نظرية توافق الرؤى مع أمريكا...

   نظرية توافق الرؤى مع أمريكا...

الطريق المتبقي لتحرير الأمة

حسن الحسن

[email protected]

قامت كثير من الحركات والأحزاب السياسية - الدينية منها والعلمانية- في العقد الأخير، بالترويج بحماس شديد لفكرة إيجاد "توافق رؤى" مع أمريكا، وذلك من خلال البحث عن القيم المشتركة التي تساعد على التحالف معها بدلا من الاصطدام "المجنون" بها.

طفت هذه الرؤية على السطح إبان انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط البشرية في أحضان وحيد القرن الأمريكي، وتبلورت مع مرور الوقت لتظهر بشكل دراسات مؤصلة، تعتبر أن هذا هو المخرج الوحيد والمنطقي والممكن. 

ويزداد أنصار هذه الفكرة من العاملين في الحقل العام، بسبب الاصطدام بحائط السلطة المسدود أمام دعاة حقوق الإنسان وطلبة رتوش الإصلاح، فكيف بخصومها ومستهدفي تغييرها!؟ وقد نال التعب والإعياء من نشطاء الحركة السياسية بمختلف أطيافها، وجهدتهم الضربات الموجعة، وضجر أكثرهم من المنافي وملَّوا السجون والملاحقات والتعذيب. كما أصاب هؤلاء نوع من الاختناق السياسي والضمور الحركي والتصدع الحزبي جراء كثرة الضربات وعديد الإخفاقات وعدم تحقيق أي من الأهداف المعلنة رغم طول المدة.

وقد سيقت أدلة كثيرة تحفز السير باتجاه أمريكا، مبررة الاستعانة بها والتحالف معها على أنه دهاء سياسي وفرصة سانحة، أو تقاطع مصالح و ضرورة يحتمهما الواقع المرّ. فهي الدولة الأقوى في العالم، وتتحكم بالأنظمة السياسية في بلادنا "بالريموت كنترول". وبالتالي فلا أمل من العمل لتحقيق التغيير على الصعيد الإقليمي إلا من خلالها، ونجاح أي محاولة مرهون برضاها أصلا، وعلى افتراض تحققه بعيدا عنها فإنه لا جدوى منه لأنه سيكون صغيرا وفي مهب الريح. وما اقتلاع نظام صدام بسرعة البرق رغم مكوثه دهرا إلا مثال، فما بالك بنظام وليد لا يزال يحبو الهوينا

 أخذ أرباب هذه الفكرة على عواتقهم إقناع أمريكا بأنهم أكثر صلاحية واستقرارا من الأنظمة الحالية، وأنهم أولى بالتعويل عليهم منها وأكثر ضمانا لمصالحها و ملاءمة لرسالتها الداعية لنشر الحرية وإرساء الديمقراطية. ولارتباط هذه الفكرة بمصير الأمة ومستقبلها، كان هناك ضرورة لسبر أغوارها وكشف مدى مطابقتها للواقع من عدمه بشكل مجرد ألخصها فيما يلي:

إن فشل الحركات السياسية وإخفاقها ينبع من ضبابية البديل الذي تقدمه وإبهامه وجنوحه إلى المجملات، والذي كان خليطا بين رأسمالية واشتراكية ملفوفتين بعباءة الدين عند الفريق الديني، كدعوتهم إلى "اشتراكية الإسلام" إبان هياج الشيوعية واكتساح فكرتها الاشتراكية، والدعوة المبطنة إلى اقتباس النموذج الرأسمالي عند تفرده في العالم، مع إضفاء المسحة الروحية والأخلاقية عليه ولو تلفيقا "كالبنك ا لإسلامي" لإسباغ الشرعية عليه، ومما ضرب مصداقية هذا الفريق دعواه الدائمة عند استلهامه معالجات الغرب أنها "بضاعتنا ردت إلينا". كما كانت دعوة التغريب الشاذة والمناداة بالديمقراطية الليبرالية على الطراز الغربي ديدن الفريق العلماني. الذي كان كالمنبت لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع، وكان حال هذا التيار كمن يزرع نخلة في سيبيريا. فأمة تشبعت بالإسلام عقيدة وحضارة وتاريخا وعقدت آمالها كلها عليه، لا يمكن سلخها بحال عنه أو استعاضته بما ينقضه جملة وتفصيلا.

ب. الارتجال في النهج والأداء السياسي من قبل الفريقين شكل عقدة طالما أدت إلى احباطات وطرح تساؤلات كثيرة ملخصها "وبعدين"؟ متأرجحين دوما بين المتناقضات، مخضعين أتباعهم لتجارب ساذجة وردات فعل انتحارية. فعمدوا إلى السلاح تارة وإلى نبذه تارة أخرى، ومخاصمة الأنظمة ومفاصلتها ثمّ إلى مصالحتها والارتماء في أحضانها وبناء جسور بينها وبين الأمة لاحقا، ومن وجوب قتل "الغفير" فيما مضى إلى اعتبار السادات شهيد الفتنة حاليا، ومن الحرب الشعواء بين العلمانيين و"الإسلاميين" على كافة الصعد وبكافة الوسائل، إلى تحالفات لا ينبغي فصم عراها بينهم، مع أن كليهما يمتلئ صدره بالريبة والشك واستصغار الآخر. وما محاولة الارتماء بأحضان الولايات المتحدة إلا تجربة جديدة يجرونها في مختبر المجهول، لينتقل الشيطان الأكبر معها إلى الحليف والمخلّص الأوحد كما وقع في العراق. 

إضافة إلى ما سبق فإن هذه الحركات كانت تفتقد رؤية الأشياء على حقيقتها، وطالما صورت الأمور للأتباع كما يشتهونها كي تدفعهم للالتصاق بها، فكان الفشل حليفهم بجدارة، ولا يمكن بحال اعتبار تجاربهم المؤلمة والمريرة تلك، والتي أرهقوا بها الأمة، حجة على أن التغيير غير متأت من الداخل، بل إن ما خلفه هؤلاء كان حنظلا ورث الاحباط واليأس وروح الهزيمة، فكانت أفعالهم بذلك ضغثا على إبالة، وصدق فيهم قول الشاعر:

 ترجو النجاة ولا تسلك مسالكها      إن السفينة لا تمشي على اليبس

وفيما يتعلق بالسعي إلى إيجاد لائحة من القيم الإنسانية والسياسية والأخلاقية التي تجمع الأمة مع أمريكا، أملا بأن يثمر ذلك الالتقاء عن تحالف يحرر العالم الإسلامي من جموده وانحطاطه، فإنه لا بد من مراجعة أبجديات قيم الأمتين حتى نعي حقيقة ذلك الادعاء.

أ. تشبعت الحضارة الأمريكية بثقافة: منجم الذهب وقطع رأس الهندي و "السوبرمان". بينما تشبعت حضارة الإسلام بقول النبي الكريم ((الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار)) وقوله ((اِذهبوا فأنتم الطلقاء)) و ((من تواضع لله رفعه الله)).

ب. أمريكا دولة تتحكم فيها وجهة نظر المبدأ الرأسمالي في الحياة، المؤله للقيمة المادية النفعية، ضاربة بعرض الحائط كافة القيم الأخرى، ولذلك سهل عليها إلقاء قنبلتين نوويتين على اليابان وإحراق فيتنام وقتل حوالي مليون في حصار العراق طالما أن ذلك يحقق مصالحها، فسياساتها قائمة على تحقيق المنفعة أولا وأخيرا. ودولة أمة الإسلام مرتبطة بقوله تعالى "{مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} وقوله (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وقول الجندي الرومي للخليفة الراشد عمر " عدلت فأمنت فنمت"، وسياسات الدولة الإسلامية قائمة على فكرة إخراج الناس من عبودية المادة بمختلف أشكالها وتوجيهها إلى عبادة الله وحده.

أما القيم الأخلاقية في أمريكا فأترك لنيكسون الرئيس الأمريكي الأسبق التحدث عنها، حيث يقول بالنص في كتابه " ما وراء الإسلام" (ما يهدد العالم فعلا هو ان بلدنا قد يكون غنيا بالبضائع ولكننا فقراء في الروح فالتربية والتعليم الرديئان والجرائم المتزايدة والعنف المتصاعد والانقسامات العرقية النامية والفقر المستشري وآفة المخدرات والثقافة المنهارة في وسائل التسلية والانحدار في تأدية الواجب المدني والمسئولية وانتشار الفراغ الروحي ساهمت جميعا بفض الاميركيين وتغريبهم عن بلادهم ودينهم وعن بعضهم بعضا) وأكد هذا المعني بريجنسكي مستشار الأمن القومي حيث قال: (ان المجتمع المنغمس في الشهوات لا يستطيع ان يسن قانوناً اخلاقياً للعالم، وان اي حضارة لا تستطيع ان تقدم قيادة اخلاقية سوف تتلاشى). أما نظرة الإسلام إلى القيم الأخلاقية يكفي فيه قول النبي الكريم :"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

وأتوقف هنا بعيدا عن الغوص في تفاصيل الأفكار لأن الأصول أهم، ولكن السياق يقتضي التذكير بأن أمريكا هي من يغطي تلك الأنظمة الدكتاتورية المتوحشة في العالم الإسلامي طالما أنها تسير بحسب رغباتها، وأنها حاضنة دولة إسرائيل وأمها الحنون، وهي من يحتل أفغانستان والعراق ويقسم السودان، كما أنها هي أكثر من ينتفع بثروات الأمة وخيراتها، في الوقت الذي تتضور الأمة فيه جوعا وتفتقد أدنى مقومات الحياة المادية الكريمة.

بهذا نخلص إلى أن محاولة التوفيق في القيم غير متأتية، لأن الاختلاف واقع في جذور القيم فضلا عن فروعها من غير أن يضير ذلك تشابه هامشي هنا أو هناك.

وخلاصة القول، إنّ قرنا من التيه يكفي، وعلينا أبناء الأمة البررة أن يعوا أن الغرب لن يغيث أمة الإسلام أبدا، لأنه يدرك أنه سيكون أشبه بمن يحمل رسالة إعدامه بيده، بل أعجب من عقلائنا إصرارهم على الاستعانة بالأجنبي أوروبيا كان أم أمريكيا، مع العلم الأكيد إنهم سبب بلائها، وإلقاء قضايا الأمة بين يديه كالنوم مع العدو تحت غطائه وعلى فراشه في أرض المعركة.

وأما الحل البديل فيكفي إدراك مفاتيحه الآن - والنقاش مفتوح للتفاصيل - وهي: الخروج من القطرية، والنظر إلى أهل الإسلام كأمة واحدة، يجمعهم كيان واحد يستظل بفيئهم وعدلهم من يحب ذلك ويختار ولو لم يكن مسلما، وعلى ضرورة أن تحتشد جهود الجميع لتصب باتجاه تغيير النظم القائمة في بلاد المسلمين، ويكون ذلك بالتركيز على بعضها لتكون موطئ قدم إلى بقيتها، وتوحيدها سوية تحت راية الأمة لا الوطن، مستندين في ذلك كله إلى قوة فكرة الإسلام وطرحه كبديل مبدئي لكل ما هو سائد من نظم تعالج الشأن الإنساني النفسي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والعقائدي، متوجهين بكل وعي وإدراك إلى القوى الحية والمسؤولة والمتنفذة بحياة الأمة لكي تضطلع بأعباء مسؤولياتها، لتتحرك فتضع حدا لآلامها وتوقف انحطاطها وتخلصها من تبعيتها المقيتة لأعدائها، بدلا من ترسيخها بإلقاء قضايا الأمة في إحضانها، وللحديث بقية.

 4 / 2 / 2005