النظام السوري

الجزيرة ..الوسط الديني في سوريا

محمود دمشقية

عندما انطلقت قناة الجزيرة القطرية في ‏1‏/1‏/1996 وملأ صداها الآفاق بشعارها المعروف "الرأي والرأي الآخر" كان معظم العرب والسوريون خصوصاً متلهفين إلى متابعة برامجها كونها تعبر بشكل أو بآخر أصواتهم المخنوقة طويلاً بنعال العسكر الذين ابتليت بهم بلاد الشام كما العالم العربي والإسلامي ... وعلى الصعيد السوري استضافت قناة الجزيرة والحق يقال في بداياتها وإلى فترة ليست بالبعيدة الكثير من رموز المعارضة السورية الإسلامية منها والليبرالية والعلمانية واليسارية ... فمن استضافتها للمراقب العام للإخوان المسلمين في سوريا في برامج ونشرات إخبارية متعددة إلى استضافتها لأشخاص مثلوا ولايزال بعضهم يمثل المعارضة البعثية للبعث الحاكم في سوريا كالرئيس الأسبق أمين الحافظ والبعثي المخضرم أحمد أبوصالح في برنامج شاهد على العصر إلى اهتمامها بقضايا حقوق الإنسان السوري واستضافة عميد نشطاء حقوق الإنسان في سوريا الأستاذ هيثم المالح فك الله أسره،

كذلك قامت قناة الجزيرة بتغطية لحفل الإعلان عن تأسيس حركة العدالة والبناء السورية المعارضة، وكذلك تغطية انطلاقة وثيقة إعلان دمشق وغيرها الكثير الكثير، وفي المقابل دأبت الجزيرة على استضافة مسؤولين سوريين ليتحدثوا عن وجهة نظر النظام حول كل القضايا التي تهم البلد داخلياً وخارجياً.

في الداخل السوري لم يرق للنظام توجه قناة الجزيرة ولو ظاهرياً، وبالتحديد لم يرق له أن يستمع الشعب السوري لكثير مما يبث عبر القناة بدءاً من شعار الرأي والرأي الآخر ومروراً باستضافة القناة لرموز المعارضة وانتهاءً بخانات اليك التي كان مذيعوا الجزيرة ومقدموا برامجها يحصرون فيها ضيوفهم من طرف النظام (مع وجود بعض الاستثناءات مثل حالة فيصل القاسم القادم من رحم النظام في سورية)، في الوسط الديني كان يروج لعبارة غالبا ماكنا نسمع بها في كل جلسة، مع أكثر من شيخ من مشايخ سورية وأطلقها أول مرة الدكتور البوطي وجرت على لسان كل من سمعها منه وهي أن الجزيرة "منبر صهيوني". ادعى يومها الدكتور البوطي أن أحد كبار ضباط الأمن في البلد أعلمه بهذه المعلومة وحيث أن ثقة الدكتور بهذا المسؤول الأمني أكبر بكثير من أكبر عالم انتقد كتابه "الجهاد في الإسلام " (الذي جرم فيه البوطي معارضي النظام خلال الأحداث الدامية عام 1980) فقد ردد الدكتور البوطي هذه العبارة مراراً وتكراراً هذه العبارة أو مايرادفها في درسه العام الذي يحضره المئات وذكر ذلك وأسهب فيه في كثير من جلساته الخاصة . يشار هنا إلى أن معظم أبناء ورموز الوسط الديني والمشيخي في سوريا ينظرون إلى البوطي الذي يكره السياسة والعمل بها وينادي بنسف فكرة الأحزاب الإسلامية من جذورها، ينظرون إليه على أنه المفكر الإسلامي الأبرز في سوريا والعقل الواعي المنظر لمواقف هذا الوسط من الدولة وآليات تعامله معها، في حين يكره هو التكلم في السياسة والعمل بها ولايتكلم بها إلا بمايوافق هوى النظام .. ويشار أيضاً إلى أن البوطي وقبل أسابيع قليلة من سقوط نظام صدام حسين وعندما كانت العلاقات السورية العراقية تسير باتجاه التحسن غير المعلن أحياناً. كرر الدكتور البوطي وهو الكردي الأصل كرر عدة مرات امتداحه من شخص الرئيس صدام حسين وكيف أنه أصبح رجلاً صالحاً وكيف أطلق حملة الإيمان في صفوف منتسبي الجيش والحزب والأمن بإلزامهم حفظ أجزاء من القرآن الكريم والالتزام بالصلاة (نقل عن المفتي وقتها الراحل أحمد كفتارو الكردي الأصل أيضاً مباركته للمجاهدين الذين انطلقوا من دمشق إلى بغداد لمواجهة الغزو الأمريكي بتأييد غير معلن من النظام فيما أجاب كفتارو نفسه قبل عدة سنوات من ذلك عن حكم الذهاب للجهاد في فلسطين بأن ذلك من من وظيفة الجيش والدولة وليس لأحد أن يقوم به عوضا عنها).

في هذا الوقت كانت العلاقات السورية مع قناة الجزيرة تتحسن وتوج ذلك التحسن بإعادة افتتاح مكتب الجزيرة( الذي كان يسمى: المنبر الصهيوني ) في دمشق لنلاحظ قيام الجزيرة باستضافة أشخاص من الوسط الديني في برامجها أمثال المفتي حسون مفتي الجمهورية ومفتي دمشق عبد الفتاح البزم ومحمد الحبش والداعية عبد الرحمن كوكي الذي ظهر آخر مرة في الاتجاه المعاكس يوم 2009-10- 20 . ومع وجود بعض الاستثناءات من بعض المشايخ الذين استضيفوا وهم غير مرضي عنهم تماماً من قبل النظام أمثال الاستاذ في كلية الشريعة في جامعة دمشق د.عماد الدين الرشيد والذي تكلم يومها عن التشيع في سوريا واستجوب حول المقابلة واعتقل وأفرج عنه بعد المقابلة بأشهر فإن غالب المتكلمين من الوسط الديني كانوا يتكلمون على قناةالجزيرة ضمن السياق العام الذي تريده الدولة ومن بعد موافقتها، لاوبل من خلال مكاتب الجزيرة في دمشق المراقبة مباشرة من الأجهزة الأمنية (ذكر أن كل القنوات والفضائيات الأجنبية والعربية تبث تقاريرها من سوريا من خلال محطات البث المتنقلة والثابتة التابعة للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون ) وكما ذكرنا في هذا المقال فقد استضاف فيصل القاسم في الاتجاه المعاكس الداعية عبد الرحمن كوكي في مواجهة حوارية مع كاتب مصري كان موضوعها قضية النقاب التي أثارها شيخ الأزهر بمنعه النقاب في المؤسسات التعليمية التابعة لمشيخة الأزهر، وقد حمل كوكي بشدة وبعنف منقطع النظير على شيخ الأزهر،  الأمر الذي دفع بمحاوره المصري إلى قلب دفة الحوار إلى جهة أخرى حيث سأله إن كان موضوع النقاب يهمه إلى هذا الحد فليطلب من رئيسه الذي بعثه إلى هنا ليهاجم مشيخة الأزهر المؤسسة الحكومية بامتياز إلى أن ينقب زوجته ويفتح جبهة الجولان لينفر أهل الجهاد إليها لتحريرها من اليهود، هنا رد كوكي بالقول أن كل إنسان حر بعمله ... هنا بدا وكأن النقاش يأخذ بعداً سياسيا يستخدم فيه أحد دعاة الوسط الديني في سوريا مهاجماً مشيخة الأزهر التابعة للدولة المصرية والمعين شيخها من قبل الرئيس المصري وذلك ضمن السياق الذي تنتهجه الجزيرة ومن ورائها قطر والنظام السوري وحماس من الهجوم المتكرر على النظام المصري والتنكر لمأساة القضية السورية من قبل الجزيرة حتى مالت كفة الحياد والموضوعية في قناة الجزيرة من خلال بعدها الحمساوي إلى جانب النظام السوري، ونحن هنا لانبخس الأخوة في حماس جهادهم، و لانكتب هذه الكلمات انتصاراً للنظام المصري المتورط حتى النخاع في مأساة المحاصرين في غزة، ولكن قلوبنا تتفطر لما آل له الوسط المشيخي في سوريا من خنوع وتبعية وانبطاح لنظام لايرجو لله وقاراً.. فأصبح ألعوبة بيد النظام وأصبحت منابر الجمعة أبواقاً إعلامية تنعق كل أسبوع بسياسات النظام وتسكت عن جرائمه وفساده . ومما يجدر ذكره هنا أن الأمن السوري اعتقل أخيرأ الداعية عبد الرحمن كوكي وصادر حاسبه وفتش بيته ولايزال قيد الاحتجاز حتى اللحظة . هل لأنه لم يستأذن الأجهزة الأمنية قبل الخروج على هواء الجزيرة رغم أنه كان يتكلم ضمن السياق الذي يريده النظام؟ .. أم أن النظام مازال يحافظ على خيوط دقيقة في علاقته مع مصر قام الداعية كوكي بقطع بعضها؟ .. أم لأنه لم يدافع بشراسة عن رئيسه عندما هوجم من قبل الضيف المصري؟ أو كان دفاعه دون الحدالمطلوب؟ .. أم لأن مشايخ سوريا اليوم وأكثر من أي وقت مضى محظور عليهم التواصل مع أي جهة إعلامية أو دعوية خارج حدود السجن السوري الكبير؟ فهم بنظر النظام أصغر من ذلك بكثير ووظيفتهم تقتصر على دعم مواقف النظام على المنابر وإظهار سوريا على أنها قلعة من قلاع الإسلام المنيعة التي يحميها النظام الحاكم، وأن المكرمة الوحيدة التي لهم أن يحصلوا عليها هي دعوة للإفطار من قبل رأس النظام يكيلون له فيها عبارات التمجيد والثناء ويباركهم بنصائحه وتوجيهاته .. وهم بالطبع ممنوعون من أبسط حقوقهم الإعلامية حيث أجبروا على إغلاق قناتهم الدعوية الخاصة التي أطلقوها من البحرين بدعم عدد من تجار دمشق المخلصين والتي كانت تقوم فقط بإعادة بث الدروس الدينية العلمية والوعظية التي كانت تقام في مساجد دمشق، وكثيراً مابثت أوبرا إسلامية يظهر فيها المنشدون أمام صورة كبيرة لرأس النظام ينشدون فيها لحفظة القران الذين زاد عددهم في عهده الميمون .. وقد استدعي الشيخ الأستاذ سارية الرفاعي المشرف على القناة لساعات طويلة في أحد الأجهزة الأمنية ليجبر في النهاية على إغلاق القناة . ومن هنا نرى أن الوسط الديني بالنسبة للنظام هو عبارةعن واجهة إعلامية موجهة من قبل النظام بشكل رسمي من خلال المفتي حسون ووزارة الأوقاف وبشكل غير رسمي من خلال الأجهزة الأمنية عبر الاستدعاءات المتكررة لرموز التيار الديني إلى أفرع الأمن.