السّلطة
السّلطة..؟!
صلاح حميدة
( دائماً يوجد ضغوطات… ولكن هل يعني وجود الضغوطات، أن نرضخ لها؟…… وبهذه الطريقة؟…….وعلينا أن نسأل أنفسنا سؤالاً…. هل السلطة أصبحت عبئاً على النضال الوطني الفلسطيني؟).
بهذه الكلمات خلص الدكتور ممدوح العكر، أحد أعضاء الوفد الفلسطيني المفاوض في مدريد قبل ما يقارب العقدين، ورئيس الهيئة المستقلة لحقوق المواطن في الضفة الغربية وقطاع غزة، عندما سئل عن رأيه بما حدث من تأجيل للتصويت على تقرير جولدستون من قبل السلطة في رام الله.
في غمرة العاصفة التي أثارها تأجيل قيادة السلطة في رام الله للنظر والتصويت على التقرير الحقوقي للقاضي جولدستون، وفي غمرة الغضب العارم من قبل مؤسسات حقوق الانسان في العالم أجمع على قيادة السلطة الفلسطينية، لفت الدكتور العكر النظر لجوهر القضية، وسبب الخلل، وفيما كانت تتوارد تقارير واتهامات للسلطة وقيادتها ببيع القضية لقاء ترددات هاتف خليوي، من مقرر حقوق الانسان ( فولك) أو اتهامات بالرضوخ لابتزاز كشف المشاركة في الجريمة التي جرت في غزة، بحق أكثر من ألف وأربعماية شهيد، من قبل مصادر استخباراتية وإعلامية مصرية، وأخرى إسرائيلية فيما بعد، أو أن هذا التأجيل تم تحت تأثير المناكفات الحزبية، وإشفاء الغليل من المنافس السياسي الذي يرفض أن ينتهي ويستسلم تحت الحصار والدمار والقتل، قلة فقط ناقشت السبب الجوهري لهذا الإنحدار، الذي قد تشكل كل التقارير السابقة محصلة له، فاليسار قال أن السبب هو الانقسام، وعندما ينتهي الانقسام فسوف تتلاشى كل هذه الحوادث، ولكنهم لم يحددوا الأسس المتينة التي تكفل إنهاء الانقسام بحق، أما القيادي الفتحاوي نبيل عمرو، فقد عزا ذلك إلى الارتجال والبعد عن العمل المؤسسي، ودلل على ذلك بالتصرفات اللاحقة لما جرى من (الفجيعة) إلا أن ما أثاره الدكتور العكر من أن وجود السلطة بحد ذاته، هو سبب هذا الإنحدار والرضوخ للإملاآت الخارجية، هو لبّ القضية وجوهرها.
بالتأكيد أن الانقسام كان سببه ما يجري الآن، وليس العكس، والحديث عن القشور والبعد عن الجوهر، لن يقود إلى الحل أبداً، وسنبقى ندور في دورة مغلقة إلى ما لا نهاية، ولذلك عودة الأمور إلى ما قبل الانقسام الحالي، هو عودة للظروف ذاتها التي هيّأت للاشتباكات الدموية التي جرت، والحديث عن مصالحة مسلوقة تحت طائلة الضغوط والحصار، لن تقود إلى ما يؤمّل فلسطينياً على المستوى الوطني، من قضايا تمس جوهر القضية الفلسطينية، ولذلك يجب النظر إلى الجذور التي قادت إلى ما نعيش، والعمل على حل هذه المشكلة.
بالعودة إلى تصريح العكر، الذي تمّ إهماله، هل السلطة أصبحت عبئاً على النضال الوطني الفلسطيني؟
الجواب، نعم، السلطة أكبر عبء على النضال الوطني الفلسطيني، والسلطة أكبر خطر يتهدد الحقوق والثوابت الفلسطينية، والسلطة أكبر خطيئة، وأكبر حفرة، وقع فيها الشعب الفلسطيني، واستمرارها هو استمرار أكيد للإنحدار الذي نشهده، وإن بقيت، فقد لا يبقى لا أرض ولا شعب ولا قضية، وسيتحوّل الشعب الفلسطيني إلى شعب يعيش في حظائر تنتظر الطعام على أبواب جيتوهات مغلقة، تنتظر واسطة من فلان أو علان مقابل خدمات كثيرة تتعدى طاقة من يقدمها، طبعاً هذا في أحسن الظروف.
السلطة عبء على النضال الوطني الفلسطيني، لأنها قضت وتعمل على القضاء على ثقافة الحياة، وثقافة الكرامة، وثقافة المقاومة، وتعمل على نشر ثقافة العيش على ما يجود به الاحتلال لقاء خدمات وامتيازات ورغيف خبز، وطبعاً هذه الامتيازات أهم من الكرامة ومن الحرية ومن الانعتاق من قيد الاحتلال، وفي النهاية يصبح الهدف هو أن نعيش، حتى ولو تحت قيد وظل الاحتلال، فالمقاومة هي الموت، والتعايش مع الاحتلال هو الحياة، والاحتلال أصبح الجانب الاسرائيلي، والجار الاسرائيلي، ولم يعد احتلال، والمحتل والمغتصب لأرضنا، صار ضيفاً عزيزاً، ومن الجريمة مقاومته أو إزعاجه بينما يسرق ويغتصب أرضنا ومقدّساتنا، ويقطع ويحرق أشجارنا وثمارنا.
السلطة عبء ثقيل على النضال الفلسطيني، لأنها قتلت وتعمل على قتل روح الشهامة والتضحية والتعاون بين أفراد الشعب الفلسطيني، وأشاعت روح الانتفاع والاعتياش والأنانية بين الناس، فقد اختفت بشكل شبه نهائي عادة وثقافة التعاونيات، والعمل الاجتماعي في طريقه للاضمحلال، وحل محله ثقافة قبض الراتب آخر الشهر، وترك العمل الانتاجي الزراعي والصناعي، وحلت محله ثقافة المتاجرة بكل شيء من أجل المال.
السلطة عبء على النضال الوطني الفلسطيني، لأنها أشاعت ثقافة ( العسس) بين الناس، على مستوى المدرسة، والحارة والعائلة والبلدة والقرية، يتجسس الناس على بعضهم، وبالتالي فقدت الثقة فيما بينهم، وشاعت الفرقة والاحتقار والتسابق لرفع التقارير في الآخر، وهنا يتذكر الانسان قول الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز لمستشاريه الذين نصحوه بزيادة العسس ( المخبرين) فقال لهم:-
( لا، إذا أكثرت العسس، أفسدت الرعية) فهذه السلطة أفسدت وتفسد الرعية.
السلطة عبء على النضال الوطني الفلسطيني، فهي حولت شريحة هامة من الشعب من شريحة مقاومة للاحتلال، إلى شريحة تقاتل من يقاتل الاحتلال، تحت عناوين متعددة، وأنا هنا لست بصدد وضع تصنيفات لهذا وذاك، ولكن ما يهمّني فقط، هو تشخيص الحالة التي وصلنا إليها بعد نشوء هذه السلطة، فبالتزامن مع نشوئها، نشأ الانقسام، وكان من الواضح أن هذا الانقسام يتجذّر وسيتجذّر أكثر في كل يوم تعيشه هذه السلطة، وكلما طال عمرها، طال عمر الانقسام، وكلما تجذرت، تجذر الانقسام.
السلطة عبء على النضال الوطني الفلسطيني، لأنها لم توصلنا إلى التحرر من الاحتلال، ولن تقودنا إليه، فهي قزّمت الحقوق الفلسطينية، وبدلاً من أن تكون جزءاً تابعاً إدارياً وسياسياً لحركة التحرر الوطني الفلسطيني، قامت بابتلاع حركة التحرر الفلسطيني وحجّمتها، واستوعبتها في هياكلها، ومن رفض ذلك كان مصيره التسميم والقتل، ومن رفض ذلك بعده كان ولا يزال مصيره كمصير من سبقه حصار وقتل ودمار وتجويع وحرب لم يسبق لها مثيل في التاريخ.
السلطة عبء على النضال الوطني الفلسطيني، لأنها أوهمت جزءاً من الفلسطينيين، وأوهمت جزءاً مهماً من العالم، أننا نعيش في دولة، فيها وزارات وبرلمان ورئيس ورئيس حكومة، وحراسات وتشريفات، ولكنها كلها بلا سيادة حقيقية، إلا على المواطن الفلسطيني فقط، الذي لم يتحرر من الاحتلال بعد، بل زاد ضغط الاحتلال عليه، بشكل لم يسبق له مثيل منذ بداية الاحتلال.
إذاً ما الحل الأمثل للخروج من المأزق؟ هل الحل بتنشيط الهياكل الإدارية في هذه السلطة؟ وهل الحل يكمن في انتخابات جديدة رئاسية ونيابية لهذه السلطة؟ وهل الانتخابات ستأتينا بالحل والمصالحة المفقودة والموعودة؟ وهل سنصل بمعيّة سفينة السلطة إلى الحقوق الفلسطينية في التحرر والعودة والقدس بمقدّساتها؟ وهل سنصل بمعيّة هذه السلطة إلى اقتصاد قوي، وهياكل أمنية تحمينا من الاحتلال والمستوطنين؟
أنا أجزم أننا لن نصل إلى أي شيء نطمح له بمعيّة هذه السلطة، وإن تم تصالح أو تعايش، فسيكون مؤقتاً، وإن كان هناك من محاولات تتم في سبيل ذلك، فهي مؤقتة، وستكون فقط مرحلية، أو ممهدة لاحتراب آخر، فالسلطة هي سبب الانقسام، ولن يكون هناك حل للانقسام والعودة إلى السّكة النضالية الصحيحة إلا بحل هذه السلطة، فمعها انعقد الانقسام، وبحلها ينحل الانقسام.
إذاً ما السبيل؟
لا يكفي موقف الفصائل الفلسطينية بتعليق أو تأجيل المصالحة بسبب موقف قيادة السلطة في رام الله من تقرير جولدستون، فهذا لن يحل المشكلة، أعتقد أن كل تلك الفصائل والشخصيات الوطنية المهمة، والمؤسسات الاهلية والحقوقية، والكثير من الذين يدركون المأزق الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، من النّخب الثقافية والسياسية الوازنة، كل هؤلاء مطالبون بالإعلان صراحةً، بأن المصالحة الفلسطينية الداخلية مرتبطة بحل السلطة بشكل نهائي، وإن كان سيتم انتخابات، فانتخابات للمجلس الوطني فقط، وإن كان سيكون أيّ هياكل تمثيلية للفلسطينيين، فهي هياكل غير ملحقة، وغير خاضعة للاحتلال، بهذا فقط ينتهي الانقسام، وبهذا فقط تعود البوصلة إلى وجهتها الصحيحة، وبهذا فقط يقاتل الفلسطينيون في كل المحافل الدولية بقوة، ويستطيعون انتزاع حقوقهم من حلق الأسد، أما إن تم لفلفة وسلق ما يطلق عليه مصالحة، والاستمرار في التوجهات الحالية، فسنبقى في نفس دائرة الصراع الداخلي، والانحدار على المستوى الوطني والحقوقي.