بين حرب تموز/يوليو والجرف الصامد
د. سعيد الحاج
لطالما كانت دولة الاحتلال أمام المقاومة الفلسطينية بين حلين أحلاهما مر؛ إما أن تتجنب المواجهة البرية المباشرة وحينها ستكتفي بمشاهدة المقاومة وهي تُطور إمكاناتها وتزيد من جهوزيتها العسكرية، وإما أن تتدخل بحرب شاملة خاصة في بُعدها البري للقضاء على قوة المقاومة وحينها سيكون عليها أن تتحمل النتائج الكارثية المترتبة على هذه الخطوة، خاصة خسائرها الكبيرة المتوقعة.
وبين هذا وذاك، بقيت المعادلة الإسرائيلية المتبعة مع قطاع غزة، هي حالة هدوء يخترقها بشكل متكرر ومتواتر موجات تصعيد، تحاول من خلالها آلتها العسكرية والإستخباراتية أن تقتنص بعض الأهداف (خاصة الاغتيالات) وتُمكنها في نفس الوقت من رؤية مدى استعداد وتطور الفصائل الفلسطينية المختلفة وخاصة "كتائب القسام". لكن الطرفين كانا يُدركان أن لحظة الحقيقة والمواجهة لا بد آتية، فهل نحن أمام هذه المعادلة الجديدة الآن؟؟
بداية، لا بد وأن نؤكد أن قراراً بهذه الخطورة والحساسية ليس مرتبطاً فقط بطرفي الصراع الرئيسين، ولكنه يعتمد ربما بشكل أكبر على المحيط العربي والإسلامي، وتوقع ردة فعله، وبناءً على هذه النقطة، يرى العدو الإسرائيلي أنه في لحظة فارقة لتحقيق أهداف أبعد من الإنجازات التكتيكية، وأكثر عمقاً وتأثيراً، مستفيداً أولاً من حالة الفوضى التي تجتاح العالم العربي والإسلامي وانشغال الشعوب المختلفة بقضاياها الداخلية، وثانياً من "تعاون" عدد من الأنظمة العربية معه واتفاقها معه على تحجيم، إن لم يكن إنهاء المقاومة الفلسطينية، "حماس" تحديداً.
في هذا السياق، تبدو الحرب الصهيونية الحالية على قطاع غزة (الجرف الصامد/العصف المأكول) أشبه ما تكون بالحرب الضارية ضد جنوب لبنان عام 2006 (حرب لبنان الثانية/حرب تموز)، على الأقل في الأبعاد التالية:
أولاً، الضغط على المقاومة من خلال زيادة الخسائر في المدنيين، وارتكاب المجازر بعد إفلاس بنك الأهداف العسكرية، ولا يفوتنا هنا التشابه الكبير في الدمار بين الضاحية الجنوبية وحي الشجاعية، كما في الإجرام والرسالة بين "مجزرة قانا" (الأولى والثانية) ومجازر الشجاعية وقصف المدارس التابعة لهيئة الأمم المتحدة.
ثانياً، إصطفاف النظام الرسمي العربي مع العدوان الصهيوني (فضلاً عن المجتمع الدولي)، أو على الأقل إلتزامه الصمت في غالبيته العظمى، وترك المقاومة وحيدة بلا ظهير سياسي..!!
ثالثاً، سقف العدوان وهو تحييد سلاح المقاومة إن لم يكن نزعه تماماً ممكناً، وهو ما يؤكده تضمن مبادرة (جون كيري) التي طرحها قبل أيام لشرط "نزع سلاح" الفصائل الفلسطينية كأحد بنودها ربما لأول مرة بهذا الوضوح.
يؤكد هذه الرؤية لدينا الالتفاف الدولي الرسمي حول الموقف الصهيوني، والإلتزام الفولاذي بالمبادرة المصرية المجحفة، وعدم تقديم حلفاء المقاومة (قطر وتركيا) مبادرة أخرى تتيح للأخيرة إمكانية المناورة، واكتفائهم بالنشاط السياسي الهادف لبلورة إتفاق تهدئة وعدم التركيز حتى على الوضع الإنساني مثلاً، وتوسيع العدو لنطاق حربه البرية بشكل متدرج، والمجازر البشعة التي يُنفذها يومياً وسط صمت دولي وعربي.
فإذا كانت أهداف العدوان بهذا السقف المرتفع، وإذا كان العدو يُفكر الآن بمنطق أن نطاق الحرب اتسع وزادت الضحايا فلا أقل من أن يخرج بمكسب استراتيجي منها، وإذا كان الصهاينة نجحوا (لسبب أو لآخر) بتحييد سلاح "حزب الله" فعلياً منذ عام 2006، وإذا كانت المقاومة الفلسطينية قد تُركت الآن وحدها في الميدان، فما العمل؟
الحل في يد المقاومة الفلسطينية، وحاضنتها الشعبية، وحلفائها، وامتداداتها، ولن يتم وقف العدوان عبر الاستمرار بنفس الطريقة الحالية حتى ولو زاد عدد قتلى الجيش الصهيوني أو استمرت الصواريخ بنفس الوتيرة (على أهمية ذلك)، ولن تتغير المعادلة إلا لو تم تكبيد العدو خسائر "غير تقليدية" تهز جبهته الداخلية، وتدفعه لوقف الحرب والتضحية (بنتنياهو)، وهي (أي جبهة العدو الداخلية) مؤهلة لذلك وتحمل إرهاصاته. هذه الخسائر غير التقليدية أو الاستراتيجية يمكن أن تشمل:
1 ـ أسر عدد كبير من الجنود الصهاينة.
2 ـ تحقيق فرق الكوماندوس في المقاومة خسائر كبيرة في صفوف العدو، خاصة بعمليات في المستوطنات.
3 ـ هبة عارمة في الأراضي المحتلة عام 1948، تُنذر بفقدان السيطرة عليها.
4 ـ تكبيد العدو خسائر بشرية في المواجهات في الضفة الغربية، وعدم الاكتفاء بالمظاهرات المجردة!
5 ـ فتح جبهات جديدة على العدو، لكن ذلك لا يبدو ممكناً في ظل تفتت محور الممانعة القديم، والخلافات الجذرية بين "حماس" من جهة و"حزب الله" وحلفائه من جهة أخرى.
6 ـ تعرض المصالح الصهيونية للخطر، ومحاصرة السفارات وطرد أطقمها من الدول العربية والإسلامية، إذ يجب أن تخرج الشعوب في مناصرتها عن الأساليب التقليدية، وأن تنتقل من إطار التضامن إلى إطار المشاركة وتقديم العون.
أخيراً، يجب إعادة صياغة المواقف السياسية وفق تطورات الميدان، بالنسبة للمقاومة وبالنسبة لمن هم متعاطفون معها، وعليه فإنه ما عاد من المقبول أن يقف سقف قطر وتركيا عند محاولة إيجاد تهدئة وفق المبادرة المصرية، بل يجب أن يرتقي الموقف للحدث بكل أبعاده الآنية والإنسانية والاستراتيجية، بطرح الوضع الإنساني بقوة مثل فتح المعابر والممرات الآمنة خارج إطار أي مبادرة وقبل الحديث فيها، إضافة إلى طرح مبادرات سياسية تُنافس المبادرة المصرية بحيث تُتيح هامش مناورة للمقاومة وتُضعف الموقف الصهيوني، والتلويح ـــــ بل البدء ـــــ بإجراءات عقابية في المجتمع الدولي على مستوى هيئة الأمم المتحدة أو حلف (ناتو) أو محكمة العدل الدولية.
ختاماً، يجب أيضاً على قادة المقاومة أن يرفعوا سقف مطالبهم من حلفائهم في السر والعلن، فهذه الحرب مختلفة تماماً عن كل ما سبقها، وسيكون لمخرجاتها تأثيرات استراتيجية على سيرورة وصيرورة القضية الفلسطينية، ولا نُبالغ إن قلنا المنطقة برمتها.