النفوذ الإيراني في سورية
النفوذ الإيراني في سورية
محمد الحسناوي
في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي خضعت المنطقة العربية ، ولاسيما سورية ومصر ، للنفوذ الروسي بمختلف أشكاله ، السياسي والفكري على حد سواء ، ووصل الأمر إلى درجة قيام أنظمة عربية ماركسية في كل من السودان ( أيام النميري الأولى ) وفي اليمن الجنوبي قبل وحدة اليمنين ، وكانت الفاتحة المؤثرة صفقة الأسلحة التي أبرمتها مصر عبد الناصر مع تشيكوسلوفاكية نتيجة التضييق الأوروبي الأمريكي على تسلح العرب في وجه التسلح الإسرائيلي واختلال ميزان القوى في المنطقة ، وهلل العرب من المحيط إلى الخليج فرحين بكسر الطوق على التسلح ، زاد في ذلك تعاون الاتحاد السوفياتي ومن شايعه مع العرب في المحافل الدولية في القضية الفلسطينية وفي رد العدوان الثلاثي على مصر وقناة السويس .
ومع كل تلك المؤثرات كان هناك تمييز متصاعد بين البعد السياسي والبعد الفكري للعلاقة بين العرب وبين روسية الشيوعية ، تمارسه الأحزاب القومية والإسلامية على حد سواء ، بل إن الرئيس عبد الناصر الذي شق طريق العلاقات مع الكتلة الشرقية ، وفتح باب النفوذ الروسي غير قاصد ، كان رائداً في الفصل العملي بين البعد السياسي والبعد الفكري الماركسي للعلاقات . ففي بداية الوحدة مع سورية تمت مصادرة الحزب الشيوعي السوري الذي رفض الوحدة العربية بين القطرين ، وظهر على السطح خلافه مع غورباتشوف حول الأحزاب الشيوعية في المنطقة بدءاً بمصر ، لكن ذلك لم يمنع من انصباغ مراكز القوى المصرية الحاكمة بالفكر الماركسي لمحاربة الإخوان المسلمين ، ولملء الفراغ السياسي المصري ، حتى مجيء خليفته أنور السادات ، وتصفية مراكز القوى بالتوازي مع التحولات ضد الفكر والنفوذ الشيوعيين في المنطقة . وكانت الضربة القاصمة انفراط المنظومة الاشتراكية ، بدءاً من روسية والاتحاد السوفياتي .
مع سقوط شاه إيران في مطلع الثمانينيات ، وظهور الخميني والثورة الإيرانية ، وقيام دولة الآيات في إيران ، دخلت المنطقة تحت نفوذ جديد إيراني ، أخذ يحل شيئاً فشيئاً محل النفوذ الروسي ، لكأنما كتب على العرب أن يخرجوا من نفوذ إلى نفوذ ، وأن لا تكون لهم استقلالية كاملة أو رسالة في الحياة ، وهم أصحاب الرسالات السماوية ، ومهبط الديانات ، ومنبع الحضارات القديمة والوسطى .
للعرب - ولا سيما دول الطوق حول فلسطين - مصلحة سياسية في توثيق العلاقة مع العالم الإسلامي ، ومع دولة إيران ، وإسهام حزب الله في تحرير جنوب لبنان ، ولكن ليس لهم مصلحة في استيراد الشعوبية ، واحتلال جزر أبي موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى ، والتشكيك في القرآن الكريم ، وفي سب الصحابة الكرام ، وعلى الأخص الخلفاء الثلاثة وأمّ المؤمنين عائشة ، رضي الله عنهم ، وفي تمجيد الفارسي أبي لؤلؤة الذي اغتال ألخليفة عمر بن الخطاب ، فيقام له مزار مشهور إلى اليوم ، ثم الطمس المنظم لهوية عربستان . ولا مصلحة للعرب في إباحة نكاح المتعة الذي يتحول إلى الفاحشة ، ولا في محو الهوية العربية للعراق ، والاعتراف بقومية فارسية بين النهرين ، وانسلاخ الجنوب العراقي باسم الفيدرالية ، إلى آخر المتوالية . ونحمد الله تعالى أن كان الشيعة العرب ، ممثلين بتيار الصدر والخالصي وزعماء العشائر في العراق ، يرفضون شعوبية حزب الدعوة والمجلس الأعلى لما يسمى الثورة الإسلامية بقدر ما يرفضون تدخل إيران بالشؤون العراقية في الوقت نفسه .
من مصلحة العرب والفرس أن يتعاونوا ويتعاضدوا سياسياً في قضية فلسطين ، وفي التخصيب النووي ، وفي كل ما يدفع غائلة المخططات الأمريكية المعادية . وليس من مصلحة الفريقين أن يتناحروا فكرياً بتصدير التشيع ، أو تجاوز فريق على آخر في الأرض أو العقيدة .
أكثر العرب اليوم يجهلون أن بلاد فارس كانت منذ صدر الإسلام وإلى مدى قريب (سنيّة ) أي تحب العرب ممثلين بالصحابة الكرام وبالعربية لغة القرآن الكريم ، إلى أن ظهرت الحركة الصفوية في القرون الأخيرة ، وفرضت التشيع الصفوي بالسيف ، وأقامت مجازر جماعية وحروباً أهلية لتحقيق ذلك . وهذا يعني أن تصدير هذا التشيع إلى العالم العربي يوقد حروباً أهلية وفتناً داخلية وتناحراً نحن في غنى عنه ، فضلا عن كونه مورداً لنا موارد التهلكة في الدنيا والآخرة . فمثلا كلما اتجهت الخلافة العثمانية في الماضي لمناجزة أعدائها في أوروبة قام الصفويون باحتلال العراق وشغل الجيش العثماني من الشرق ، هذا غير المجازر التي ترتكب في تلك الحروب . وقد تناقلت الصحف العربية المتخصصة ( خطة سرية موجهة من مجلس شورى الثورة الثقافية الإيرانية إلى المحافظين في الولايات الإيرانية ) ومدة هذه الخطة خمسون عاماً ، على خمس مراحل ، الغاية منها تشييع أهل السنة المتبقين في إيران والدول المجاورة ، وتصدير الثورة الإيرانية . ( انظر مجلة البيان – المنتدى الإسلامي – لندن – عدد123 ) .
بصرف النظر عن الحديث حول (الهلال الشيعي) في المنطقة العربية ، وعن التجاذبات السياسية حول هوية العراق العربية ، وانتباه الأنظمة العربية المتأخر أو تقصيرها ، وإسهام إيران في تسهيل احتلال الأمريكان لكل من أفغانستان والعراق .. سوف نقصر حديثنا على النفوذ الإيراني في سورية ، ومخاطره القريبة والبعيدة على سورية العربية وعلى المنطقة بأسرها .
يتمثل النفوذ الإيراني في سورية بمظاهر متعددة ، غبر المواقف السياسية الخارجية التي لا خلاف عليها ، يجمع هذه المظاهر الدعوة للتشيع الصفوي ، وذلك :
1- بقدوم دعاة يطوفون المدن والقرى مثل الشيخ عبد الحميد المهاجر الذي خصص له برنامج في تلفزيون دمشق كل يوم جمعة ، وآية الله عبد الصاحب الواحدي الموسوي ، والشيخ علي البدري الذي يعد من كبار الدعاة في العالم ( قام بإنشاء مراكز للتدريس ومكتبات للمطالعة في كل من اليمن والمغرب والجزائر وتنزانيا وغينيا وسيراليون وهولندا وألمانيا ولندن والسويد والدانمارك ) وزار مصر والسودان ، ونشط في محافظات حلب وضواحيها ، وحمص وضواحيها ، والحسكة والقامشلي والرقة واللاذقية وضواحيها ودير الوزر، وافتتح عشرات المكتبات حتى توفي عام 1998م ، والداعية العراقي عبد الزهرة .
2 - أو إقامة المناسبات الدينية والموالد أو المؤتمرات الثقافية ، يحضرها مسؤولون رسميون ، وتدعى إليها الجماهير ، والمرأة التي نحضر واسمها زينب تقدم لها هدايا خاصة .
3- وبإقامة مراكز ثقافية أو حوزات دينية ، كما هي الحال في ثلاث مناطق استراتيجية من القطر السوري ، أولاها : في جنوب سورية .. الحوزة الدينية في دمشق العاصمة ( ضاحية الست زينب : أكبر مركز لهم في سورية تكثر حواليه الحوزات والحسينيات ، ويعد أكبر حوزة في العالم بعد النجف وقم ) . ثانيتها في شمال سورية (مركز النقطة أو المشهد ) في ضاحية الأنصاري من حلب ( مسجد ومكتبة ومرافق للولائم والاحتفالات ) وقد شكل فيه ( جمعية الإعمار والإحسان الإسلامية الجعفرية ) التي أنجزت : :
– بناء معهد الإمام الحسين للدراسات الإسلامية .
– بناء صحن آخر للمشهد .
- بناء ميتم .
- بناء مشغل .
- بناء موقف للسيارات القادمة .
– بناء مستوصف ومشفى خيري .
ثالثتها في شرقي شمال سورية .. المركز الثقافي الإيراني في مدينة الرقة ، حيث الإطلال والاتصال بالبادية السورية والعشائر العربية ( مقبرة لأهل الرقة تمّ الاستيلاء عليها ، وتجريف القبور منها ، والإبقاء على قبرين ، يقال إنهما ضريحان للصحابي الجليل عمار بن ياسر والتابعي أويس القرني ، ليشاد حولهما مزار ومقام للعبادة ومرافق للولائم والاحتفالات ومكتبة ) .
4 – بناء المساجد والحسينيات في المدن والقرى والأرياف السورية : مثل مسجد (صفية ) في دمشق – حيّ العمارة منطقة السادات ، مسجد في مدينة عدرا حول دمشق ، مسجد في درعا ( شارع كورنيش المطار الغربي ) عام 2000م . ومسجد النقطة في حلب ، ومسجد وحسينية في مدينة الطبقة ، وحسينيات في قرية خشام قرب البصيرة ، وفي قرى الصغير والصعوة والكسرة التابعات لدير الزور، وحسينية في ناحية الجبسة الشذّادي التابعة للحسكة حيث آبار النفط والعمال قليلو الثقافة .
5 – بناء المشافي الخيرية : مشفى الخميني في دمشق – المشفى الخيري والمستوصف في حلب ، والسيطرة على ( مشفى الهلال الأحمر ) فيها .
6 – فتح مكتبات يسمونها الحوانيت ، لإعارة الكتب وتوزيعها مجاناً ، وربما خصصوا جوائز ( عن كل كتاب ألف ليرة سورية ) لمن يقرأ كتاباً أو أكثر ، وتزداد الهبة بازدياد القراءة ، وتوزيع بعض البرامج (السيديات ) مثل السلسلة الإسلامية (المكتبة الإسلامية الشاملة ) فضلاً عن الصحف والمجلات .
7 – تقديم تسهيلات للراغبين بالدراسة في الجامعات الإيرانية في مختلف الاختصاصات .
8 – توزيع مبالغ من المال في بعض النواحي على شكل قروض ،فإذا جاء أجل موعد التقاضي يُعفى المستدين من قرضه .
9 – توجيه السياحة الدينية من إيران ( للحج ) إلى مقام السيدة زينب في دمشق ، فقد ارتفع عدد الوافدين عام 1978 من سبعة وعشرين ألفاً إلى 202000 بعد خمس سنوات ، أي تضاعف الرقم تسع مرات ( نقلاً عن الدكتور محمد حبش ، نقلاً جريدة تشرين الرسمية ) .
10 – ترتيب زيارات منظمة وموجهة إلى إيران .. لوجهاء سورية ، مثل أساتذة كلية الشريعة ، أو رؤساء العشائر العربية ، بدعوات من السفير الإيراني بدمشق . إحدى هذه الزيارات مجموعة من شيوخ العشائر بقيادة حميد الجربا شيخ شمر ، مثل فيصل العريف شيخ عشيرة خفاجة ، وعواد العواملة شيخ عشيرة الوهب من قرية البويهج . والزائرون يعودون محملين بالهدايا والجيوب المنتفخة .
11 – توزيع جوالق الرز واللحم بالسكر على بعض القرى التي استجابت للدعاية المنظمة . وقد أثر الرز والسكر في قرية كاملة في ريف إدلب .
12 – صرف رواتب شهرية منظمة للمستجيبين للدعاية والعاملين عليها ، ولاسيما في المنطقة الشرقية والجزيرة السورية والبادية . نتحفظ على الأسماء أملاً في أن يستيقظ هؤلاء على ما يراد منهم ولشعبهم ولوطنهم .
13 – تجنيد علماء دين مشهورين ، والعهدة هنا على المصادر الإيرانية ، وعلى أن ما نسب للذين سوف نذكرهم لم يتم تكذيبه من أصحاب العلاقة حتى الآن ، مثل : الدكتور محمود عكام ، من حلب ، أستاذ جامعي وخطيب مفوّه ، كما جاء في مقدمة كتاب ( المتحولون من السنة إلى الشيعة – ص 25 ) ، الشيخ أحمد حسون ، من حلب ، قبل أن يصبح مفتي سورية ، كما وصفه كتاب ( المتحولون ... ص 678) ، وصورته الشخصية تتصدر أحد أعداد مجلة ( المنبر ) الإيرانية . الدكتور محمد ديب رحال ، من معرتمصرين التابعة لمحافظ إدلب ، يسكن في حلب . مصطفى الظاهر ، نشرت له مقابلة في كتاب ( المتحولون ...ص 676) من مسكنة .
14 – حفلات التزويج الجماعي ، كالحفلة التي تمت في مشهد حلب لزواج 60عروساً نفقاتهم مدفوعة من السفارة الإيرانية ومن مكتب خامنئي ، كما صرح عريف الحفل .
ولاستكمال الصورة نشير إلى أن هذه الأنشطة لا تمر دائماً بسلام ، بسبب الاستفزاز الذي تحدثه بين المواطنين ، ففي قرية (جديد بكارة ) التابعة لدير الزور، نصب المتحولون خيمة كبيرة لاستقبال الداعية عبد الحميد المهاجر ، فعمد أحد المواطنين المحتجين على حضوره إلى حرق الخيمة على من فيها ، ففروا مذعورين .
متى حصل كل هذا في سورية ، وكيف ، وإلى أين ؟
لاشك أن سياسات الأسد الأب والأسد ابن هي العامل الأول لكل هذا وسواه مما لم نفصله ، سياسة (غض النظر أو التشجيع الخفي والمعلن ) ، مما أوجد مظلة ومناخاً يشجعان الناشطين الإيرانيين ، ويقمعان المعارضين السوريين ، مما يضاعف الاحتقان الشعبي في سورية ، ويوهن الجبهة الداخلية ، في مرحلة بالغة الحرج والخطورة .
على أن الخيوط الأولى تبدأ منذ زيارات موسى الصدر لشيوخ الجبل ، جبل اللاذقية ، ومن قبله آية الله شيرازي ، واستصدار فتوى مشهورة ، تلحق سكان تلك المنطقة بالشيعة الإثنى عشرية .
النفوذ الإيراني الفكري الاجتماعي الاستيطاني في سورية وتداعياته يجب أن يفصل عن التعاون السياسي في القضايا الخارجية ، و إلا كان معطلاً لها ، وخطراً على سورية شعباً وحكومة ، وعلى المنطقة العربية بالتالي، فهل من سميع ؟
* كاتب سوري