نحو ممارسة التصويت العقابي في التشريعيّة والرئاسيّة في تونس

نحو ممارسة التصويت العقابي

في التشريعيّة والرئاسيّة في تونس

م. فتحي الحبّوبي

في مسرحيّته الهزليّة "زواج  فيغارو" (Le Mariage de Figaro "  ذات البعدين السياسي والشبقي، والتي تحكي عن الأرستقراطية الإسبانية في القرن الثامن عشر وعلاقتها الإستبداديّة بالرعيّة، قال  بيار دي بومارشيه (Pierre de Beaumarchais) على لسان أحد شخوص المسرحيّة : «عندما يكون العار عامّا، ينبغي أن يكون الانتقام عامّا كذلك». وهو عين ما يمكن توصيف المجلس الوطني التأسيسي التونسي به والموقف الإنتقامي أو لنقل الموقف العقابي الواجب أتّخاذه إزاء المنتسبين إليه في الإنتخابات القادمة، أواخر أكتوبر 2014. فهؤلاء المنتسبين إلى هذا المجلس المعرّة - ولا أقول النّواب، لأنّهم برهنوا بوضوح لا يعتريه شكّ، أنّهم لا ينوبون أحدا سوى أنفسهم- يدمنون التغيّب عن حضور الجلسات العامّة، ناهيك عن الجلسات التحضيريّة في اللّجان المختلفة للمجلس. بما يعني أنّهم غير معنيين بالمهمّة التأسيسيّة أو البرلمانيّة التي انتخبوا من أجلها. وهو ما يعطّل عمل المجلس، لعدم اكتمال النصاب القانوني، و يترتّب عنه رفع الجلسات وتأجيل المصادقة على مشاريع القوانين. ولعلّ أهمّها إطلاقا مشروع قانون مكافحة الإرهاب. فهو قانون بالغ الأهمّيّة في هذا الظرف الذي تواجه فيه البلاد تهديدات جدّية من الإرهابيين الذين ينتسب أغلبهم إلى السلفيّة الجهاديّة التي تتبنّى فكر القاعدة التكفيري المتشدّد والمنحرف، الذي لا يقرّ الممارسة الديمقراطيّة باعتبارها أحد ابرز أركان الدولة المدنيّة التي يعاديها ويحاربها في كلّ مكان وزمان.

و ما يمكن ملاحظته حول انتظام انعقاد جلسات المجلس، أنّه حتّى في صورة حضور المنتسبين إليه واكتمال النصاب القانوني له، فإنّ وتيرة عمله كثيرا ما كانت بطيئة ودون المأمول. يضاف إلى ذلك أنّ أغلب المداخلات في الجلسات العامّة المتلفزة، إنّما هي تكرار لمداخلات سابقة أو هي مداخلات مقرفة، خارجة عن الموضوع ويغلب عليها الإسفاف. لا  بل هي أقرب إلى الشطحات البهلوانيّة المضحكة وعروض الوان مان شو( One-man-show) ، التي تثير الشفقة على أصحابها المفلسين فكريّا أكثر ممّا تضحك، لضحالة مضامينها وركاكة أساليب عرضها أمام الكاميراهات، رغم كونها تندرج، قطعا، في سياق الحملات الإنتخابيّة  المبتذلة والمبكّرة لمنتسبي المجلس.

ورغم هذا التقاعس شديد الوضوح في أداء الواجب، فإنّ هؤلاء المنتسبين للمجلس يرومون ويمنّون النفس بإعادة إنتخابهم مرّة ثانية، بل و يعدّون العدة  لذلك، على قاعدة مخالفة حديث ومقولة «لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين» إستغفالا واستبلاها للناخب التونسي. والحال أنّه أكثر وعيا من "المنتسبين" أنفسهم، الذين أضحوا محلّ تندّر الشارع التونسي وتسليته المفضّلة منذ إنتخابهم على وجه الخطأ في ظروف خاصّة، ثوريّة وإستثنائيّة مثّلت الإرهاصات الأولى لعمليّة التحوّل الديمقراطي. حيث أنّ النّاخب آنذاك كان لا يلوي على شيء سوى التخلّص من الوجوه القديمة، و بأي ثمن. فالنّاخب التونسي كان همّه الوحيد إحداث القطيعة "الإبستمولوجيّة" مع الوجوه الكالحة القبيحة للمنتمين للتجمّع الدستوري الديمقراطي ولمن يدور في فلكه، من منظّمات وطنيّة وأزلام للمخلوع بن على وأذيال للطرابلسيّة الذين بسطوا أيديهم على كلّ مفاصل الدولة وأركان اقتصادها. لذلك فالإنتخابات التشريعيّة الأولى بعد الثورة يمكن إدراجها في إطار ما يسمّى بالتصويت العقابي (le vote sanction) الذي تفوز فيه المعارضة -قطعا- بأغلبية الأصوات، ليس من باب  التعلّق الشديد ببرنامجها الثوري البديل الذي يقدّم الحلول السريعة للمشاكل العالقة أو بأفكارها الرائعة الجذّابة، بل لغاية معاقبة الحكومة والبرلمان القائمين، لعدم الرضاء على أدائهما، والخوف من عودتهما مجدّدا إلى السلطة. لا سيّما وأنّه، ومنذ سقوط الشيوعيّة السوفياتيّة بعد ثورات 1989وانهيار جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة وسقوط أغلب النظم القائمة على الفكر الماركسي ومن ثمّ انتهاجها لسياسة الانفراج بعد الانفتاح على الغرب، دشّن العالم عصر ما بعد الإيديولوجيا ، بما أدّى إلى أنّ برامج الأحزاب اليمينيّة كما اليساريّة لم تعد تختلف جوهريّا عن بعضها البعض، بل إنّها باتت تنهل جميعها من نفس المنبع وتصبّ كلّها في نفس المصبّ. حتّى أصبحت الأحزاب اليساريّة المتميّزة بسياساتها الإجتماعيّة لفائدة ضعفاء الحال تنفّذ أحيانا نفس البرامج التي تدعو إليها الأحزاب اليمينيّة. ولعلّ النموذج الفرنسي الراهن خير مثال على ذلك. إذ أنّ الرئيس الإشتراكي اليساري فرنسوا هولاند اليوم لا يختلف كثيرا في توجّهات سياسته عن سياسة سلفه الراسمالي اليميني المحافظ نيكولا ساركوزي. حتّى أنّ السيكريتير الأوّل للحزب الإشتراكي  الفرنسي الحالي جان فرنسوا كمبادليس (Jean-François Cambadélis) قد قال مؤخّر في أحد البرامج السياسيّة لقناة BFM مدافعا عن التوجّهات الإقتصاديّة لحزبه أنّه «لن يصبح حزبا إجتماعيّا ليبراليّا. وهذا واضح وجليّ». وهو في رأيي المتواضع، ومن وجهة نظر علم النفس، ما يفيد عكس ذلك تماما. حيث بات واضحا أنّ سياسة الرئيس فرنسوا هولاند تتّجه اليوم لخدمة مصالح الشركات الكبيرة وأرباب العمل أكثر من اتجاهها لخدمة مصالح الطبقات الفقيرة التي قالت فاليري ترياروايلر (Valérie Trierweiler) خليلته السابقة عنها في كتاب حديث لها نفذ بسرعة، أنّ هولاند يمقتها )الطبقات الفقيرة(.

وباعتبار أنّ الإنتخابات القادمة هي فرصة الشعب التونسي  الجديدة لإنزال العقاب على من خانوا الأمانة، ولم يكونوا في مستوى المسؤوليّة التي أناطها الشعب بهم وشرّفهم بها، فإنّي أفترض أنّ النّاخبين سيمارسون حقّهم في الإقتراع العقابي، لقطع الطريق أمام من برهنوا بما لا يدع مجالا للشكّ أنّهم دون المسؤوليّة، وأنّ انتخابهم في الماضي كان غلطة العمر التي لن تتكرّر مستقبلا. لذلك فإنّي أهيب بالناخب التونسي أن لا يصوّت لفائدة جميع الأحزاب الممثّلة اليوم في المجلس الوطني التاسيسي، كعقاب لها أو انتقام منها، وفق مقولة بيار دي بومارشيه، على أدائها الضعيف جدّا، وأن يصوّت لأحزاب أخرى مهما كان لونها السياسي، إعتبارا لتجاوز الأحزاب للإيديولجايات من ناحية، و لضخّ دماء جديدة داخل المجلس وصلب الحكومة من ناحية أخرى. فقد يترتّب عن ذلك خلق ديناميكيّة جديدة كفيلة بالمساهمة الفاعلة في النهوض بالبلاد وانتعاش الإقتصاد المنهار أو على الأقلّ الحدّ من انهياره الذي تسبّب فيه وعزّزه كلّ من شارك في السلطة بعد 14 يناير 2014 بأي شكل من الأشكال، ولا سيما منهم، قاطن القصر الرئاسي بقرطاج والمنتسبين للمجلس الوطني التأسيسي الذين أستطاب عيشهم و طال بهم المقام هناك وبات ينظر إليهم الشعب على أنّهم مصّاصي دماء التونسيين جميعا بمن فيهم من أنتخبهم.