سعد الحريري في لبنان: العالم يتغير
سعد الحريري في لبنان:
العالم يتغير
محمد قواص
كنت في عداد الوفد اللبناني الذي كان يحضرُ فعاليات مهرجان الجنادرية في السعودية في شهر شباط/ فبراير الماضي، والذي زار الرئيس سعد الحريري في دارته في الرياض. جاء الاجتماع بروتوكولياً عاماً لم تُكشف فيه الكثير من الأسرار، فالرجل كان محتشماً في إجابته حذراً في ردوده، لكن أسئلة القادمين من بيروت كانت تعبّر عن قلق حقيقي من مغبّة استمرار غياب زعيم تيار المستقبل عن لبنان، ليس فقط لما يمثله ضمن المشهد السياسي العام للبلد، بل لما يسببه هذا الغياب من إرباك لدى السنّة وتيار المستقبل نفسه. كان الحريري يصغي كثيرا ويتكلم قليلاً، لكن في ما قلّ من الكلام كان يدرَكُ أن عودته باتت قريبة.
في كانون الثاني/ يناير من عام 2011، وأثناء اجتماعه بالرئيس الأميركي في واشنطن، تبلّغ سعد الحريري أن “انقلاباً” نُفّذ ضد حكومته في بيروت من خلال استقالة جماعية لوزراء المعارضة بقيادة حزب الله. بدا واضحاً أن توقيت الإعلان عن تلك الاستقالة اختير بعناية ليمثّل رسالة من طهران لواشنطن، مفادها أنها صاحبة الحلّ والربط في بيروت، خصوصاً حين يجتمع سيّد البيت الأبيض برئيس حكومة لبنان.
على أن الأمر لم يكن مجرد أزمة حكومية تقليدية لطالما خبرها البلد، بل اجتثاثاً سياسياً أجبر الحريري على مغادرة البلد بسبب مخاوف على أمنه الشخصي، ذلك أن مراجع وأجهزة إقليمية ودولية تقاطعت على تأكيد جدية الأخطار التي تهدد حياة الحريري، ما يستدعي مغادرته البلد فوراً.
تولى حزب الله قيادة ورشة للانقضاض على “الحريرية” من خلال حكومة نجيب ميقاتي التي أقصت تيار المستقبل وحلفاءه، وحكمت بإرادة الحزب، فيما تولى تيار الجنرال ميشال عون تنشيط ورشة للنيل من سمعة المستقبل متوّجاً مسعاه بإصدار كتاب “الإبراء المستحيل” الذي يتهم التيار بسوء الإدارة والفساد (رد تيار المستقبل بإصدار كتاب “الافتراء في كتاب الإبراء”).
فشلت طهران في تثبيت الأمر الواقع على لبنان. أخفقت حكومة نجيب الميقاتي ذات اللون الواحد في تحقيق إنجازات تُذكر، كما ارتبكت جرّاء تورط حزب الله في القتال إلى جانب النظام السوري، إلى أن تهاوتْ معلنة بدء تراجع خيارات إيران في لبنان.
مثّلت حكومة تمام سلام ذروة هذا التراجع، لاسيما بالعودة القوية اللافتة لوزراء تيار المستقبل، بصقورهم، لتولي حقائب وزارية أساسية لم يكن حزب الله يرضى أن توكل لهم، حتى حين كان “مسقبليٌّ” على رأس الحكومة من رفيق، إلى سعد الحريري، مرورا بفؤاد السنيورة.
تعكسُ عودة سعد الحريري نهاية عهد وبداية آخر. فإذا ما كانت جهاتٌ دولية وإقليمية كبرى هي من أوحت للرجل بمغادرة البلاد، فإنه لاشك أن تلك الجهات هي ما أوحت له بالعودة. وعلى الرغم مما أشيع عن أن الزعيم الدرزي وليد جنبلاط قد توسّط لدى السيّد حسن نصر الله لضمان أمن الحريري العائد، إلا أن منطق الأمور يشي أن أمراً كهذا يُضبط في طهران، وليس في حارة حريك، وعليه فإن عودةَ الرجل تمت وفق مناخٍ دولي إقليمي ليست إيران بعيدةً عنه.
في عودة الحريري علاماتُ تبدّل واضح في المزاج الدولي والإقليمي العام. تنقلب إيران على حليفها نوري المالكي، كما تُسرّب عدم تمسكها ببشار الأسد في سوريا (حسب التصريح المفاجئ لحسين شيخ الإسلام سفير إيران السابق لدى سوريا).
ولا يبدو أمر هذا التبدل في مزاج طهران وليد صفقات، بل ثمرة قناعة بأنها أصبحت تراهن على حصانيْن خاسرين. فالعصر الداعشي في العراق يمثّل تقويضا للنفوذ الإيراني هناك يتحمل نوري المالكي مسؤوليته، كما أن حيوية المعارضة المستمرة للنظام السوري، بتلاوينها المختلفة وداعشية بعضها، ورغم الدعم الإيراني اللامحدود لدمشق، يمثّل إخفاقاً آخر بدأت أصوات فاعلة في طهران تتذمر منه.
يعود سعد الحريري إلى بيروت غداة موقف واضح ولافت أعلنه العاهل السعودي ضد الإرهاب. والرياض، بهذا المعنى، تسحبُ البساط من تحت أرجل خصومها الذين يلوّحون بعكس ذلك. يحمل الحريري، شخصياً، هبة المليار دولار السعودية لبيروت، ضمن أجندة سعودية ثنائية المرامي. الأولى، لضرب الإرهاب الذي أطلّ في حدث عرسال، والثاني لدعم الجيش والقوى الأمنية، وبالتالي رفد الدولة اللبنانية دون غيرها.
وفي تكليف العاهل السعودي لشخص الحريري الإشراف على إدارة تلك الهبة، تأكيدٌ سعودي على ثبات اسم الرجل كعنوان أساسي ووحيد تحبذ الرياض الإطلالة من خلاله على شؤون لبنان. في ذلك تبليغٌ لإيران وأتباعها في لبنان عن مكانة الرجل لدى الإدارة السعودية.
يعودُ سعد الحريري إلى لبنان وقد تغيّر السلوك الدولي في التعاطي مع شؤون المنطقة. ففيما انكفأ العالم الغربي بقيادة واشنطن عن التدخل في شؤون كثيرة كانت تستدعي تدخلاً (ولو على المستوى الإنساني)، قرر أوباما توجيه ضربات جوية ضد داعش في العراق دفاعاً عن الأقليات ودعماً لحلفائهم في كردستان العراق، وهو باتصاله بباريس ولندن يسعى لتشكيل تحالف دولي يغطي سعيه الجديد.
يعود الحريري إلى بيروت وفق مزاج إقليمي دولي يناقشُ تنفيذ هدنة طويلة الأمد بين إسرائيل والفلسطينيين. وإذا ما كانت القاهرة تستضيف المفاوضات حول ذلك، فإن الضجيج يحصلُ على شبكة تقاطعات وتناقضات مصر وإيران وقطر وتركيا وواشنطن، وعلى خلفية تسريبات، مصدرها هذه المرة حركة حماس (المتحالفة مع إيران)، عن اتصالات تجري مع إسرائيليين لترتيب تلك الهدنة، وعلى مسلّمة انتفاء أي بعد إقليمي عسكري للمعركة في غزة بعد استقالة دمشق وحزب الله وطهران من هذا الاحتمال، والاكتفاء بما هو لغوي خطابي (طهران التي وعدت بإزالة إسرائيل من الخارطة تستغرب “صمت مجلس الأمن على جرائم إسرائيل).
يعودُ سعد الحريري ليضع حداً نهائيا للمراهنة على استيلاء التطرف على السلوك السياسي للسنّة في لبنان. ولئن ترعرع ذلك التطرف في تربة مظلومية راجت في أوساط الطائفة إزاء سلوك حزب الله في سوريا ولبنان، ولئن مثّل الشيخ أحمد الأسير واحداً من تجلياتها، فإن مزاج السنّة في لبنان بقي مقاوماً للنزوع نحو التطرف، لكنه يحتاج لزعيمهم مثبّتاً نهائيا أكيدا لهذا الخيار.
يعودُ سعد الحريري إلى البلد وقد تم تجاوز أزمة دار الإفتاء، المرجع الديني الأول للسنّة في لبنان. لكن اللافت في ذلك الحدث أن توجه المفتي الجديد عبد اللطيف دريان، القريب من المستقبل، صحبة المفتي السابق محمد قباني، المختلف مع التيار، لحضور مأدبة الغداء التي دعا اليها الحريري للمناسبة، يثبّت مرجعية الحريري السنّية السياسية كمرجعية أولى ووحيدة، بعد أن أخفق حزب الله على مدى سنوات الغياب في محاولة اختراع واستحداث مرجعيات بديلة.
يعلنُ الرئيس الأميركي أن بلاده لن تكون رافداً عسكرياً أو غطاء جوياً للشيعة أو الأكراد في العراق، ويعلن أن بلاده لن تُقدِم على جهدٍ في المنطقة دون أن يتوصل أهل المنطقة إلى صيغة لحكم بلادهم على قاعدة لا غالب فيها ولا مغلوب. يدركُ سعد الحريري القواعد الجديدة للعلاقات الدولية وفق “الأوبامية”.
يعود الرجل للترويج لأمر اللاغالب واللامغلوب (وفق الوصفة السحرية لصائب سلام والد رئيس الحكومة الحالي تمام سلام). وفيما تنفي أوساط بيت الوسط أن تحملَ عودة صاحب البيت مفاتيح الحلّ الخاصة بانتخاب رئيس للجمهورية، إلا أن تراجع الأسماء المتنافرة (جعجع- عون) يُبرزُ اسم قائد الجيش، مرة أخرى في تاريخ لبنان الحديث، رئيساً مناسباً للمرحلة. أليست الهبة السعودية للجيش إشارة بهذا الاتجاه؟
صحافي وكاتب سياسي لبناني