مالم تتحسّب له حماس

مالم تتحسّب له حماس

بقلم: د.عصام عدوان

ربما ترددت حماس قليلاً في قبول الدخول في العملية الانتخابية، خشية ألا تأتي لصالحها بعدم نزاهتها أو الالتفاف عليها أو استدراجها للانخراط في الشئون الإدارية بما يشغلها عن المقاومة. إلا أنها وبعد أن قررت الدخول في تلك العملية، ووجدت تقدمها حتى في البلديات التي ظنت فتح أنها محسومة لها، شعرت حماس بنشوة النصر، وقررت المضي في العملية الانتخابية إلى منتهاها، وقبلت في سبيل ذلك تأجيل مواعيد الانتخابات لعدة مرات، بل قبلت السكوت على تشكيلة اللجنة المركزية للانتخابات التي تسببت في تعطيل فوز حماس في بلديات رفح والبريج وبيت لاهيا. وشرعت عوضاً عن ذلك في رفع منسوب الأمل بفوزها في البلديات الكبرى وفي انتخابات المجلس التشريعي، وقد تكون محِقّة في تفاؤلها إذا ما سارت الرياح كما يشتهي السَّفِن.

وبالمقابل فقد دأبت فتح مدعومة بإمكانيات السلطة لسلوك كل ما من شأنه إبعاد حماس عن الفوز بالبلديات أو التشريعي، فقد احتكرت اللجنة المركزية للانتخابات، وجعلت محكمتها غير قابلة للنقض، واختارت مناطق الانتخابات وفق مزاجها ووفق ما تراه يحافظ على معنويات عناصرها، فبدأت بالمناطق التي تظنها محسومة لها، وأخّرت المناطق التي يمكن أن تفوز فيها حماس كي تضرب معنوياتها، وابتدعت القول بأن المعارضة قامت بالتزوير في انتخابات المرحلة الثانية من انتخابات البلدية، فكانت مسرحية القضاء التي حاكمت فيها فتح لجنة الانتخابات التابعة لفتح بمحامين من فتح وقبلت اللجنة المركزية المكوّنة من فتح نتائج الحكم، وخرجت حماس من وراء ذلك كله هي الخاسر الوحيد الذي لا يحق له الدفاع عن نفسه أو النقض أمام محكمة نقض.

لقد بدا أن وضعية اللجنة المركزية للانتخابات المكونة من فتح هي العائق المركزي أمام نزاهة الانتخابات في مرحلة قادمة، كما غدا واضحاً أن فتح قد استباحت كل السبل للفوز في الانتخابات وللحيلولة دون حماس. إلا أن حماس عندما خرجت بمظاهراتها العارمة تجوب شوارع غزة في لياليها لعدة أيام متواصلة لم تعترض إلا على تسييس القضاء وإدخاله في اللعبة الفصائلية. وربما ظنت حماس أن رسالة التصعيد قد وصلت للقائمين على الانتخابات تحذِّرهم من التلاعب في مرات قادمة، ولذلك لم توجِّه تظاهراتها ضد تشكيلة اللجنة المركزية للانتخابات. لكن فتح مضت في أساليب الإعاقة فاشترعت مراحل جديدة لانتخابات البلدية، فالثالثة لقرى وبلدات في الضفة الغربية، لتكون الرابعة في المدن الكبرى في الضفة وغزة، ثم جرى تفكير في تجزئة غزة، ثم جرى الحديث عن تأخير انتخابات البلديات المرحلة الرابعة إلى أجل غير مسمى.

ولم يسلم الرئيس محمود عباس من المشاركة في وضع العراقيل أمام حماس، رغم تعارُض ذلك مع توجهاته الإصلاحية، إلا أن حجم الضغوط عليه جعله مثلاً يقبل بتأجيل موعد الانتخابات من يوليو الماضي إلى يناير المقبل، بما يحقق مصلحة فتح دون غيرها.

إن انتهاج فتح لهذه السبل يرسم صورة قاتمة لانتخابات المرحلة القادمة ولانتخابات المجلس التشريعي. فمَن الذي يضمن ألا يضطر الرئيس أبو مازن من تقديم استقالته إلى المجلس التشريعي قبل موعد الانتخابات التشريعية بأيام؟! إن ذلك سيعطل إجراء الانتخابات في موعدها المقرر في 25 يناير وسيقضي المجلس التشريعي بضعة أيام أو أسبوعين في أزمة فريدة قبل أن يعلن رفضه لاستقالة الرئيس، ومن ثمّ يكون الجميع أمام أمر واقع بضرورة تغيير وتأجيل موعد انتخابات التشريعي إلى يوليو المقبل مثلاً.

إن مثل هذا السيناريو سيحقق عدة مصالح لفتح والسلطة الفلسطينية: فهو سيجبر حماس على التفكير ملياً في تمديد الهدنة التي تعتقد أنها تنتهي بموعد الانتخابات المقبلة. فإن قررت إنهاء الهدنة، فلن تجري الانتخابات في أجواء التصعيد وتكون حماس هي المتسبب في نظر العالم بتعطيل خيار الشعب الفلسطيني بإجراء انتخابات نزيهة!! وأما إن قررت استمرار الهدنة فهي بالتالي توافق على الموعد المؤجل للانتخابات، وبالتالي ستخسر حماس من شعبيتها التي اكتسبتها عبر سنوات الانتفاضة بكفاحها المسلح وعملياتها النوعية، وسيوفر طول المدة فرص التململ والتمرد داخل صفوف الحركة وربما داخل جهازها العسكري إلى حدٍّ ما، وفي ذلك ما فيه من مكاسب لصالح خصومها السياسيين. كما أن قبول حماس للموعد المؤجل سيعتبر في نظر البعض أشبه بالجري وراء السراب، بما يشكك قواعدها في صوابية رؤية قيادتهم الذين يكونون قد أثبتوا عدم قدرتهم على المبادرة وفرض رؤاهم، وهو ما قد يؤثر على وحدة وسلامة الصف الداخلي للحركة.

ومن جهة ثانية ستكون استقالة أبو مازن بمثابة طوق النجاة لفتح، وحفظاً لماء وجهه بعد أن تعهّد مراراً وتكراراً بأن تمضي الانتخابات في موعدها المقرر في 25 يناير 2006م. وفي الوقت نفسه لن يجرؤ المجلس التشريعي على قبول الاستقالة لأن ذلك سيدخل البلد في فوضى كبيرة، وسيفتح المجال لاشتراك حماس في انتخابات الرئاسة البديلة.

ومن جهة أخرى، مَن الذي يضمن ألا تقوم اللجنة المركزية للانتخابات وفي اللحظات الأخيرة من إعلان نتائج الانتخابات التشريعية بتلاوة نتائج جاهزة ومعدّة سلفاً تجعل لحماس نسبة 20% فقط وتحتفظ لفتح بأكثر من 70%، فتكون الصاعقة!!!؟

إن هذا السيناريو يأخذ في الحسبان درجات الحيطة القصوى التي ستتبعها حماس لضمان نزاهة وشفافية الانتخابات إلى الدرجة التي تجعلنا نتوقع أن تقوم حماس بتصوير فيديو لكل وقائع الانتخابات في كافة نقاط الاقتراع على امتداد الوطن. ولكن كيف ستستفيد حماس من كل هذه الوثائق عندما يحصل مثل هذا السيناريو؟! وماذا هي فاعلة إزاء هذه الصاعقة؟!

إن السلطة وفتح تدركان محدودية إعلام حماس المنحصر في إذاعة محلية لا تكاد تصل إلى جنوب الضفة الغربية في أحسن الأحوال، وبالتأكيد لن يستمع إليها كل الناس، وليس لديها سوى جريدة أسبوعية صغيرة لا يقرؤها سوى بضعة آلاف من الناس، ومنشورات الحركة في المساجد، وبالتالي فإن آلة الإعلام التي تمتلكها السلطة: من فضائية وإذاعات محلية وصحف يومية ومجلات ونشرات في كل الوزارات وأجهزة الأمن، فضلاً عن الإعلام العالمي الداعم لها ما دام الأمر يتعلق في الهجوم على حماس، كل ذلك سيمكّن السلطة من طمس حقائق ووثائق حماس التي لن تتمكن من عرض وثائقها في أي محفل فتفقد قيمتها. وقد تلجأ حماس إلى تحريك جماهيرها الواسعة في سلسلة مظاهرات عارمة تطالب بالتحقيق أو إعادة الفرز، وهي بذلك وحده لن تتمكن من فرض موقفها، وسيكون أمامها إما استخدام القوة، وفي ذلك ما فيه من تنفير الناس وتمكينٍ للسلطة من تشويه وجه حماس أمام الرأي العام الفلسطيني والعربي، وإما أن تعلن الإضراب المفتوح، وقد لا تفلح هذه المحاولة في ثني السلطة عن نتائج الانتخابات لتناقضها مع أرزاق العامة، وإما أن تكتفي بإعلان رفضها للنتائج وعودتها لكفاحها المسلح، ولكن ذلك لن يلغي من أذهان الناس، وخصوصاً بعد مضي بضع سنين، من أن الانتخابات قد جرت وأن فتح ومشروعها التفاوضي قد فاز بالأكثرية، وأن على الأقلية (حماس) أن تنصاع "لاختيار الشعب"، وهو ما حصل بعد انتخابات عام 1996م عندما سلّم الناس بأن فتح هي الأغلبية ونسوا أن حماس وحركات أخرى لم تشارك.

حينذاك ستدرك حماس أن الثغرة التي لم تسدّها – وهي تشكيلة اللجنة المركزية للانتخابات – كانت حجر أساس في كل العملية الانتخابية، وأنه لم يكن من الصواب الاستمرار في التعامل معها على وضعها المشبوه خصوصاً بعدما حدث في انتخابات بلدية رفح والبريج وبيت لاهيا، امتثالاً لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين". ولكن ذلك الإدراك المتأخر لن ينفع بشيء وسيدفع الشعب الفلسطيني ثمن ذلك أربع أو خمس أو عشر سنين عجاف أخرى حتى تحين الكَّرَّة.