عذراً د. فيّاض
عذراً د. فيّاض !
صلاح حميدة
بداية، ليس لي معرفة سابقة بك يا دكتور، ولا تجمعني بك مصلحة، ولا تفضني عنك خلافات شخصية، ولكن كان لا بد من كتابة هذه السطور، حتى تستبين مكانتك ونظرة بعض الناس للدور الذي تقوم به، وتقييمهم لما قمت به منذ أن ظهرت فجأة في الحياة السياسية الفلسطينية، , وتم تعيينك وزيراً للمالية، وتم اتهامك حينها من قبل حركة فتح، بانك مفروض على الرئيس الراحل ياسر عرفات لحجب الدعم المالي عن الأعمال العسكرية المقاومة للاحتلال، ومروراً بالانتخابات التشريعية التي خضتها تحت شعار ( الطريق الثالث) وتحالفك مع بقايا اليسار الفلسطيني، أو من ترك اليسار الفلسطيني وتحول إلى أقصى اليمين اللا ديني.
أظهرت الانتخابات الفلسطينية أنك لا تحظى بشعبية بين صفوف الفلسطينيين، مع أن الدعاية الكبيرة والمكلفة، والتي كانت تحرص على إظهارك بمظهر النزيه مالياً والذي يحظى بالقبول الدولي، ودعم عضو في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير لك، وضمك للدكتورة حنان عشراوي لقائمتك، فظهرت جليّةً محدودية صنع ( الطريق الثالث) ثم مالبثت الدكتورة عشراوي أن تركتك، وبقيت عضواً وحيداً في المجلس التشريعي بين أكثر من مئة..
عندما شكلت حكومة الوحدة الوطنية، تم تعيينك وزيراً للمالية، تحت العديد من العناوين، كان أهمها المقبولية الدولية، ولكن لم يكن لهذه المقبولية أي أثر في رفع الحصار عن الحكومة والشعب الفلسطيني، ولم تعمر هذه الحكومة طويلاً، فقد كانت المؤآمرات والاحتقان والتدخل الدولي قد بلغ ذروته، وتوّج ذلك بأحداث قطاع غزة.
بعدها ظهرت أنت من جديد، فلا مال بلا سلام فياض؟ ولا قبول لأي حكومة معينة في الضفة الغربية، إلا إذا ترأسها فياض؟ ولا نجاح للحوار إلا إذا توافق المتحاورون على أن ترأس أنت الحكومة الفلسطينية؟ تم تشكيل الحكومة التي كانت نتاجاً مباشراً للانقسام الفلسطيني بين قطبي السياسة الفلسطينية، وبدأت بممارسة أعمالك، وتبين أن المال المقدم لحكومتك، مقرون بممارسات سياسية وأمنية وإعلامية على الأرض، وأن محاولات فرضك على الواقع السياسي الفلسطيني، ليست متعلقة فقط بالنزاهة ونظافة الكف، وأن الموضوع يتعدى ذلك.
يشهد لك العديد من المراقبين بأنك قمت بإعادة رواتب الموظفين عبر المال الأمريكي والأوروبي والرسمي العربي، والفلسطيني المحتجز من قبل الاحتلال، الذي تدفّق فجأة على الخزينة الفلسطينية في رام الله، عاد الراتب إلى الآلاف، ولكنهم يتهمونك بقطعه عن الآلاف؟ وقمت بإحالة الآلاف على التقاعد وبراتب وامتيازات كاملة، بينما غيرهم وبالآلاف لم يحظوا بذلك؟ وتتهم بفصل الآلاف من وظائفهم لأنهم لا يحملون أفكاراً ترضى عنها أنت ومن يدعمك، وأنك قمت بتوظيف الآلاف وفقاً لمدى تقديمهم الولاء لمن يطعمهم، وأنك حرمت آلاف الخريجين من العمل والوظيفة وأخذ تصاريح معينة لممارسة مهن بعينها، فقط لأنهم يحملون أفكاراً لا تتوافق مع ما تريده أنت ومن يموّلك، وأنك قمت بترقيات وتعيينات ومنح ميّزات وظيفية ومالية لموظفين لمجرد ولاآتهم للنهج الذي تنهجه، وليس وفقاً للكفاءة والنزاهة.
كما تتهم بأنك قمت بالتعدي على الأغلبية النيابية التي تحظى بالأغلبية الشعبية والانتخابية والثورية، وتفردت في كل شيء تحت سلاح المجتمع الدولي والاقليمي الذي دعمك فيما ذهبت إليه، وفيما نصحك بعض الأوروبيين علانيةً بالبعد عن الاستبداد، أنت متهم بأن كل تصرفاتك وسياساتك أحادية و ليس لها أي أرضية شعبية، أكبر مثال على الاستبداد، فلأول مرة يتخذ رئيس وزراء برلماناً من مؤسسات مجتمع مدني ليس لها أي ثقل شعبي، ويتجاهل طلبه من المجلس النيابي لإضفاء الشرعية على حكومته، فأنت متهم بتجاوز الحالة السياسية الفلسطينية بشقيها، وتعلن عن برنامجك السياسي، وأن هذا البرنامج قلّص القضية الفلسطينية وقزّمها في خدمات وهياكل إدارية، ومؤسسات أمن داخلي، لا تحمي الشعب من الاحتلال، ولكنها أداة في الصراع الداخلي وقمع الآخر فقط، وهذا ما اتهمك به مستشار الرئيس الفلسطيني السابق بسّام أبو شريف عبر فضائية الحوار، عندما ذكر تفاصيل حوار دار بينه وبين مجموعة من رجال الأمن الذين يتم صناعتهم على يديك أنت ومن يمولك، فلا عرفوا صلاح خلف، ولا عرفوا خليل الوزير، وبالكاد عرفوا ياسر عرفات، وإذا ما دخل جيش الاحتلال لاعتقال رئيس حركة فتح فالأوامر عندهم ( ممنوع أن تطلق النار على الاسرائيليين)، فإذا كان ممنوعاً على هذا الجهاز الأمني الذي تبنيه أن يحمي الرئيس الفلسطيني ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية من الاعتقال، فمن سيحمي هؤلاء؟ وعن من سيدافع هؤلاء؟ وعلى من سيطلق هؤلاء النار؟ ومن سيضربون بهراواتهم التي يحملونها؟ والكلام هنا لبسّام أبو شريف.
أنت متهم من قبل العديد من المراقبين والمؤسسات الحقوقية، وأحزاب ونواب وأهالي معتقلين ومعتقلين، ومن بينهم أحد الخبراء الأوروبيين الذين يشرفون على تدريب شرطتك ( في مقال له على صحيفة القدس) أنه في عهد حكومتك يا دكتور أصبح الاعتداء على المعتقلين سياسة، والشهادات والممارسات تتوالى وتظهر نتائجها إلى العلن، فالكثير من المعتقلين، وخاصة السياسيين يخرجون بشهادات بتعرضهم للاعتداء والتعذيب، ويقول بعضهم أنه تعرض للتنكيل على يد قواتك الأمنية، ويتهمونك بأنك تتجاهل متابعة تظلماتهم، وأنك لم تكلف نفسك عناء النظر بتلك التظلمات، ويقول العديد من المعتقلين أن مندوبي الصليب الأحمر يقولون لهم أنهم يقدمون التقارير لك عن ما يجري في سجونك، فهل كلفت نفسك عناء النظر في تقريرهم؟ العديد من مؤسسات حقوق الانسان زارت وتزور المعتقلين وتسمع منهم، ولكنها لا تتكلم، وبعضها مؤسسيها وزراء في حكومتك، فهل كلفت نفسك عناء السؤال والاستفسار؟ وهل كلفت نفسك عناء زيارة المعتقلات والسماع من المعتقلين عن ما جرى ويجري بحقهم؟ على الأقل حتى تتأكد من صحة كلامهم؟.
أنت متهم من قبل حركتي حماس والجهاد الاسلامي بمصادرة أموال الوقفية الخاصة بالشهداء والأسرى، وتعتبران أنه لأول مرة في تاريخ الشعب الفلسطيني، تتم مصادرة مخصصات أهالي الأسرى والشهداء، وتعتبر غير شرعية، وهذا لم يكن إلا في عهد حكومتك، فقد بلغ الخلاف أوجه بين الحركتين والرئيس الراحل ياسر عرفات، ولكن مخصصات الأسرى والشهداء لم يضع يديه عليها، وكان يستطيع.
أنت متهم يا دكتور من قبل العديد من المتابعين والهيآت والحركات والنواب، بأنك لم تحارب الفساد، ويعتبر هؤلاء أن التوظيف بمعيار سياسي، فساد، والمكافأة المالية والترقيات بمعيار سياسي، فساد، ومنح التراخيص وما يعرف بحسن السلوك بمعيار سياسي، فساد، ومنع ومنح المال والراتب بمعيار سياسي، فساد، و طرد أعضاء البلديات المنتخبين، ووضع مكانهم أعضاء معينين، فساد، ومنع تكافؤ الفرص في التقدم للوظيفة والانتخابات النقابية والطلابية فساد، واعتقال الناس بلا مبررات قانونية ومصادرة أموالهم بلا مسوغ قانوني، فساد، وانتهاك حقوق المعتقلين، فساد، ومصادرة الجمعيات والمؤسسات والأموال المنقولة والغير منقولة بلا أي رصيد قانوني أو أخلاقي، فساد، والتضييق على المؤسسات الاعلامية واعتقال الصحفيين وإغلاق وحجب العمل الاعلامي عن بعضها، فساد.
أنت متهم يا دكتور من عدد من المتابعين والسياسيين والاقتصاديين، بأنه عدا الرواتب والامتيازات المالية لطبقة معينة من الفلسطينيين، لم يجن الشعب الفلسطيني من سياساتك المالية إلا تطوراً في الشركات والمهن الخدماتية، وهم يعتبرون أنها فقط تعد من أكثر الوسائل احترافاً في سحب أموال المواطن من جيبه بعد قبض الراتب آخر الشهر، فالكهرباء ترتفع فاتورتها وتتقلص من كل شهرين إلى كل شهر، وتأتيك أضعاف سابقاتها، وحين ينخفض سعر النفط لا تنخفض قيمتها، ترتفع كلفة رغيف الخبز والمواد الغذائية والخدمات والمواصلات، ولا تنخفض أبداً، يتراجع الانتاج الفلسطيني، ويتحول الفلسطيني من منتج وصانع ومزارع، إلى موظف ينتظر الراتب الذي ستجلبه يا دكتور آخر الشهر، ويتساءل عدد منهم، هل المقصود أن يرى كل مواطن فلسطيني العلم الأمريكي على كل رغيف خبز يأكله، كما حال بعض الدول العربية؟.
أما ما جرى من تعامل مفجع مع التقرير الأممي حول جرائم الاحتلال في قطاع غزة، فكل ما قيل وما سيقال من كلام واستنكار واستهجان بحق من قرر هذا القرار فهو لا يكفي، وقد يكون المثل الفلسطيني الأدق في وصف هذا التصرف هو ( مثل الذي جاء الناس ليساعدوه في حفر قبر والده، فحمل الفأس وهرب به)!!.
ولكن يرى آخرون أنه من الموضوعية أن لا يتم تحميلك المسؤولية الكاملة عن كل ما سبق من اتهامات بحقك، وبالتأكيد من يغطيك سياسياً يتحمل عبئاً كبيراً من المسؤولية، ولكن حجم الحملة الدعائية لحكومتك وشخصك، يستلزم سرد المواقف على اختلافها، وتبيان أنك لم تستطع تحويل التجمّعات السكانية للفلسطينيين في الضفة إلى فردوس، وأننا لا زلنا نعيش رهائن للتحويلات المالية العابرة للحدود، وأخرى تتعلق بضرائبنا المحتجزة لدى الاحتلال، كما أن واقع حال الاستيطان وهدم البيوت الفلسطينية و إجراآت الاحتلال والمصادرة المتصاعد بشراهة وشراسة، يؤكد أننا لا نسير باتجاه إقامة دولة، ولا باتجاه اقتصاد مستقر ومستقل.
ففي الفترة الأخيرة يلاحظ أي مراقب حملة دعائية كبيرة لك، على الصحف والمواقع الالكترونية والفضائيات، وخاصة الفلسطينية منها، وبالذات من تتفق أجندتها مع السياسات التي تتبعها، فلا يشرب الفلسطيني الماء إلا عبر المضخة التي تفتتحها، ولا يقبض الراتب إلا عبر ما تجلبه، ولا ترويج لخطط سياسية لأي فصيل إلا لخطتك لإقامة الدولة الفلسطينية عبر الهياكل والاقتصاد، ويتساءل العديد من الناس والمحللين عن قيمة أي اقتصاد لا يستطيع إدخال وإخراج ما يريد إلا بمزاج جندي إحتلالي على الأبواب؟ وعن قيمة أي تشكيلات أمنية لا تستطيع أن تحمي شعبها ولا رئيسها؟ فالقضية الفلسطينية تتلخص بصراع سياسي وحضاري على أرض موجودة إسمها فلسطين، واضحة الجغرافيا والديموغرافيا، لا صراع اقتصادي وحسن سلوك أمني تجاه الاحتلال، ويعتبر هؤلاء أن ما تقوم به ما هو تخليد للتبعية الاقتصادية والأمنية للاحتلال، وليس طريقاً للخلاص والتحرر منه.
قد ترى وتسمع يا دكتور العديد من المطبلين والمزمرين والمنافقين، وهم يروّجون لك ويسلّطون الضوء على كل كلمة وفعل تقوم به في حملة من الواضح أنها مخططة وبشكل دقيق، ولكن يا دكتور عليك أن تعيش الواقع، ولك في تجربتك السابقة عبرة، قد ترى حولك الكثير من الغبار نتاج تحلق الكثير من الراغبين بالفائدة المالية حولك، ولكن هؤلاء عبر التاريخ لا يمكن أن يشكلوا حالة عامة في مجتمع، وهم وحسب سرعتهم في التجمع حول من يجلب لهم المنفعة، هم الأسرع في الانفضاض عنه حين مغرم، فلا تغرنّك كثرتهم ولا تطبيلهم ولا تزميرهم ولا نفاقهم، ولا تنخدع بحماسة من سماّك بنغوريون فلسطين ولا روتشيلد الفلسطيني، فلن تكون بنغوريون، ولا أنت روتشيلد فلسطيني كذلك، بنغوريون أقام دولة مغتصبة على أرض لا يملكها، بدعم من قوى الاستعمار في العالم، وروتشيلد دفع من ماله لصالح بناء مستوطنات يهودية في القدس، فأنت وحكومتك متهمون من الوزير السابق في حكومتك حاتم عبد القادر بأنكم مقصرون بشكل خطير جداً- وعن سبق إصرار- بحق مقاومة التهويد والاستيطان وهدم بيوت الفلسطينيين في القدس، وأن كل نداآته لكم لفعل شيء لإنقاذ القدس والأقصى وتمويل هذا الانقاذ باءت بالفشل، مما دفعه للإستقالة.
وفوق ذلك، يرى الكثيرون أن للفلسطينيين والعرب الكثير من الشخصيات التاريخية التي يحبّون أن يتشبه بها من يطمح لقيادتهم، أمثال عز الدين القسام، وعبد القادر الحسيني وغيرهم ممن تقدموا الصفوف في الدفاع عن قضية الفلسطينيين العادلة.
قد يصلك مقالي، أو لنقل رسالتي، وقد لا تصل، قد يعجبك كلامي، و قد لا تعجبك صراحتي في مخاطبتي لك، ولكن يا د. فياض لا بد أن تسمع ما يجب أن تسمع، لا ما تحب أن تسمع.