على قائمتين من فساد وخوف وقف فوق رقابنا
على قائمتين من فساد وخوف وقف فوق رقابنا
شادي الخش
لم تكن في أي مرحلة من مراحل حكم الأسد الأب والأبن ظاهرة “الفساد” حالة إستثناء بل كانت فعل ممنهج مدروس بعناية ، فلم يكن لمثل حافظ الاسد أن يتمكن من السيطرة والتحكم بكل مقدرات بلد كسوريا ، وخاصة أنه جاء بعد موجة الإنقلابات والتغيرات التي سيطرت على الواقع السياسي السوري من بعد الإستقلال عن فرنسا ، وحتى سيطرة حزب البعث وإنقلاب حافظ الاسد وإستيلائه على السلطة ، فقد كان يعلم علم اليقين بأن مصيره كمصير من سبقوه من الرؤساء الذين تناوبوا على حكم سوريا.
فكان أن إنتهج سياسة الإغتيالات والإقصاء والنفي والتخويف ولكن حتى هذا لم يكن له أن يجعل من حكمه حكما مستقرا ، وكان لابد من "المال وسياسة المصالح المتبادلة" ، فبدأ بتوزيع الأدوار على الأطراف الأقل عدائية له وأشرك الجميع في دوامة المصالح والفساد المالي بتدرجات تبدأ منه هو و عائلته وتصل حتى مُعلم المدرسة والموظف والعامل والفلاح مرورا بكل التراتبية الحكومية والإقتصادية لسوريا كاملة ، وأصبح الأكثر فسادا هو المؤهل لتولي المناصب والأكثر قدرة على لعب دور المسنن الجيد في ماكينة الفساد التي أصبح من المطلوب ان تشمل كل شيء وكل مفصل من مفاصل الدولة.
ولم تكن الغاية هي توزيع الحصص ولا تقاسمها مع الآخرين ، بل كانت سياسة الإشراك في الجريمة ، تلك السياسة التي تعمل على توليد العامل الأخر او القائمة الأخرى التي يقف عليها نظام مثل نظام الأسد وهي "الخوف" ، فكل شريك في جريمة هو مدان بالضرورة ، وأي سقوط لعضو في عصابته هو إنكشاف لدوره في تلك العصابة ، إضافة إلى الخوف على مصالحه التي بات الفساد هو الوسيلة الأساسية التي تبقيه على قيد الحياة وعلى قيد العمل ، وهي نفسها التي تُبقي الجميع متسترا على الآخر المشترك معه في الجريمة.
هذا بحد ذاته وعلى المدى الطويل صنع فسادا مجتمعيا عميق الأثر ، وأصبح ثقافة متجذرة ضمن المجتمع بكل فئاته وطبقاته ، وحتى الفئات التي يفترض انها الأكثر مناعة ضد ذلك لوجود الرادع الديني لم تسلم من هذه السياسة ، فقد استطاع حافظ الاسد وابنه من بعده أن يخلُق فئات من رجال ونساء الدين تساعده وتوظف فتاويها لصالح تمرير سياسته وصبغها بصبغة مقبولة دينيا.
نعم هما قائمتين وقف عليهما حكم آل الأسد “فساد” تم تجذيره إجتماعيا وجعله ثقافة مقبولة من الجميع ، “وخوف” مصاحب خلقه الإشتراك في هذه الجريمة ، فأصبح الجميع غطاء لبعضهم البعض ، وبنفس الوقت أصبحت رقاب الجميع تحت مقصلة الأسد ، فقد ندر أن تجد مسؤلا حكوميا أو تاجر أو رجل دين أو صناعي لم يتلوث بهذا الفساد ولم يمارسه أو يسهل له ، فقد وصلت الحال في سوريا إلى وضع يستحيل فيه أن تمرر أي معاملة أو تجارة أو فكرة بدون أن تقوم بنوع من الرشوة أو الواسطة والمحسوبية ، وبالتالي إشترك الجميع بقصد او بدون قصد بالجريمة وأصبحو تحت الأمر الواقع مضطرين للتغاضي عما يرونه ومسايرين له فهي الوسيلة الوحيدة للعمل والحياة
من هنا نرى من يطلق مصطلح المجتمع الفاسد على المجتمع السوري ، منطلقا من خلفية الممارسات التي كان الجميع يقومون بها ويتغاضون عنها ويقبلونها.
ومن هنا أيضا نجد أن هذه الممارسات صنعت شرخا واسعا في طبيعة الإنتماء الوطني ، ومدى القدرة على التمييز بين الإنتماء للوطن كفكرة رومنسية مجردة ، وبين الإنتماء لحالة الوطن المرهون للأسد بكل عيوبه وتفاصيله المؤلمة ، فأصبح الوطن في ذهن الكثيرين فكرة ملازمة للأضطهاد والخوف والفساد ، وليس مكانا امنا يحفظ كرامة الإنسان وحقوقه.
وهي أيضا الممارسات نفسها التي جعلت حلم أغلب السوريين الهروب من هذا الوطن ، الى أي مكان يستطيع الانسان فيه أن يعيش حياته ويتعامل بأخلاقيات يستطيع من خلالها أن يكون راضيا عن نفسه على أضعف تقدير ، غير مجبر على أن يكون فاسدا أو يشارك بالفساد ليستطيع الفوز بوظيفة أو تجارة أو يتمتع بأدنى درجات الحياة الكريمة.
يهرب الى مجتمع آخر غير مضطر فيه أن يحيا في ظل خوف مستمر حتى من اللاشيء ،
ذلك الوطن الذي بات في ظل حكم آل الأسد مكانا لا يمكن ان يعيش فيه الفرد كمواطن أو كإنسان يحق له أن يكون شريفا، لأنه سيكون محاربا ومنبوذا من الكثيرين الذين يرون فيه مايريدون ان يكونوا، أو لأنه يجسد حالة تُعطل عمل ماكينة الفساد الأسدية إذا ما تكاثرت ،وتلغي ذلك الشعور بالخوف المسيطر الذي يمنع كامل المجتمع عن محاربة الفساد ومسبباته.