثل لندن وباريس وواشنطن في بعث قنوات غربية ناطقة بالعربية، على شاكلة "البي بي سي العربية" وقبلها قناة /الحرة/ الأمريكية، والفضائية الإسرائيلية الفاشلة، وقنوات مدعومة، وإن قام عليها بعض العرب، مثل /الغد/ الأردنية وغيرها، لعل قوى الهيمنة تتمكن بذلك من منافسة تأثير القنوات الفضائية العربية على الرأي العام المحلي.
ويأتي هذا التوجه الغربي في مقابل تطور آخر، تجسد واقعا، مع افتتاح مدينة دبي الإعلامية، في دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي المدينة، التي بدأت تتجمع فيها العديد من وسائل الإعلام العربية، مغادرة الموطن الغربي، الذي نشأت فيه، مع توفر أقدار عالية من الحرية الإعلامية، مع رخص التكاليف وقلة النفقات، الأمر الذي يبشر العرب بانطلاق مشوار تحررهم الإعلامي، وينذر قوى الهيمنة بأن منطقة استراتيجية على وشك أن تتحرر فكريا وفنيا وذوقيا، وأن تصنع إعلامها وثقافتها بأيدي أبنائها.
قصف الجزيرة مثل قصف "بي بي سي"
شبه محللون بريطانيون في تصريحات لوسائل إعلام بريطانية متنوعة التفكير في قصف مقر /الجزيرة/ بالتفكير في قصف مقر هيئة الإذاعة والتلفزيون البريطانية "بي بي سي"، معتبرين أن ذلك لو حصل كان سيتسبب في مقتل المئات من الأبرياء من الصحفيين، من توجهات وتيارات وآراء ودول مختلفة، من قبل دولة ترفع لواء الحرية والديمقراطية، ونذرت نفسها نصيرا للرأي الحر في العالم، وتدير حروبها ومعاركها الواسعة في سائر أطراف المعمورة على قاعدة الانتصار لحرية الإعلام وحقوق الإنسان والديمقراطية.
وفي حين صار العديد من المراقبين يسترجعون الأحداث، ويعتبرون ما تعرض له مكتبا /الجزيرة/ في كابول وبغداد، ومكتب قناة "أبو ظبي"، وقصف الصحفيين في فندقهم في العاصمة العراقية في التاسع من نيسان (أبريل) 2003، يوم سقوط النظام العراقي السابق، عملا متعمدا من قبل الجيش الأمريكي.
يتذكر آخرون مقدار الحنق، الذي كان يبديه العديد من القادة العسكريين الأمريكيين، وعلى رأسهم وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، الذي اعتبر /الجزيرة/ عملا من أعمال الشر، وأيضا أولئك الذين كانوا يتحدثون للجزيرة ذاتها، عن مراسلها أحمد منصور، واصفين إياه بأقذع النعوت، وهو الذي كان بالصدفة في الفلوجة، وغطى الأحداث فيها بشكل نال به إعجاب الجمهور والمهتمين، ويسترجعون أقوال منصور عن محاولات الاستهداف العديدة، التي تعرض لها والفريق المرافق له في المدينة.
وتذهب مصادر مطلعة إلى أن الصحفي منصور قد صار منذ ذلك التاريخ موضع اهتمام خاص من جانب المخابرات الأمريكية. وتقول معطيات موثوقة إن مصور /الجزيرة/ المعتقل في معسكر غوانتانامو سامي الحاج، الذي تمت مساومته على العمل جاسوسا على /الجزيرة/ قد سؤل خلال التحقيق معه 115 سؤالا، كان 100 سؤال منها خاصة بأحمد منصور.
الجيش الأمريكي والإعلام ما بعد معركة الفلوجة
يتذكر الكثير من المراقبين، وهم مأخوذون بما احتوته الوثيقة السرية البريطانية المسربة، أن /الجزيرة/ كانت الفائز الأكبر، مهنيا، في معركة الفلوجة، وفي معارك إعلامية أخرى كثيرة، وأن الفلوجة قد نجحت بسبب وجود /الجزيرة/ فيها بالصدفة في الصمود، في وجه أعتى جيوش العالم، وأشدها قوة.. لكن تلك الحرب التي وقف فيها الجيش الأمريكي على أسوار المدينة العنيدة، قد جعلته يقرر بشكل حاسم أن يمنع في حروبه اللاحقة على المدن العراقية، بما فيها الفلوجة ذاتها، ثم سامراء والقائم والموصل والرمادي العبيدي.. الخ، وجود إعلام حر، يمكن أن يراقب ما يحدث على الأرض، وينقل للعالم ما يحدث من جرائم.
ولذلك لم يكن غريبا، وقد تم طرد /الجزيرة/ من العراق عامة، وجرى تدجين الكثير من القنوات الأخرى، التي اختار مراسلو بعضها مرافقة العسكريين الأمريكيين، والنظر للأمور من زاوية نظرهم بالمناظير العسكرية المطورة، أن يستخدم الجيش الأمريكي الفسفور الأبيض في معركته الثانية ضد الفلوجة، وهي الفضيحة، التي فجرتها مجددا قناة /راي 24/ الإيطالية، مطلع الشهر الجاري، متأخرة عاما كاملا عما نشرته وكالة "قدس برس" من استخدام للأسلحة الكيماوية من قبل القوات الأمريكية ضد الفلوجة، واحتجت عليه بعض السفارات الأمريكية في المنطقة، في حينه.
لقد اقترن الوجود الأمريكي في العراق بالعديد من الفضائح، فمن فشل الإدارة الأمريكية في إثبات امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، التي بررت بها الحرب على دولة مستقلة، إلى فضيحة التعذيب في سجن أبو غريب، والتي كان لـ"قدس برس" أيضا سبق الإعلان عنها بشهرين كاملين قبل أن تروج أنباؤها الرسمية، إلى فضيحة استخدام الأسلحة الكيماوية ضد العراقيين في الفلوجة، رغم أن دخول الأمريكيين إلى العراق كان بمبرر منع الرئيس العراقي من استخدام أسلحة الدمار ضد شعبه.. وأخيرا فضيحة التفكير في قصف /الجزيرة/.
وجيش وقع في كل تلك الفضائح في ظرف عامين ونصف العام فقط، لا يمكنه أن يكون صديقا للإعلام الحر.