توقف القتال .. لم تتوقف الحرب!!
نبيل عودة
كاتب , ناقد وصحفي فلسطيني – الناصرة
كشفت الهدنة المؤقتة أمرا هاما، هو ان رئيس حكومة إسرائيل لم يطرح هدفا سياسيا لعدوانه على غزة.. تطوُّرُ القتال لم يكن مطابقا لحسابات المؤسسة السياسية والعسكرية. حدث ما لم يكن في حسابات الجنرالات السياسيين والعسكرين. أربكتهم غزة المحاصرة بما أعدّته من مفاجأة استراتيجية في شكل إدارة القتال. عمليا، رغم التدمير الجنوني للمنازل والبنى التحتية وإلحاق الأذى المرعب بالسكان، الا ان غزة فرضت على إسرائيل ان تخرج بخفّي حنين، نتنياهو اكتفى بوقف العدوان دون ان يحصل على اي مكسب دبلوماسي.. وسيذهب للمفاوضات في القاهرة تحت صيغة وقف القتال فقط. يقال في الأوساط السياسية ان القرار بوقف القتال كان قرارا شخصيا لنتنياهو مما يشير الى ارتباكه السياسي (ربما نتيجة ضغوط دولية أيضا لم يكشف عنها بعد) وتردّده من التورط أكثر بالعمق الغزاوي من باب ان "المكتوب يُقرأ من عنوانه".. وان احتلال كامل قطاع غزة، كما طرح امام الوزراء، سيستغرق زمنا طويلا يقتل فيه مئات الجنود...
عمليا في الأسبوع الأخير لم يتحرك الجيش الإسرائيلي عن المواقع التي احتلها وهو شريط قليل العرض من قطاع غزة، واضعا امامه هدفا "استراتيجيا" كما ادعى كل دعاة اليمين والعسكر، وأعني نسف الأنفاق التي سببت مفاجأة استراتيجية للجيش الإسرائيلي وخوفا من التقدم نحو العمق و"إنزال ضربة قاضية بحماس"، كما كان يغرّد بإصرار اليمين و"ببعض الخجل" ما يسمى اليسار، طبعا الى جانب تغريد وسائل الإعلام الإسرائيلية وضيوفها من العسكريين المتقاعدين الذين لم يتخلّصوا بعد من أوهام "إنزال الضربة القاضية" كما كانت تجري الأمور في حروبات إسرائيل السابقة ضد الدول العربية.. مازال عسيرا عليهم فهم قدرة تنظيم صغير مثل حماس او حزب الله سابقا، ان يفشلوا "الضربة السريعة والانتصار الحاسم" التي بُني عليها كل الفكر والتخطيط العسكري الإسرائيلي.
طبعا لا احد يستهتر بقوة إسرائيل العسكرية.. وهي أثبتت نفسها بالدمار الرهيب في غزة تحت صيغة استهداف مواقع حماس العسكرية التي وصل عددها حسب إسرائيل لأكثر من 15 الف هدف.. طبعا لا يمكن لمنظمة لا يتعدى عدد جنودها 15 الف مقاتل ان تملك 15 الف هدف عسكري. لذلك كان الدمار شاملا للمواقع المدنية وللسكان المدنيين تحت كذبة مفضوحة ان حماس وضعت سكان القطاع كدرع بشري.
أعتقد ان أكبر مكسب لنا نحن جمهور متابعة التقارير الإخبارية من مصدرها العبري، هو استراحة لنقاهة نفسية و"تنظيف الأذنين" من التكرار المملّ لتصريحات العسكريين، بما فيهم المتقاعدين، وما ترسّب في سمعنا من أوهام دموية لم يخجلوا من طرحها وكل منهم يعتقد انه أمسك "برأس الأفعى"، وان "خططهم التلفزيونية" تمهّد الطريق حول كيفية "سحق حماس"، "تصفية قيادتها"، "تجريدها من السلاح"، "إذلالها"، "ردعها بقوة تساهل" ومئات التعابير المملة المكررة لدرجة التسبب بأوجاع الرأس لمن يصبر على الاستماع المتواصل للتغريد النشاز البعيد عن فهم الواقع الفلسطيني بمجمله، والواقع الدولي في قرننا الحادي والعشرين، بما فيه واقع قطاع غزة، التي لم يعد لها ما تخسره الا قيودها وحصارها.
من هنا جاء قرار نتنياهو، بعد تردد.. بوقف القتال والانسحاب (والانسحاب شرط طرحته حماس) بقرار فردي دون الرجوع للحكومة المصغرة للشؤون السياسية والأمنية. أي عاد لنفس المسار القديم لمفاوضات وقف إطلاق النار مع حماس.
يمكن الآن رسم صورة تقريبية للتطورات السياسية والعسكرية التي ستشهدها الساحة الإسرائيلية. الجيش سيبدأ بالتحقيق في موضوع عدم فهم الأبعاد الاستراتيجية للأنفاق رغم ان احد الضباط أشار في بحث له قدم لقيادة الجيش الى الأبعاد الاستراتيجية المتوقعة من الأنفاق، طبعا سيدرس الجيش تطور المعركة في غزة، بمعنى الضربات غير المتوقعة التي أنزلت بالجنود الإسرائيليين، بما في ذلك المنازل التي فجرت بجنود الجيش، وسبّبت وقوع إصابات كثيرة.
في الجانب السياسي ستبدأ حملة حسابات سياسية عسيرة ضد نتنياهو من حلفائه ومن المحللين السياسيين والمعلقين وما اكثرهم في الاعلام الإسرائيلي، وما اكثر التشابه اللفظي والفكري لما يطرحوه وكأنهم يتلقّون الأفكار من مصدر واحد.
اين سيكون اليسار في هذه الدوامة؟ يبدو انه سيكون المدافع عن نتنياهو، بسبب "عقلانيته" في وقف القتال... طبعا سيشددون على العودة الى المفاوضات مع محمود عباس، كحلّ أمثل.. لكن السؤال هل سيكون لهم موقف مؤثر على إيصال المفاوضات مع محمود عباس الى اتفاق ينهي النزاع، وأين كانوا حين أوصل نتنياهو المفاوضات الى باب مغلق؟
لا أرى ان نتنياهو يجرؤ على التقدم نحو حلّ.. أتوقع ان يكون "الحلّ" بإجراء انتخابات جديدة.. وبعدها يعود الجميع الى قواعدهم سالمين غانمين.. لتبدأ جولة جديدة من المسرحية التي حفظنا كل فصولها. السؤال: هل ستكون يقظة دولية تعبّر عن انتهاء صبرهم من تصرفات "فرفور دمه مغفور ومكفول امريكيا" التي ميزت تصرفات إسرائيل في الشرق الأوسط، ليس ضد الفلسطينيين فحسب، انما ضد كل دول المنطقة تقريبا؟!
لكن السؤال الذي سيظل في الفضاء: هل يمكن استمرار حصار 1.8 مليون فلسطيني؟ هل يمكن إبقاء القطاع تحت رحمة ما تسمح به إسرائيل؟ حتى في المجال الاقتصادي الحيوي، يخسر قطاع غزة عشرات ملايين الدولارات من الحصار المفروض على صادراته الزراعية. أي الهدف إبقاء القطاع سجنا فلسطينيا كبيرا.
السؤال الذي لا يمكن تجاهله: هل تستطيع إسرائيل ان تمنع حماس من اعادة بناء قوّتها وسدّ ما نقص من أسلحتها وربما إدخال اسلحة من نوع لم يسبق لحماس ان استعملته؟ من الواضح ان واقع الحصار العربي على القطاع هو واقع مؤلم ايضا، يخدم اولا السياسة والخطط الإسرائيلية ويشكل عائقا على الواقع الفلسطيني بكل إبعاده.
يقلقني الموقف المصري: هل ستكون مصر أمينة على مصالح إسرائيل، على حساب حق الشعب الفلسطيني بالتحرر من الاحتلال والحصار؟
يجب عدم التقليل من اهمية مصير الاتفاق الفلسطيني بين فتح وحماس؟ هل سنعود الى الفرقة؟ صحيح ان الاتفاق كان شكليا، لكنه أرعب إسرائيل ودفعها لمغامرة العدوان على غزة، بعد ان استنفذت عملياتها القمعية ضد حماس في الضفة الغربية... من هنا أهمية الحفاظ على اتفاق المصالحة، وإعطاء السلطة الفلسطينية المساحة السياسية الكاملة للتحدث باسم كل الفلسطينيين، لأن المعركة ستنتقل أيضا للساحة الديبلوماسية الدولية وللسلطة الفلسطينية مكانتها المقبولة بالساحة الدبلوماسية الدولية واعتقد ان على السلطة الاستفادة من صمود قطاع غزة في تطوير مواقفها.. إسرائيل لا تملك أية اوراق قوية، عدا الموقف الأمريكي الذي قد يلحق الضرر بالولايات المتحدة نفسها.
اجل توقف القتال... كيف سينعكس توقفه على المفاوضات؟ المعروف ان السياسة هي ترجمة لنتائج الحرب. لا أرى انتصارات لأي طرف.. الموت والدمار ليسوا انتصارا لأحد، هناك أهمية لصمود قطاع غزة رغم وحشية العدوان واستهداف المدنيين والبنى التحتية بشكل غير معروف في أي حرب سابقة، هذا الصمود لا بد ان يحدث تغييرا في الواقع الاستراتيجي للشعب الفلسطيني.. من ناحية أخرى سيقود الى معارك سياسية ونقدية داخل المجتمع الإسرائيلي، قد تضع نهاية لعهد نتنياهو، بظن ان القادم، وقد يكون يمينيا اكثر تطرفا، سيجلب معه بشارة تغيير نتائج الجولة الحربية الحالية. لذلك انا على قناعة انه لا بد من دور دولي قادر على استعمال أظافره. الثمن اذا استمرت إسرائيل بنفس سياساتها العدوانية بظل غياب عالم عربي قادر على لجم العدوان، او عن لعب دوره السياسي المؤثر، سينعكس سلبا على الواقع الدولي، وقد يكون الثمن الذي سيدفعه الغرب غير مسبوق بحجمه. لم يعد لفلسطين ما تخسره!!
هل سيتجدد القتال؟
من الصعب الاجابة، رغم ان الصورة الكاملة تقول ان إسرائيل تريد الوصول الى تهدئة لتستوعب ما جرى في ال 29 يوما من القتال الضاري غير المسبوق باعتراف عسكرييها. وان تعيد عجلة التاريخ الى الواقع الذي كان قبل عدوانها الأخير. لكني أرى عبثية الموقف الإسرائيلي.. لا شيء يعود الى الخلف، لا شيء يقف بلا حركة.. ولا شيء يظل على سابقه... الصورة من جانبها الآخر ليست سهلة، الضربة التي أنزلت بالاقتصاد الإسرائيلي قد تستمر نتائجها السلبية لسنوات قادمة، عدا شلل حياة اكثر من 5 ملايين إسرائيلي، كانت ضربة اقتصادية للمجال السياحي، أضاع موسما سياحيا كاملا وقد يمتد تأثيره على المواسم السياحية القادمة..
من هنا التهدئة هي ما ترمي اليه إسرائيل وتتماشى مع سياستها وليس الحل الجذري للحصار وللقضية الفلسطينية تحديدا. تجديد القتال لن يخدم إسرائيل. ماذا تبقى لها لتدمره في غزة المدمرة؟ طبعا هناك تخوف، يحاولون الالتفاف عليه، حول ارتكاب إسرائيل جرائم حرب في قطاع غزة وامكانية اقامة لجنة تحقيق دولية، او الوصول للمحكمة الدولية لجرائم الحرب.
هذه ساحة معركة ليست سهلة كما قد يتصورها البعض. تحتاج الى إدارة معركة متّزنة تعتمد على حقائق لا تفسَّر على وجهين. تحتاج ايضا الى شلّ الدور الأمريكي الملتزم بدون تفكير الى جانب إسرائيل. للأسف واقع العالم العربي لا يبشّر بالقدرة على صدّ الدور الأمريكي وتقزيمه، لا على المستوى الرسمي ولا على المستوى الشعبي الذي أغرقه حكامه بالصراع الطائفي الدموي الرهيب لدرجة اختفاء مفهوم الهوية الوطنية من الواقع الاجتماعي للعالم العربي (ربما تعبير انتماء وطني او هوية وطنية صارت من مخلفات الماضي). يبدو ان هذا الدور ستقوم به دول امريكا اللاتينية التي اتخذت موقفا حازما ضد العدوان الإسرائيلي لم تجرؤ عليه الدول العربية "الصديقة" لإسرائيل.
هل ستكون اوروبا قادرة هذه المرة على اتخاذ مواقف مستقلة ضمانا لمصالحها ام ستقطف رأسها أمام شريكها الأمريكي، وقد تعرِّض مصالحها (وربما أمنها) للمزيد من المخاطر؟؟