نموذج من معارك الجيش المغوار في بلاد الجوار

نموذج من معارك الجيش المغوار في بلاد الجوار

 

نجدت الاصفرى

[email protected]

حدثني من أثق به، بل أقسم أنه صادق في روايته من خلال ما أعرفه عنه، حيث عشنا متجاورين فترة طويلة من الزمن، ومن اعرف بالجار من جاره؟

كان في منتصف الأربعينات ومتزوج منذ ربع قرن ولم يرزق بذرية،  وكان يتقبل ذلك بإيمان ورضى مبعثه أن الأمر مرتبط بمشيئة الله مع اتخاذه كافة الوسائل التي تعالج المشكلة.. مسقط رأسه في قرية صغيرة وادعة في ريف جسر الشغور، لكنه موظف في ادارة الزراعة في المحافظة التي تبعد حوالي أربعين كيلومترا عن قريته.

له أب شيخ مريض مقعد وام عجوز تقوم على رعايته وفي قلبها لوعة على وليدها الوحيد لبعده عنهما وحرمانه من الذرية التي كانت تحلم ان تملأ عليها حياتها مع زوجها المريض سعادة لا يحس بها إلا من فقد استمرار النسل في عائلة تحصي أيام انقراضها.

هذا الرجل المؤمن الهادىء تعوّد ظهر كل خميس أن يحمل معه ما يبر به والديه ترافقه زوجه المطيعة الطيبة إلى زيارة أهل زوجها عملا بحسن العشرة وتقربا إلى الله في وصالهما.

في هذا السياق سافر جاري كعادته يحمل كيسا فيه ما لذ وطاب ليدخل السرور إلى قلب الوالدين، وانطلقت بهما السيارة إلى القرية الوادعة التي لا يزيد عدد سكانها عن المائة  موزعون على حوالي عشرين بيتا من الطين كغالبية بيوت القرى المجاورة مما يوحي للزائر بفقر السكان ووداعتهم وبساطتهم وقناعتهم.. يعيشون في وئام وترابط عاطفي يغطي الجميع بمظلة من المحبة.

نزلوا من السيارة التي تابعت في خط سيرها الترابي لتنزل ما تبقى فيها من ركاب للقرى المجاورة، وتوجه صديقنا وزوجه إلى دار الأهل، وحالما وصل الباب يطرقه إيذانا منه بوصولهما، ثم يدفعه ليلجا منه حيث الأبواب بلا أقفال أو متاريس.. فلم يقع في القرية ما يستوجب الحذر والخوف منذ أن سكنوها إلى اليوم الذي نتكلم عنه.

قال صديقي: تسمرت في مكاني واعتراني خوف شديد وارتعدت فرائصي وأنا أسمع أصوات مكبرات الصوت تصدح عاليا: يا أهل القرية.. عليكم التجمع في الساحة الغربية رجالا ونساء.. صغارا وكبارا.. مرضى وأصحاء في خلال ربع ساعة، ومن يتأخر فلا يلومن إلا نفسه.

نظرت إلى زوجتي التي غارت عيونها وارتعشت شفاهها واصفرّ وجهها بينما نظراتنا تتساءل عما حدث، ثم رأيت امي تركض نحونا فاتحة ذراعيها لاحتضاننا وهي تتلعثم في نطقها وتتعثر في خطواتها.

رفعت نظري فرأيت الجنود مدججين بسلاح الميدان يعتلون زوايا الأسطح الطينية وهم يصوبون بنادقهم في كل اتجاه، وما إن هدأ روعي قليلا حتى هرعت إلى الوالد أحمله وأنا أنادي بصوت متهدج لوالدتي وزوجتي أن هيا للخروج. لا يمكنني وصف حالة والديّ ونظراتهما واستغرابهما مما لم يسمعا بمثله في حياتهما المديدة التي قاربت الثمانين على اختلاف العهود والنظمة من العهد التركي والانتداب الفرنسي.

سعينا بما أمكننا من السرعة أحمل والدي بينما والدتي تتكأ على كتف زوجتي التي لفت يدها على خصر الوالدة لتساعدها على رفع هامتها التي هدها الدهر والمرض، ووصلنا بعد جهد كبير إلى الساحة التي لا تبعد كثيرا عن المنزل، وإذ بنا أمام سيارات عسكرية عديدة اصطفت حول الساحة تتقدمها سيارة جيب وضع بجانبها طاولة صغيرة خلفها كرسي يجلس عليه ضابط بلباس الميدان حاسر الرأس دون إشارات تدل على رتبته. ما إن اكتمل النصاب من أهل القرية جميعا أمام هذا الضابط في الزمن المحدد حتى قام واضعا يديه المتشابكتين خلف ظهره وبدأ حديثه:

هل هؤلاء هم كل أهل القرية؟.. اسمعوا.. عندكم ربع ساعة لتعودوا إلى بيوتكم وتحضروا أية مواد خطرة أو أسلحة سواء كانت مرخصة او دون ترخيص.. حتى سكاكين المطبخ الكبيرة.. ثم تعودوا بلمح البصر، وإياكم محاولة التهرب من التنفيذ لأننا سوف نتصرف مع كل من يخفي شيئا بما يستحق، وما يستحقه لدينا هو الاعدام امام الجميع.

وبسرعة البرق غادر الجميع ورجعوا كما ذهبوا، فليس في القرية سلاحا، حيث لا ضرورة لأن يمتلكه احد في قرية مسالمة وادعة.. الجميع فيها تشده اواصر القربى من طرف الأب او الأم، وما من مشكلة وقعت في القرية وتوجبت الاحتكام إلى السلاح.

ما إن اكتمل النصاب مرة أخرى حتى تقضل الضابط بالوقوف كهتلر او فرعون زمانه يتبختر في مشيته كالغراب ويلوح بيديه محذرا:

اسمعوا.. سنقوم الآن بالتفتيش الدقيق في كل البيوت، ويا ويل من نجد عنده شيئا أخفاه.. إن عقوباتنا قاصمة حاسمة.. فنحن نقتل الرجل أمام زوجه وأولاده، ونغتصب المرأة امام زوجها وأولادها ووالديها، والتي لا يعجبنا شكلها ولا تستحق الاغتصاب فسوف نجلسها عارية على قنينة كازوز.. لا تظنوا أنني أبالغ فيما اقول، وإن شك أحد في صدق كلامي، فليسأل عما فعلناه في لبنان، وقد أعذر من أنذر.

صم آذاني صراخ الحرائر خوفا على شرفهن ان يدنس من قبل الوحوشن ولم تستطع عيناي المسمرتان على (الاشاوس) يظهرون (بطولاتهم) امام (الأعداء) من سكان قريتي الوادعة، أن تريا الميدان الحي للمعركة التي يناضل فيها (أسود البعث).

بعد ان انتهى حديث الضابط (الشهم) و(البطل المغوار) الذي يستلم راتبه من جيوبنا، اصطف جنوده صفين متقابلين ينتهي كل منهما امام الطاولة الصغيرة التي عاد للجلوس إليها، وأُمر الجميع بالتقدم تجاهه للتحقيق معهم فرادى، فكان نصيب كل منهم لكمة من هذا ورفسة من ذاك حتى جاء دوري، فأمرني العسكري الذي وصلت أمامه أن أترك والدي وحده واتقدم بنفسي إلى الضابط الذي قام من كرسيه وتقدم مني يسألني عن لباسي المختلف عن باقي لباس سكان القرية، فاجبته أنني موظف في المحافظة وقد وصلت للتو مع زوجي لزيارة اهلي والاطمئنان على صحتهم.. قال: وهل وظيفتك تستدعي تلبس (الكرافات) كالأجانب؟!.. فلم أجب إلا بهزة من رأسي لعلها اوقدت الغيظ في نفسه فتقدم يركلني برجله ويضربني بيديه ويصب في أذني كل ما عنده من ألفاظ نابية لم أسمع بمثلها من قبل، وكان وقعها علي شديدا أمام زوجتي وأمي وابي الذي أجهش بالبكاء بينما جأرت امي بالتوسل، وانتهى بي الأمر بأن أمرني بالصعود إلى الشاحنة العسكرية متهما إياي بأنني من الأخوان المسلمين ، فلما أجبته بأنني لم أنتسب في حياتي لأي تنظيم حزبي أو سياسي قال: سيُكتشف صدقك من كذبك في الفرع عند التحقيق.

رجع من كان على الأسطح من العسكر بعد ان فتشوا القرية  بيتا بيتا ولم يجدوا شيئا.. عندها تفضل الضابط (الهمام) فصعد إلى سيارته وحمل عسكره الطاولة والكرسي إلى الشاحنة التي كنت فيها، وإذ بأحدهم يأمرني بالنزول بقوله: انقلع.. قلع الله عينك.

لم تكن فرحتي بإخلاء سبيلي أشد من فرحتي بالرجوع لأحمل والدي الذي وصل به الأمر حد الاغماء، ووالدتي  وزوجتي اللتان لم تصدقا أنني عدت إليهما بخير.