النظام الأسدي بين الانتحار والتجديد

النظام الأسدي بين الانتحار والتجديد

جان كورد

لاشك أن رحيل إحدى أقوى الأعمدة الدموية للنظام البعثي الأسدي الحاكم في سوريا بهذا الشكل المفجع – وأعني انتحار غازي كنعان الذي ترك وراءه سجلا حافلا بالأحداث الخطيرة – وإبعاد بعض أركان النظام الآخرين من قبل، مثل عبد الحليم خدام والعماد مصطفى طلاس والعماد حكمت الشهابي وغيرهم، يطرح سؤالا على المهتمين بالوضع السوري على هذا الشكل:

- هل النظام على طريق الانتحار أم أنه في عملية تجديد ؟

قبل الإجابة عن السؤال يجدر بنا النظر فيما يصدر من تصريحات عن الذين يفترض بهم أن يكونوا من المجددين الأوائل في هذا النظام، وبخاصة فخامة الرئيس بشار الأسد، وسعادة رئيس وزرائه ناجي العطري وسيادة وزير إعلامه مهدي دخل الله !!!

فرئيس الجمهورية يدري قبل غيره أنه تم تحوير وتعديل الدستور السوري خلال سويعات لينتقل بذلك الإرث الرئاسي من أبيه الراحل إليه، نظرا لصغر سنه آنذاك، ومع ذلك يؤكد لقناة (السي إن إن) الأمريكية التي تعرف مافوق الأرض وما تحتها في آخر لقاء له بأن الشعب السوري "اختاره لهذا المنصب"، أي أنه مقتنع ضمنا بأن الرئاسة جاءته عن طريق ديموقراطي وشرعي وعصري وليس عن طريق الوراثة أو التوصية من دكتاتور لايزال يرتعد كثيرون من أتباعه خوفا عندما يذكر إسمه أمامهم وتدمع عيونهم لسخائه وكرمه ولمحبتهم لهم إلى درجة أن كتبوا باستمرار على يافطاتهم الكبيرة :"حافظ الأسد ... قائد إلى الأبد!".

القائد الابن غير مستعد ، لا في هذا اللقاء الأخير ولا في أي لقاء آخر، للاعتراف بتراجعه عن وعوده التي وعد بها في "خطاب العرش" قبل سنوات قلائل، حيث أطنب في الحديث يومئذ عن العهد الجديد والاصلاحات التي سيجريها والسير صوب الديموقراطية والازدهار، وهاهو يمني النفس بعهد طويل قد تتحق في نهايته ديموقراطية على الطريقة البعثية، تختلف عن الديموقراطيات الكلاسيكية إلى حد ما... كما يردد هذه المرة أيضا بأن من الصعب حماية حدود بلاده الشرقية مع العراق ويشبه الموضوع بموضوع الحدود الأمريكية – المكسيكية وتسلل اللاجئين عبرها رغم كل العراقيل من الطرفين الأمريكي والمكسيكي. متناسيا بذلك أمرين :

- الإرهابيون الذين يسميهم ب "المتمردين" ودون أن يذكر على من تمرد هؤلاء، في معظمهم عرب ومسلمون من بلدان أخرى يدخلون سوريا ويعبرونها دون أن تلاحظهم أجهزته الاستخباراتية العنكبوتية ، وهي تشعر بكل شاردة أو واردة فيما يتعلق بأمن النظام وبإذلال الشعب...

- لم يتمكن فلسطيني واحد من عبور الجولان للهجوم على اسرائيل منذ أن احتله الاسرائيليون عام 1967 وإلى الآن. أم أن اسرائيل تحمي له الجانب السوري أيضا.

ويحاول الرئيس اقناع الأمريكيين "السذج؟" بأنه رهن أوامرهم ومستعد لتنفيذ مايريدونه، ولكنه لايعلم حقيقة ماذا يراد منه، كما لا يعلمه الأمريكان أيضا – حسب قوله -.. ولكنه في الوقت نفسه يهدد بأسلوب غير مباشر بأن سوريا التي لها دور كبير في المنطقة ستصبح سببا من أسباب اختلال الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة إن لم يسمح الأمريكان للعائلة الأسدية بالبقاء في حكم البلاد تنفيذا للشعار الذي ذكرناه آنفا.... في وقت تنبهه السائلة بأنه في خطر كبير.

طبعا هذا دليل على أن الرئيس السوري الحالي يجد نفسه أقدر على القيام بالمهام التي يمكن مطالبته القيام بها من أي رئيس سوري قادم، كما أنه أقدر أيضا على نشر الاضطراب والفوضى... وهذا هو الخطأ الكبير المميت الذي تقع فيه القيادة السورية ، وهي في مرحلة يأس وقلق بحيث يضطر رئيسها للدفاع عنه بنفسه بعد أن سقطت من أيديه كل أسلحة الهجوم.. وذلك حسب مبدأ: علي وعلى أعدائي يارب!

أما رئيس ورائه فقد صرح مرات عديدة بأن أمريكا تخاف من مهاجمة سوريا بهدف بث الفزع في قلب النظام أو اقالة رئيسها أو التخلص من البعث السوري، وهو يشير بذلك إلى أن المعارضة التي ستتسلم الحكم في حال سقوط البعث هي "معارضة دينية" أشد عداء لأمريكا واسرائيل وحلفائهما من البعث السوري، ولكنه لضحالة المياه التي تبحر فيها سفينته المهترئة ينسى أن المعارضة السورية بكل طيفها السياسي والفكري ، بما فيه التيار الديني، لم يعد تقف مكتوفة اليدين، حيث ترى النظام يركع لأمريكا من أجل البقاء ويتوسلها علنا، فتعمل على اقامة علاقات متوازنة مع الغرب بأكمله، بحيث لايعود الغرب يخاف من تحول سورية إلى بؤرة منتجة ومنجبة للإرهاب، وعند ذلك يزول هذا الخوف الأمريكي وتسقط مقولة "أمريكا تخاف من مهاجمة سورية" التي يترنم بها سيادة رئيس الوزراء السوري في كل مناسبة...

إن تصريحاته الأخيرة تذكرنا بشقشقاته "التعبانة" حول القضية الكوردية في سوريا، ولذا يمكن القول بأن من الأفضل للنظام حقا منع هذا "القطب المجدد!" من الادلاء بأي تصريح صحفي، حيث يستغرب بعض الخبراء الغربيين من شأن هذا الذي عقدت عليه آمال التغيير والتجديد.

أما وزير الإعلام السوري فإنه في مقابلة له مع قناة الجزيرة القطرية منذ أيام قلائل قد هدد أمريكا في حال قيامها بهجوم على سوريا ب"جهنم كبير!".. فمن سيكون "حطب جهنم" هنا ؟ الشعب السوري ؟ كلا فالنظام لايثق به. لاشك وأنه يهدد بحزب الله وبعض المنظمات الفلسطينية وكذلك بجماعات الإرهاب لأبي مصعب الزرقاوي وأيمن الظواهري وأسامة بن لادن...إلا أن هذا الصف منشق ومتنافر ومتناقض بذاته ، حيث هناك "القاعدة" السلفية و "إيران" الشيعية خلف هذه المنظمات، وحربهما المسعورة لن تنتهي بسرعة ولن تضحي هذه الأطراف بقواها من أجل إنقاذ البيت الأسدي ، وبخاصة الفلسطينيون الذين عانوا مرارا على أيدي البعث السوري وتخلوا في الساعات العصيبة عن مجاهدهم وممولهم الأكبر صدام حسين مرتين، في حربين متتاليتين ، في الكويت وفي بغداد أيضا. ولن يحملوا السلاح للدفاع عن دمشق بعد أن تخلوا عنه لتحرير القدس! ولن ينسى الفلسطينون أن هذا النظام أغلق عليهم على الدوام طريقهم عبر الجولان...

وهكذا نجد إعلاما سوريا متناقضا وضعيفا يذكرنا بإعلام الصحاف، آخر وزير إعلام بعثي في العراق، قبيل سقوط بغداد عام 2003 في أيدي القوات الأمريكية التي أطاحت بنظام صدام حسين. ولا أدري لماذا توجد وزراة للإعلام حتى الآن، إن كانت النية في التجديد صادقة؟ أليس بقاء هذه الوزارة دليل آخر على عدم قدرة النظام على تجديد نفسه؟

يمكننا القول بعد كل هذا "التعفيس" بأن النظام الأسدي ليس على طريق التجديد وانما على طريق الانتحار بما تصدر عنه من تصرفات وأقوال توحي بأن صحته النفسية مزرية للغاية وبأنه في وضع غير قابل للتحسن ولا طريق أمامه سوى الانتحار، وقد خطا قطبه الأمني الأكبر غازي كنعان أول خطوة في هذا الاتجاه المأزقي المميت .