مصر.. الإحماء قبل رفع الدعم !

علاء الدين حمدي شوَّالي

علاء الدين حمدي شوَّالي

[email protected]

ــ دائماً تأتى قرارات الإصلاح الإقتصادى، فى دولة لها ظروف مصر، أشبه بعملية جراحية تُجرى فى مستشفى ميدانى دون تخدير، على المريض أن يتحملها وإلا فالبديل هو الموت، ذلك إن أسعده الحظ ووجد جراحاً متخصصاً محترفاً أتم العملية بنجاح يستحق ما صاحبها من ألم.

ورفع الدعم عن بعض السلع بنسب متفاوتة هو ذلك الألم الذى يجب تحمله ليتعافى الجسد المريض، بشرط أن يتم ذلك من خلال طرح علمى متكامل يراعى كافة جوانب المنظومة وأبعادها، طرح ٌ يبدأ بالمتاح فى يد صاحب القرار ثم التدرج الى ما يليه فما يليه، ويؤسس لبناء تنموى انتاجى يعوض فارق الدعم مستقبلاً بقيمة مضافة تفوق معدل زيادة الأسعار، وينتزع مستحقات المواطن لدى ديناصورات الأعمال كاملة دون أن يهدرها.

ــ أقصد أنه من الخطأ أن ننظر الى الدعم وحده، والذى لا ننكر ضخامته، على أنه السبب الرئيسى فى عجز الموازنة الدائم، لأنه ليس كذلك !

ــ وأقصد أنه كان على صاحب القرار سد ثغرات "قِربة" الموازنة أولا حتى يتقبل المواطن قرار رفع الدعم  بصبر وتعاون.

ــ وأقصد أن قرار رفع الدعم كان يجب أن يسبقه نسق متكامل يطرح حلولاً إنتاجية سيتحول اليها الدعم المرفوع فتعود بالفائدة على المواطن.

ــ وأقصد أن قرار رفع الدعم عن الطاقة بالنسبة للمصانع كان يجب أن يصحبه تسعير عادل لمنتجات تلك المصانع، الأمر الذى صمت عنه مسئولو الدولة من قبل تواطئاً مع رجال الأعمال، الذين حاولوا وقتها ذَرّ الملح فى العيون بالتبرع لبناء مدرسة هنا أو مستوصف هناك او لسداد ديون مصر! وهى نفس الحيلة التى يحاولون اليوم إعادتها بحديث تبرعاتهم تفاعلا مع مبادرة السيسى، كما سبق وحذرنا فى مقال سابق، مقابل إستمرار صمت الدولة العميقة عن إفتراساتهم كما يخططون، أو كما نتمنى أنهم يتوهمون ! 

ولأن هذه النقطة تحديدا تحتاج، لخطورتها، بعض التوضيح، فيوم تقرر تقديم الطاقة، وغيرها من تسهيلات، مدعومة لتلك المصانع الضخمة فى عهد مبارك، كان المفترض عليها مقابل ذلك أن تحتفظ فى البنوك المصرية بحصيلة العملة الصعبة لتصدير منتجاتها، وهو ما لم يحدث لعدم المتابعة الرسمية.

كذلك كان عليها أن تطرح منتجاتها داخل الأسواق المصرية بأسعار تقل عن مثيلتها المستوردة بما يتناسب مع قيمة الدعم، ولكنها باعت بالسعر العالمى، كالأسمدة مثلا، بل وضغطت على الدولة لفرض رسوم إغراق على السلعة المستوردة المثيلة الأرخص بدعوى حماية الصناعة الوطنية !! وبالتالى كانت نسبة دعم الطاقة توجه الى جيوب كبار ديناصورات الأعمال وقطط الحكومة وليس لخدمة الإقتصاد ولا المواطن الذى تحمل قيمة الدعم.

واليوم نجد الخطأ نفسه يتكرر ولكن من زاوية أخرى، فرغم صحة قرار رفع الدعم عن الطاقة بالنسبة لهذه المصانع، إلا أنه لم يتدخل رقابياً لفرض سعر عادل على السلعة، وبالتالى فالدعم المرفوع سيتم تحميله على السلعة مضافاً اليه الربح الذى تهيكلت حياة المستثمر على أساسه خطأً، أو نصباً، من البداية نتيجة استيلائه على دعم الطاقة السابق ! بمعنى أن الزيادة على السلعة ستكون مضاعفة سيتحملها المواطن وحده فى النهاية !

وهنا ربما يتحدث أحدهم عن قوانين العرض والطلب التى ستجبر المستثمر على الرضوخ لقواعد السوق، ولكن اذا انطبق ذلك على مصانع العصير والمخبوزات، فكيف سينطبق على الأسمنت والحديد على سبيل المثال وغيرها من السلع الإستراتيجية ؟

ــ لكل ذلك ولغيره الكثير، أتصور أنه كان يجب الإحماء ببعض القرارات الجالبة للتأييد الشعبى الضاربة للقدوه الحسنة قبل نزول الملعب، خاصة لو صاحبها "مؤشر توفير" تليفزيونى على غرار "مؤشر الإستهلاك" الذى إفتكسته وزارة الكهرباء مؤخراً، فعلى سبيل المثال، ولإتساع نطاق الحصر:

تقرر الغاء حفلات الإفطار والسحور فى المصالح الحكومية على نفقة الدولة لأن ذلك سيوفر مبلغ كذا.

تقرر عقد مزاد علنى لبيع السيارات الحكومية الفارهة التى تزيد سعة محركاتها عن 1600 سنتيمتر مكعب، والإكتفاء بسيارة واحدة فقط للمسئول، وستصب حصيلة البيع فى حساب مشروع تصنيع سيارة مصرية، ولأن ذلك سيوفر وقوداً بمبلغ كذا.

تقرر أن يكون الحد الأقصى لدخل الموظف الحكومى 42 الف جنيها من عمله الرسمى، وليس الحد الأقصى للمرتب ! يعنى لا بدلات ولا مكافئات ولا مقابل حضور جلسات ولا استشارات ولا خبرات، لأن ذلك سيوفر مبلغ كذا

تقرر، إسوة بالقوات المسلحة، حظر استخدام السيارات الحكومية وسيارات الشرطة فى خدمة المدام والأولاد لأن ذلك سيوفر وقودا واستهلاكا للمال العام بمبلغ كذا.

تقرر اعادة النظر فى دخول موظفى الشرطة والقوات المسلحة بكافة درجاتهم والقطاعات المميزة فى الوزارات المختلفة ومساواتهم مساوة عادلة مع زملائهم خارج تلك الجهات لمنع التضخم الناتج عن فرق المرتبات الرهيب، ولأن ذلك سيوفر مبلغ كذا.

تقرر ربط سعر الطاقة ومياه الشرب ربطا حقيقياً مع معدل الإستهلاك فلا يستوى الحساب بين منزل يمتلك مروحة وآخر يمتلك خمس أجهزة تكييف ! أو سيارة بعدة ملايين أمنحها البنزين 95 مدعوما على حساب الباحثين عن طعامهم فى مقالب القمامة ! أو بين شخص لا يجد الماء لغسيل وجهه وآخر يملأ به حمام السباحة !! ولأن ذلك سيوفر مبلغ كذا.

تقرر عدم تقديم وجبات على نفقة الدولة فى كافة المؤسسات بما فيها مؤسسة الرئاسة، وإن تحتم الأمر فيمكن الإكتفاء بساندويتشات فول وطعمية كأبسط تضحية "عشان مصر"، لأن ذلك سيوفر مبلغ كذا.

تقرر انشاء جهاز قضائى يتبع رئيس الجمهورية لإسترداد أراضى الدولة المنهوبة او تحصيل قيمتها الحقيقية، لأن ذلك سيوفر مبلغ كذا.

تقرر تفعيل قانون توقيت عمل المحال التجارية خاصة ساعة الإغلاق توفيراً للطاقة ، إذ ليس من المتصور فى دولة تعانى أزمة طاقة طاحنة أن تترك محالها التجارية والخدمية مفتوحة طيلة 24 ساعة، بما يمثله هذا "الدلع" من إهدار وقت وطاقة ووقود وتلوث عصبى، ناهيكم عن البعد الإجتماعى والتفكك الأسرى، ولأن ذلك سيوفر مبلغ كذا.

بسط سيطرة الدولة ممثلة فى وزارة المالية على أموال الصناديق الخاصة التى تمثل حصيلتها موازنة دولة كبيرة، حوالى 1300 مليار جنيه خلال عام 2010 ، وفقا لمضابط مجلس الشعب ! بدءً من تذاكر الزيارة فى المستشفيات الحكومية، مروراً بقيمة "الكارتة" فى مواقف سيارات الأجرة ورسوم الدخول الى حدود أى قرية او الخروج منها، ورسوم  تركيب عدادات المياه والكهرباء والغاز وإستخراج بطاقة الرقم القومى أو حتى تراخيص المرور أو رخص المحليات بأنواعها المختلفة من ورش الى مصانع أو محال تجارية، وليس نهاية بالتبرع مقابل إنهاء أى مصلحة داخل دواوين أى محافظة او هيئة حكومية بحجة انشاء جامعة أو كلية أو مستشفى أو أى مشروع وهمى .. باختصار .. كل ما يدفعه المواطن من مبالغ مالية لا يحصل مقابلها على قسيمة السداد الحمراء المشهورة المختومة بخاتم وزارة المالية، حيث لا تدرج حصيلتها فى موازنة الدولة لأنها لم تحصل رسمياً بقانون ! ولكنها توزع كمكافآت لكبار الموظفين الذين تحدد الحد الأقصى لمرتباتهم وليس لدخولهم من العمل الرسمى كما أشرنا !!!!!

ذلك قليل من طرق كثيرة كان على صانع القرار أن يبدأ بها قبل رفع الدعم، على الأقل عن "السولار" لما له من خطورة تفوق رغيف الخبز نفسه !

ــ المثير للإنتباه أن حكومتنا قليلة الحيلة، التى كشفت رأسها "ساعة مغربية" وتوجهت لله تعالى بالدعاء على محتكرى السولار، لم تخطط لرفع الدعم فى عناصر الموازنة الجديدة ! ولكنها نتيجة رفض رئيس الدولة إعتماد الموازنة بالعجز الذى تحدث سيادته عنه فى خطابه الأخير، عادت ورفعت الدعم تنفيذا لتوجيهاته ! 

بمعنى أنه إما أن الموازنة الأولى كانت هى الأصح علمياً وفقا لخبرات واضعيها مما يستوجب عليهم الدفاع عن وجهة نظرهم أو الإستقالة، وإما أن الموازنة الثانية هى الأصح، وهنا فما الجدوى من وجود الوزارة طالما أن الرئيس يفهم فى كل الأمور ؟؟!! بمعنى أننا عدنا لمقولة الدكتور يوسف والى فى عهد مبارك "مفيش وزراء فى مصر، كلنا سكرتارية عند الريس يشيل اللى هو عايزه ويحط اللى هو عايزه !!"

ــ الشاهد، أنه ليس من اللازم أن يفهم الرئيس فى كل الأمور، ولا يعيبه ذلك بأية حال، فجودة أداء المنظومة تفرض عليه الإستعانة بمستشارين من أهل الكفاءة، حتى يحظى قراره بالتأييد الشعبى فيأتى قوياً نافذاً لا يأتيه القصور من بين يديه ولا من خلفه حسب ما يقدر سبحانه، وأتصور أنه لو وجد سيادته حوله من يمكنه الدفاع عن وجهة نظر مقنعة وإن خالفت وجهة نظره لأخذ بها الرئيس، طالما كان فيها صالح البلاد.

ذلك ما يحتاجه الرئيس بالفعل .. مستشارين أكفاء من خارج ما يسمى بدائرة النخبة، خاصة مع ندرة الصنف لدى أحزاب مدينة البط ومدرسة الهمبكيزم !!

ـ ضمير مستتر:

إذا بلغ الرأيُ المَشُورَةَ فاستَـعِـنْ، بعَزْم نصيحٍ أو مـشـورةِ حـازمِ
ولا تحسَبِ الشُّورى عليك غَضاضةً، فإنّ الخوَافِـي قـوة للـقـوادمِ

بشار بن برد