إسرائيل تدمر وتحصد المليارات
إعادة إعمار غزة
عبد الحميد صيام
نيويورك – «القدس العربي»: إن من أغرب حكايات زماننا أن الجهة التي تدمر تكافأ على أفعالها بدل أن تعاقب وأن الذي يرتكب الجريمة لا يبرأ فقط بل يصبح جزءا من عملية إصدار صك البراءة وتسلم صك العمولة، وأن الجهة التي كان مطلوبا منها أن تحاسب وتلاحق وتوثق الجرائم عادت لتضع يدها في يد القاتل في أسرع عملية تجاوز لحرب إبادة حقيقية ما زال ضحاياها الأحياء يفتشون في الركام عن ضحاياهم الأموات. نحاول أن نفهم سيناريوهات إعادة إعمار غزة في هذا المشهد السريالي الغريب فيعيينا المنطق ونحن نرى أن كثيرين يتكالبون على رزمة النقد الكبيرة ممن لا علاقة لهم بالوجع والأنين والمآتم التي تملأ شوارع القطاع المحاصر المجوع المدمر، فليس هذا زمن الضحايا والأيتام والأرامل والشهداء والجرحى بالنسبة لهم بل زمن البزنس والعقود والصور التذكارية والمقابلات التلفزيونية. وفي محاولة جادة للفهم نضع بين يدي القارئ عددا من العناصر المهمة التي قد تبدو متباعدة لكنها تتقن رسم المشهد بكل وضوح. والعناصر تتعلق بالإيباك والولايات المتحدة والسلطة الفلسطينية وإسرائيل ومصر والأمم المتحدة والتصور الجديد لما بعد حرب غزة وإعادة إعمار القطاع.
مجموعة من المواقف
والتوجيهات والإتفاقيات
- صاغ عضوا مجلس الشيوخ السيناتور روبرت كيسي الديمقراطي (ولاية بنسلفانيا) والسيناتور كيلي أيوتي الجمهوري (نيوهامشر) والمقربان من لجنة العلاقات العامة الإمريكية الإسرائيلية (أيباك) والعضوان حاليا في لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس، رسالة إلى وزير الخارجية جون كيري سيقدمانها يوم 18 أيلول/سبتمبر الحالي وتعكس وجهة نظر الحزبين في الأوضاع التي تمخضت عن حرب الواحد وخمسين يوما على قطاغ غزة. وتحتوي الرسالة على أربع نقاط أساسية:
أولا- عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة؛
ثانيا- إعادة البناء والإعمار بإشراف السلطة وبأسرع وقت ممكن؛
ثالثا- نزع سلاح المقاومة ؛
رابعا- منع الفلسطينيين من إتخاذ خطوات مؤذية في الأمم المتحدة والمنظمات المرتبطة بها، والتي تستهدف إسرائيل بعد الحرب الأخيرة في غزة؛
وتطالب الرسالة إدارة أوباما «بتوفير الدعم اللازم للسلطة الفلسطينية كي تتمكن من بسط سيطرتها على قطاع غزة، خاصة وأن السلام الحقيقي بين الفلسطينيين وإسرائيل يتطلب شريكاً فلسطينياً يسيطر على الضفة الغربية وقطاع غزة، يركز على التنمية الاقتصادية في المنطقتين ويضمن بأن تكون غزة منزوعة السلاح». والشيء الجديد في الرسالة، كما يبدو، أن أنصار إسرائيل في الكونغرس لم يعودوا يشترطون تفكيك حكومة التوافق الوطني كشرط مسبق، لكن الرسالة تشير إلى حماس بأنها لا ترغب في السلام فقط. وهو يبدو أنه تحول حقيقي في إعادة تقييم لحركة حماس ودورها ( وقد يندرج تصريح أبو مرزوق حول إمكانية المفاوضات المباشرة مع إسرائيل ضمن هذا السياق). والشيء الملفت أن الرسالة تحظى أيضا بدعم منظمة «جي ستريت» المنافسة لأيباك والمؤمنة بحل الدولتين على أساس حدود 1967.
وتدعو الرسالة إلى «اتخاذ الخطوات الطارئة الضرورية لمعالجة الأوضاع الإنسانية المتدهورة في غزة شريطة وضع المعايير المطلوبة لضمان عدم وقوع هذه المساعدات في يد أو تحت سيطرة حماس». كما تدعو الرسالة وزير الخارجية كيري إلى حث الفلسطينيين على العودة إلى «طاولة المفاوضات» التي انسحب منها الطرف الفلسطيني.
- أعلن رئيس السطة الفلسطينية محمود عباس مساء الخميس 11 أيلول/سبتمبر أن إجتماعا قد تم بحضور وزير إسرائيلي ومندوب عن الأمم المتحدة وتم التوقيع على اتفاقية تسمح بإدخال مواد البناء إلى قطاع غزة متجاهلين حركة حماس تماما وكأن القضية لا تعنيها.
- في اليوم التالي، الجمعة أعلنت إسرائيل أنها اتفقت مع الولايات المتحدة على ضرورة الإسراع في الإعمار وتعزيز دور السلطة الفلسطينية أثناء جولة الحوار الاستراتيجي بين البلدين والذي ترأسه عن الجانب الإسرائيلي وزير الشؤون الاستراتيجية يوفال شتاينتس.
- كما تم الإعلان عن عقد مؤتمر للدول المانحة لإعادة إعمار غزة يوم 12 تشرين الأول/أكتوبر القادم في القاهرة برئاسة مصرية نرويجية مشتركة بهدف جمع مبلغ ثمانية مليارات. فالمعني كما يبدو جليا في إعادة الإعمار السلطة وإسرائيل ومصر وبدعم من الولايات المتحدة وغطاء من الأمم المتحدة. وكما أن هذه الأطراف الثلاثة لعبت دورا مهما ومتكاملا خلال الحرب سيستمر دورها بعد الحرب لتكون الجهات المعنية في إستلام مليارات الدولارات والإشراف على عملية الإعمار والاستفادة طبعا من هذه المبالغ الطائلة.
تكاليف الإعمار وحجم الدمار
تقدر مصادر فلسطينية تكاليف إعادة الإعمار في غزة بين 7 و 9 مليارت. وقد تحتاج عمليات الإعمار لنحو 18 سنة في ظروف عادية لاستكمالها حسبما صرحت به ممثلة اليونسيف في قطاغ غزة، برانيلا أيرونسايد. بينما تقدر منظمة نرويجية غير حكومية «شلتر كلستر» والتي تتعاون مع الصليب الأحمر والمفوضية العليا للاجئين أن الإعمار سيستغرق 20 عاما. من جهتها أعلنت وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) أن قطاع غزة لن يعود صالحا للحياة عام 2020 بسبب زيادة السكان المضطردة واستنزاف المصادر المائية النقية بحلول عام 2016. «فإذا كانت غزة لا تصلح للحياة عام 2020 قبل هذه الحرب فما رأيكم بعد هذه الحرب» كما قال كريس غنيس، المتحدث الرسمي للأونروا.
لقد دمر في غزة أكثر من 11.000 ألف بيت تدميرا كاملا وتضررت 50.000 بناية وشرد نحو 100.000 مواطن وأصبحوا بلا مأوى. لقد شمل الدمار جميع البنى التحتية من مياه وكهرباء وعوادم وصرف صحي ومحطات توليد ومدارس وجامعات ومستشفيات وعيادات ومصانع صغيرة وأراض زراعية ومزارع دواجن وطرق وخطوط اتصالات. إذن نحن أمام عملية إعمار معقدة وطويلة يصحبها عقود مغرية تتنافس الشركات على إستحواذ أكبر كمية منها. وتحاول الآن إسرائيل أن «تكوش» على ملايين الدولارات واليورو وإلا ستعطل عملية الإعمار.
إسرائيل المستفيد الأكبر
لا يوجد قرار يمنع الفلسطينيين أو الأمم المتحدة من إستيراد المواد من أوروبا. لكن إسرائيل تستطيع أن تعرقل أي عقد إذا لم يكن لها فيه نصيب. ويقول مسؤول في الاتحاد الأوروبي (موقع يورآكتــــف 9 أيلول/سبتمبر) «إذا أردت أن يسمح لك أن تدخل مواد بناء فتأكد أنها ستكون، بلا جـــدل، قادمة من مصادر إسرائيلية». ويضيف: «هذا شيء غير مكتوب ولكن عندما تجلس مع الإسرائيليين لتفاوضهم هذا ما يحدث بالضبط. وهذا يؤدي إلى رفع تكاليف البناء والعمولة على التحويلات المالية، كما أنه يسبب أزمة سياسية». ويؤكد المصدر الأوروبي أن هذه السياسة قد درت على إسرائيل ملايين اليوروات وأنعشت الاقتصاد الإسرائيلي وهي بالتأكيد سياسة ممنهجة ومقصودة. وتأكيدا لهذه البديهية تشير دراسة أعدها مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) أن نصف أموال الدول المانحة التي تقدم مساعدات للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة، والتي تشكل سوقا أسيرا لإسرائيل، تنتهي لخدمة عجز الميزانية الإسرائيلية.
فمنذ أن فرضت إسرائيل حصارا شاملا على قطاع غزة بعد سيطرة حماس على القطاع عام 2007 وإسرائيل تعرقل إدخال المواد المتعلقة بالبناء كافة خاصة مثل الحديد والإسمنت تحت حجة الإستعمال المزدوج. لقد إحتجت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي على هذا الحصار لكن إسرائيل بقيت تتعلل بالأسباب الأمنية لمنع إدخال أية مواد مستوردة لا تشرف عليها بنفسها. وقد تم حجز مواد مستوردة من أوروبا في ميناء أسدود مددا طويلة تصل إلى عدة أشهر أو سنين أحيانا، كي ييأس القائمون على المشاريع ويضطروا مكرهين أن يستخدموا المواد الإسرائيلية.
ويقول دبلوماسي أوروبي معلقا على الاستحواذ الإسرائيلي لمواد إعادة البناء: «إنه نوع من الجنون أن الدولة التي دمرت 25.000 بيت في قطاع غزة تصر على الإستفادة ماديا من إعادة بناء هذه البيوت على حساب المجتمع الدولي». ويؤكد منسق الأونكتاد في الأراضي الفلسطينية محمود الخفيف أن هناك مشكلة حقيقية: «ففي رأيي كاقتصادي، أن الذي يحدث في قطاع غزة والضفة الغربية وخاصة فيما يتعلق بالسيطرة المستمرة على المنطقه (جيم) عملية مقصودة لتحجيم قدرة الإقتصاد الفلسطيني على الإنتاج ليبقى الاستيراد من إسرائيل هو الخيار الوحيد».
هذه هي الحقائق لمن أراد أن يعي ما يجري في مسألة الإعمار. لقد تحول الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة والضفة الغربية بما في ذلكالقدس منذ عام 1967 إلى مشروع تجاري مربح. فهناك سوق إستهلاكي يزيد عن أربعة ملايين شخص محصورين في مجموعة سجون ومعازل وكانتونات ومجبرين على الانصياع للاستحواذ الاقتصادي الإسرائيلي كما نصت عليه إتفاقية باريس الاقتصادية بين سلطة أوسلو وإسرائيل لعام 1994 حتى إن الفلسطينيين يشترون مياههم التي تسرقها إسرائيل من الضفة الغربية بأسعار أعلى من الإسرائيليين. ليس فقط الاحتلال الذي أصبح مصدر دخل كبير للاقتصاد الإسرائيلي بل وتحولت الحرب إلى مشروع تجاري آخر يدر مليارات الدولارات. فهل هناك من سبب يقنع إسرائيل بإنهاء الاحتلال في ظل هذه الأوضاع العربية والدولية والفلسطينية؟ فإذا رفضت إسرائيل الانسحاب في ظل وجود قوى تقاوم وتنتفض وتتصدى فما الذي يقنعها أن تعطي شبرا واحدا من الأرض لأصحابها الأصليين أو تعيد لاجئا واحدا أو تطلق سراح أسير واحد إذا تم تجريد آخر جيوب المقاومة من سلاحها؟ لكن إسرائيل، كما عودتنا، تحاول أن تكسب بالسياسة والمفاوضات والمؤامرات ما عجزت عن تحقيقه في الميدان وخاصة «في هذا الزمان الرخو الذي أسلمنا الغزاة إلى أهالينا». لكنهم يخطئون مرة أخرى عندما يراهنون على الحاكم الفاقد للشعبية أو الشرعية أو كليهما ويستهينون بالشعب المناضل وقواه الحية والتي لا تقبل المذلة أو الإهانة أو رفع راية الاستسلام.