الشيعية الوطنية مخرج من مخارج الإنقاذ
موضوع استغلال المذهب لمصلحة السياسة من قبل النظام الإيراني تم تناوله كثيراً. وكان التعويل دائماً على نية طيبة حسنة، جوهرها الرغبة في أن يغيّر النظام الإيراني نهجه، ويعود إلى صوابه، لمصلحة شعبه وشعوب المنطقة، وأن يترك سياسته التي اعتمدها منذ وصوله إلى الحكم عام 1979، وهي سياسة تعتمد أسلوب تغريب المجتمعات الشيعية في دول المنطقة عن بيئاتها الحاضنة، لتجيشها عبر مختلف الطقوس، ومن ثم تنظّمها وتعسكرها.
وكان الإصرار على التحكّم بالقرار الشيعي، خاصة في لبنان والعراق، ومن ثم في اليمن. ولبلوغ هذه الحالة كان لا بد من تغييب المعارضين فيزيائياً، أو تهميشهم فكرياً وروحياً لإلغاء تأثيرهم. والأمثلة في هذا المجال كثيرة.
وقد أسهمت المتغيّرات الإقليمية والدولية في تعزيز الجهود الإيرانية الرامية إلى استغلال القنبلة المذهبية، وذلك حتى قبل التفكير بالقنبلة النووية. ومن هذه المتغيّرات تلاشي التأثير التعبوي لكل من الأيديولوجيتين الشيوعية والقومية، وحدوث ما يشبه الفراغ في كل من أفغانستان والعراق، وتخلخل النظام العربي الرسمي نتيجة الفساد والإفساد والاستبداد.
كل هذه العوامل وغيرها ساعدت المشروع الإيراني التوسعي، وشاركت في تحويل القسم الأكبر من الوجود الشيعي إلى كتلة بشرية تنتظم ضمن حزب أو أحزاب مذهبية الطابع والتوجه، تُقاد بموجب مستلزمات الاستراتيجية الإيرانية.
أما النخب الشيعية، خاصة المرجعيات الدينية المدركة أبعاد اللعبة، والمطلعة على أسرارها، فالتزمت السلبية أو الصمت، خشية وتوجساً من الآتي المجهول. وجاء التطرف السنّي ليكون الوجه الآخر لهذا المشروع الإيراني، وجهه المسوِّغ والمكمِّل، وكانت الحصيلة كل هذا القتل والدمار في دول ومجتمعات المنطقة. ومحور الاتهامات الدائمة أن الدول الكبرى هي المتآمرة على إرادة شعوب المنطقة، هذا في حين أن الدول المعنية تبني حساباتها المصلحية في المنطقة على ماهية ودرجة تطورات الأمور، وتفاعلها بنتيجة تشابك قواها المتصارعة، ومدى استعداد تلك القوى للتناغم مع توجهات الحسابات المعنية.
نحن لا ننكر، بل لا يجوز أن ننكر، تأثير القوى الدولية على أوضاع منطقتنا، ورغبتها في ضبط إيقاعات أوضاعها بما يتوافق مع مصالحها. هذه مسألة نمطية معروفة للقاصي والداني. لكن الذي نريد أن نتوقف عنده هو أن مصير المنطقة يحدده أبناؤها، إذا ما تمكّنوا من القطع مع العقلية التصادمية التي تتمظهر راهناً مذهبياً وقومياً.
النظام الإيراني لن يتخلى عن نهجه المتمحور حول الخلط بين السياسي والمذهبي، لأن هذا النهج أوصله إلى مستويات لم يكن يحلم بها على صعيد التحكم بمفاتيح الأمور في المنطقة. ولن نتمكن من تجاوز مآلات هذه السياسة من دون التركيز على ضرورة استعادة المجتمعات الشيعية الفرعية، لتغدو جزءاً طبيعياً من البنية الأساسية للمجتمعات الوطنية التي تضمها في إطار أنظمة وطنية تضمن حقوق وخصوصيات سائر المكوّنات. هذا ما نحتاجه في سورية وليبيا، وفي اليمن، وفي دول الخليج بأسرها.
ومسؤولية المرجعيات الشيعية الدينية الوطنية في ظل الحالة اللاعقلانية الشمولية التي تعيشها مختلف دول المنطقة كبيرة. فحالة الهيجان المذهبي، والقتل الجماعي المجنون، وهجرة الكفاءات، والفساد الخرافي، كل ذلك ينذر بأفدح الكوارث وأفظعها. ومن الواضح أن النظام الإيراني هو المستفيد الأول والأكبر مما يجري، وهو الذي يضبط قواعد اللعبة بالتفاهم مع الحلفاء.
دور المرجعيات الشيعية الوطنية في مواجهة ما يجري عبر رفضه وإدانته، حيوي بل محوري. وهذا ما أثبته السيد السيستاني عبر دعمه للمتظاهرين الشيعة العراقيين المتذمرين من فساد السياسيين في الحكومة، ومن خلال رفع الغطاء الديني عن أولئك الذين كانوا يسوّقون أنفسهم وفسادهم باسم المرجعية، فظهرت العورات الصادمة، وبرزت أمام الجميع معالم فساد أسطوري غير مسبـوق، فساد خلخل العراق وطناً ومجتمعاً، وحوّله ساحة للقتل العبثي يمارسه أصحاب مشاريع مذهبية متناقضة ظاهراً، متكاملة واقعاً، مشاريع زادُها الحقد المتوحــش، وتُستخدم للتغطيـة على سرقــة البــلايين من الدولارات التي كانت كافيـة لحل كل مشكلات المنطقة، وتأمين مستقبل زاهر لأجيالها القادمة.
محنة المنطقة بدأت من العراق، ومع المالكي تحديداً. ومن المنطقي أن يبدأ الحل في العراق، إذا (وهذه شرطية غير جازمة) قررت القوى السياسية الشيعية تحديداً تغليب المصالح الوطنية على الحسابات المذهبية التي لن تكون في مصلحة أحد. وذلك يستوجب القطع مع تركة المالكي الثقيلة نهائياً، تلك التركة التي تجسدت في تسليم ثلث العراق إلى «داعش»، والمحافظة على طرق الإمداد الإيراني لنظام بشار الأسد، وتبديد ثروات العراق.
ودور المرجعيات العراقية الشيعية الوطنية أساسي في إنجاز ذلك، لأن القيادات السياسية الراهنة لا يمكنها مواجهة التحديات الكبرى وحدها، خاصة وأنها فقدت الثقة الشعبية بها، ولا تمتلك القوة المادية بمختلف أشكالها لمواجهة شبكة الميليشيات التي شكّلها المالكي وأعوانه بالتنسيق مع الراعي الإيراني.
ولعل التصريح الذي أدلى به العبّادي في تناوله موضوع الإصلاح، هو الأكثر تعبيراً ودلالة في هذا المجال. فالرجل أكد بأنه سيستمر في برنامجه ولو كلّفه ذلك حياته. فهو ابن النظام الذي أوصل البلاد والعباد إلى هذه المأساة، ولديه اطلاع كامل من موقع المسؤول على الصراعات بين الحيتان الداخلية وارتباطاتها الإيرانية، ولم يكن له أن يقدم على تلك الخطوة من دون مباركة ودعم مرجعية السيستاني.
العراق بكل جهاته ومكونات يعيش لحظة مفصلية، لا نبالغ إذا قلنا إن مصير المنطقة بأسرها يتوقف على كيفية التصرف فيها.
فهل ستنتصر الإرادة الوطنية الحكيمة عبر التركيز على المصلحة العراقية أولاً، وبالتالي إعادة بناء البيت الداخلي العراقي على قاعدة نبذ الفساد والتهميش، واحترام الخصوصيات، والإقرار بمشروعية الحقوق؟ أم ستستمر الفوضى المنظمة، والجرائم المبرمجة في أرض الرافدين التي كانت ولا زالت، بفعل عوامل التاريخ والجغرافيا، والتداخل السكاني، حجر الزاوية في استقرار المنطقة أو اضطرابها.
وسوم: العدد 631