موسوعة جرائم الأمم المتحدة 126
من فجّر فندق القناة وقتل ممثل الأمم المتحدة في العراق فييرا دي ميلو؟ (القسم الأوّل)
ملاحظة: هذه السلسلة من المقالات مترجمة عن مقالات لكتّاب وصحفيين أمريكيين وبريطانيين مثبتة في خاتمة المقالة.
(لكن، لم يكن الارهابيون في العراق فقط الذين مزّقوا حياتي بلا رحمة. لقد حطمت حياتي أيضا التعليمات القادمة من كبار المسؤولين البيروقراطيين في الأمم المتحدة والولايات المتحدة، والتي غطّت ظروف هذا الهجوم بغطاء ثقيل من الصمت ومحاولة تشويه وإعادة كتابة تاريخ سيرجيو، وعلاقتنا والإهمال الغريب لظروف وفاته).
كارولينا لارييرا
مستشارة فييرا دي ميلو
(أنا لست ميالا لنظريات المؤامرة، ولكن لا يمكن للمرء أن يتذكر الهجمة دون أن يتساءل هل كانت نقطة الضعف تلك (بعثة الأمم المتحدة في بغداد) ، من وجهة نظر أمنية، قد تم إضعافها عمدا، ربما لتفادي هجمات محتملة على الأهداف الأكثر قوة، وهي إدارة الجيش الأمريكي ؟!)
سيلسو أموريم
وزير دفاع البرازيل
(تمهيد - من هو سيرجيو فييرا دي ميلو ؟ - الإحتلال الأمريكي والتواطؤ الدولي - للمرة الأولى في التاريخ، يدعم مجلس الأمن احتلال دولة عضو من قبل دولة عضو أخرى - الإستدراج المبيّت والاختيار المميت- مسكة بوش الأفعى والإستفزاز من اللقاء الأول - دي ميلو يطلب سحب اسمه من الترشيح لمهمة العراق - لمسة أفعى ثانية - تفاؤل صادق لكن غير محترس من لدغات الأفعى الكبرى - تاريخ حافل .. واستعداد ممتاز سيستفز الأفعى - بدأ التآمر عليه مع هبوط طائرته في المطار- إرث أسود للأمم المتحدة في العراق بسبب إفساد أمريكا لعملها - الإستياء من المنطقة الخضراء من النظرة الأولى - الإستياء من بول بريمر من الإجتماع الأول - رجل طيّب يثق بنوايا الأمريكيين واللبريطانيين !! - فرصة للثأر الأمريكي من الأمم المتحدة وإذلالها- المهانة عند نقطة التفتيش- بدء الإحباط والتشاؤم والعزلة- إصرار بول بريمر على تدمير الدولة العراقية - بدء التصعيد والخلافات مع بول بريمر - مازال طيّباً يؤمن بنوايا الأفعى الطيبة - ملمس الأفعى ناعم - مصادر هذه الحلقات)
تمهيد
_____
في مساء يوم 19 آب من عام 2003 قام انتحاري بتفجير شاحنة مفخخة عند احدى زوايا فندق القناة من الخارج ، تماماً تحت مكتب مسؤول بعثة الأمم المتحدة في العراق السيّد "سيرجيو فييرا دي ميلو" مما أدى إلى مصرعه ومقتل 21 شخصا آخرين من أعضاء البعثة وجرح (200) شخص آخرين.
إثر ذلك انسحبت بعثة الأمم المتحدة من العراق لتبقى السلطة الأمريكية البريطانية برئاسة اللص الدولي بول بريمر طليقة اليد تتلاعب بمقدرات العراق لوحدها وبلا رقابة دولية حاول السيد فييرا دي ميلو فرضها بشتى الطرق ولم يفلح ولكنها شكلت مضايقة كبيرة لتسلّط الأمريكان وهدرهم لأموال وثروات العراقيين، وإساءتهم لكرامتهم في المعتقلات ساحقين حقوق الإنسان التي يتشدقون بها ، وإمعانهم في تأخير تسليم السلطة لممثليهم وغيرها الكثير من المهانات.
جاء التفجير من الخارج بعد أن أوقف الإنتحاري شاحنته المفخخة – وبالضبط - تحت شرفة غرفة فييرا دي ميلو شخصيا وكأن التفجير موجه له ومن خلاله إلى الأمم المتحدة التي اضطرت بعد ذلك إلى أن تترك سلوكها "المارق" وتعود لتفتتح مكاتبها في "المنطقة الخضراء" الأمريكية المحصنة، وهذا ما أرادته الولايات المتحدة .
جاء هذا التفجير وانسحاب بعثة الأمم المتحدة بعد انسحاب هيئة إنسانية ورقابية كبرى أخرى من بغداد هي اللجنة الدولية للصليب الأحمر بعد هجومين قُتل فيهما عناصر الصليب الأحمر (في 8 نيسان 2003) ثم تفجير مقره في بغداد (في 23 تشرين الأول عام 2003) (راجع الحلقة ؟؟؟؟؟؟) . هذا العام كان عام تصفية الولايات المتحدة لنشاطات الأمم المتحدة.
المهم أن الهجوم المدوّي على بعثة الأمم المتحدة ، وهو أول هجوم يحصل ضد الأمم المتحدة منذ تأسيسها عام 1945 ، تم التواطؤ عليه ودفنه من قبل الأمم المتحدة وسلطة النحالف الأمريكية البريطانية ، فلا تحقيق – كما هو متوقع - ولا هم يحزنون ، ولا أحد – كوفي عنان مثلا – يصرّ على كشف الحقيقة .. وتم إعدام الإرهابي المسؤول بسرعة غريبة وبدون تثبيت ما وعد به من كشف للحقائق !!
مِنْ فجّر مقر بعثة الأمم المتحدة في فندق القناة وقتل رئيس البعثة وهو المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة في الوقت نفسه والمرشح لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة ليحل محل المتواطىء كوفي عنان الذي مسخ سمعة الأمم المتحدة؟
من قتل سيرجيو فييرا دي ميلو ومن خلاله قتل جهود الأمم المتحدة في العراق ؟
سؤال مدوٍ تم التعتيم على جوابه ، سنحاول إلقاء الضوء على هذا الجواب بعد مرور هذه السنوات منطلقين من أن الحقيقة يجب أن تُحفظ في ذاكرة الأجيال الجديدة لكي لا ينسوا شيطانا خرّب وطنهم والعالم اسمه : الولايات المتحدة الأمريكية.
من هو سيرجيو فييرا دي ميلو ؟
___________________
سيرجيو فييرادي ميللو Sérgio Vieira de Mello من مواليد ريو دي جانيرو بالبرازيل في 15 مارس/أذار عام 1948. برازيلي الجنسية. عمل دبلوماسيا للأمم المتحدة لمدة 34 عاما في دول عديدة كان اخرها العراق حيث قُتل في تفجير مبنى الأمم المتحدة في بغداد يوم 19 أغسطس/أب عام 2003 بواسطة سيارة مفخخة، وقُتل معه ما لا يقل عن 20 شخصا بينهم عراقيون وأجانب. وجاء هذا الحادث بعد أشهر قليلة من غزو الولايات المتحدة وبريطانيا الإجرامي للعراق.
انضم ديميللو إلى فريق عمل الأمم المتحدة عام 1969 خلال دراسته الفلسفة والعلوم الإنسانية في جامعة السوربون في باريس بفرنسا. حاصل على درجتي دكتوراه. ويتحدث سيرجيو دي ميللو اللغات الإنكليزية,الفرنسية,الإيطالية,الأسبانية, وبعضاً من اللغة العربية إضافة إلى لغته الأم اللغة البرتغالية. عمل دي ميلو المتزوج والأب لولدين، لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وترقى حتى عُيّن في منصب مساعد مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين في يناير/ كانون الثاني 1996. وُصف دي ميللو بأنه ذو مهارة سياسية فائقة وذو رغبة صادقة في تحقيق السلام في أي مكان في العالم.
عمل دي ميللو في دول عديدة ساعيا لنشر السلام فيها مثل:
بنغلاديش: عمل في مجال اغاثة اللاجئين خلال عام 1971, وهي السنوات التي أعقبت استقلالها عن باكستان.
السودان : حيث عمل في اغاثة اللاجئين هناك.
قبرص: عمل خلال الأزمة مع تركيا عام 1974.
موزمبيق: عمل فيها لمدة الثلاث سنوات التي تبعت استقلالها من البرتغال عام 1975. وكذلك عمل كمنسق إقليمي للأمم المتحدة من أجل منطقة البحيرات الكبرى في أفريقيا.
البيرو: عمل فيها لثلاث سنوات أخرى.
كمبوديا: عمل مبعوثا خاصا لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين خلال أزمة الخمير الحمر، ومديرا لعمليات الإعادة للوطن لدى سلطة الأمم المتحدة الانتقالية في كمبوديا.
لبنان: عمل بين بين عامي 1981 و1983.
البوسنة: في تسعينيات القرن الماضي، حيث عمل رئيسا للشؤون المدنية لدى قوة الأمم المتحدة للحماية في يوغوسلافيا السابقة، خلال فترة الحرب الأهلية.
كوسوفو: عام 1999 خلال أزمة البلقان التي نشبت في يوغسلافيا بين الصرب والألبان, عمل بصفته الممثل الخاص المؤقت للأمين العام للأمم المتحدة، حيث قام بإنشاء بعثة الأمم المتحدة هناك.
تيمور الشرقية: خلال اضطرابات تيمور الشرقية التي كانت تابعة لأندونيسيا قبل استقلالها. وعمل بمشقة من أجل استقلاللها ورفع علمها ووضع دستورها.
العراق: عام 2003 في الفترة التي تبعت الغزو الأمريكي الإجرامي للعراق حيث اغتيل هناك بحادثة تفجير مبنى الأمم المتحدة.
الصورة رقم (1) : صورة تخطيطية للسيّد سيرجيو فييرا دي ميلو وخلفه فندق القناة المدمّر
الإحتلال الأمريكي والتواطؤ الدولي
____________________
في 9 نيسان عام 2003، عندما ساعدت دبابة تابعة للبحرية الاميركية في اسقاط تمثال شاهق لصدام حسين في ساحة الفردوس في بغداد، أشاح العديد من المسؤولين في مقر الأمم المتحدة في نيويورك بعيونهم عن الصور الاحتفالية التي كانت تُعرض على شاشة شبكة سي أن أن . ولكن بعد بضعة أيام، عندما كشفت لقطة عريضة للحدث عن أن عددا قليلا نسبيا من العراقيين شاركوا في إسقاط التمثال، نشر موظفو الأمم المتحدة الصورة ، وبسرعة، عبر البريد الإلكتروني معلّقين: "لم نكن نتمنى أشياء سيئة للعراقيين". ويستذكر مسؤول في الامم المتحدة قائلا : "لكن كنا مرعوبين من أنه إذا استمرت إدارة بوش بعيدا في سحق جميع مكونات القانون الدولي فسوف يتعرض للخطر كل شيء عملنا من أجله".
كان مجلس الأمن قد حجب الدعم عن عملية غزو العراق، وكان الامين العام للامم المتحدة كوفي عنان ودبلوماسيوها قد حذّروا من المعاناة التي سيسببها الغزو للناس. لكنهم كانوا مندهشين من السهولة التي وصلت بها قوات التحالف الأمريكي إلى بغداد، وقلة سفك الدماء النسبية في المعركة. أشعَرَ الانتصار السريع مسؤولي الامم المتحدة بالقلق، لأن من شأنه أن ينشئ سابقة خطيرة، الأمر الذي سيشجّع الدول الأعضاء على الذهاب إلى الحرب حتى في مواجهة معارضة دولية حازمة. عنان كان يتحدث مع زملائه، معبرا عن أسفه لخسارة لا تعوض ترتبط بعمل الامم المتحدة.
كان اهتمام دبلوماسيي فرنسا وألمانيا، وروسيا بميثاق الامم المتحدة أقل من اهتمامهم بمصالحهم الوطنية. وبعد أن عارضت هذه الدول الحرب، صارت علاقاتها شديدة التوتر مع واشنطن، حيث كان يخشى الدبلوماسيون العواقب الاقتصادية والسياسية لاحتلال امريكا للعراق. في 22 مايو، انضمت نفس الدول في مجلس الأمن التي عارضت غزو الولايات المتحدة للعراق في وقت مبكر إلى التصويت لصالح قرار يمنح الشرعية للاحتلال بأثر رجعي. وكانت هذه الدول حريصة على الإشارة إلى دعمها لعراق مستقر وديمقراطي. للتأكد من أن الفرص الاقتصادية لم تنغلق بوجهها هناك، ولإجبار الأميركيين على أن يعترفوا بموجب القانون الدولي، أنهم محتلون رسميّون ، وليسوا "محررين". وكانت تريد ايضا إعطاء الفرصة للامم المتحدة لانها تثق بها أكثر من ثقتها بالأمريكيين، وتريد لها أن تلعب دورا هاما في تشكيل العراق الجديد.
للمرة الأولى في التاريخ، يدعم مجلس الأمن احتلال دولة عضو من قبل دولة عضو أخرى
______________________________________________
ولكن مهما كانت أهداف ونوايا الأوروبيين، فإن دبلوماسيي الولايات المتحدة، الذين يبدو أنهم ما زالوا منتشين بانتصارهم، فرضوا إلى حد كبير بنود قرار مجلس الأمن رقم 1483، ولم يسمحوا للدول الأخرى بأي رأي في كيفية حكم العراق، ولم يسمحوا بوضع جدول زمني لرحيل قواتهم المحتلة، وأعطوا الأمم المتحدة دور التابع وبشكل غير محدد على الرغم من أن قرار الامم المتحدة يلزم - من الناحية الفنية - المحتلين على الالتزام باتفاقيات جنيف التي تحظر على سلطات الاحتلال استغلال موارد البلد أو إجراء تغييرات جوهرية على حكومته. لقد تم إبطال المعايير الدولية للاحتلال. منح القرار 1483 ، وبصورة فعّالة، الأميركيين والبريطانيين السلطة القانونية لاختيار قادة العراق السياسيين، وإنفاق عائداته النفطية، وتغيير بناه القانونية والسياسية والاقتصادية. كما دعا الدول الأخرى الأعضاء في الأمم للمساهمة بالأفراد والمعدات، وغيرها من الموارد لدعم جهود التحالف. وللمرة الأولى في التاريخ، يدعم مجلس الأمن احتلال دولة عضو تابعة للامم المتحدة من قبل دولة عضو أخرى. منى خليل، وهي محامية في مقر الأمم المتحدة، وضعت شاشة حاجبة على جهاز الكمبيوتر الخاص بها كُتب عليها "لقد غادر ميثاق الامم المتحدة مبنى الأمم المتحدة". الكثير من العراقيين كانوا مذعورين عندما علموا بمضمون القرار 1483. وقبل ذلك بشهر، سُئل القائد الشيعي مقتدى الصدر، من قبل صحيفة الواشنطن بوست، إذا كان الأمريكيون محتلين أو محررين، فقال : "أنا لا أعرف نواياهم ... الله وحده يعرف ذلك". بعد ذلك أصبح الصدر والملايين من العراقيين الآخرين يعرفون الجواب: قرار الامم المتحدة أكّد أن ما حصل كان احتلالاً".
كوفي عنان، على الرغم من علمه بمشاكل القرار رقم 1483، قال لزملائه انه سعيد لأنه عاد "مرة أخرى إلى اللعبة." وقال مارك مالوك براون، رئيس برنامج الامم المتحدة الانمائي ان هذا الاجراء كان "قرارا جيدا جدا" لأنه أعطى للامم المتحدة موطىء قدم عند الباب. عرف عنان ومالوك براون أن تحديات إدارة التحولات في فترة ما بعد الحرب هي مهمة شاقة حتى في البلدان الصغيرة مثل تيمور الشرقية، التي أشرفت عليها الأمم المتحدة بين عامي 1999 و 2002، وعبّرا عن ارتياحهما بهدوء لأن مجلس الأمن لم يطلب من الأمم المتحدة ادارة شؤون العراق.
بدلا من ذلك، طلب مجلس الأمن تعيين ممثل خاص للامم المتحدة في العراق، من شأنه أن يساعد في انشاء "الحكومة المؤقتة" في العراق. وحتى هذا المبعوث سيكون خاضعا لسلطة الائتلاف. سيكون لديه جزء من صلاحيات الأخضر الإبراهيمي، مبعوث الامم المتحدة المعين في أفغانستان في عام 2001، الذي كان قد ساعد في اختيار أول رئيس في هذا البلد بعد سقوط نظام طالبان.
الإستدراج المبيّت والاختيار المميت
___________________
اختلف مستشارو عنان حول من سيشغل منصب العراق. العديد منهم يعتقد أنه ينبغي أن يكون مسؤولا صغيرا بما يتناسب تقريبا مع دوره التافه المضحك. سأل كيران برندرغاست، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية، كوفي عنان: "هل الأمريكيون في طريقهم فعلا إلى خلق مساحة لنا كأمم متحدة للعب دور سياسي، أم أنهم عازمون على القيام بكل شيء بأنفسهم ولا يريدون سوى الاستيلاء على غطاء الأمم المتحدة؟". البريطانيون، الذين لا يزال يأملون في أن الأمم المتحدة يمكن أن تلعب دورا حيويا في العراق، حثّوا عنان على تعيين مبعوث قوي بما فيه الكفاية للوقوف في وجه الأميركيين. وقال جيرمي غرينستوك، السفير البريطاني لدى الامم المتحدة لعنان إن الاختيار بسيط : "نحن نتحدث عن سيرجيو دي ميللو".
سيرجيو فييرا دي ميلو Sergio Vieira de Mello ، هو – كما قلنا في البداية - دبلوماسي برازيلي يبلغ من العمر خمسة وخمسين عاما، عمل طوال حياته لللأمم المتحدة. وعبر أربعة وثلاثين عاما من الخدمة، كان قد شغل مناصب في بنغلاديش، السودان، قبرص، موزمبيق، لبنان، كمبوديا، البوسنة والكونغو وكوسوفو وتيمور الشرقية. إلى جانب البرتغالية، يتحدث الانجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية بطلاقة. في عام 2002، تمت ترقيته إلى منصب المفوض السامي لحقوق الإنسان. وصفه أحد الصحفيين الذين عملوا معه في البلقان بأنه رجل وسيم لافت للنظر، وانه كان مثاليا يتابع اهدافه ببراغماتية شرسة. ومن أجل تحقيق أهدافه هو مستعد للتعاون حتى مع البلطجية. زميلته كارينا بيريلي، وهي من اوروجواي وكانت رئيسة شعبة الانتخابات التابعة للأمم المتحدة، وصفته بأنه ثعبان ماكر. في البلقان، حاول استمالة زعيم صرب البوسنة المتشدد، رادوفان كراديتش، وهو طبيب نفسي سابق، من خلال إهدائه نسخة من نيويورك ريفيو أوف بوكس تحت عنوان "حرب على التحليل النفسي." وقال مازحا أن سيرته الذاتية سيُطلق عليها "أصدقائي مجرمو الحرب".
كان فييرا دي ميلو مناسباً لدور مبعوث الأمم المتحدة في العراق ليس لأنه يعرف هذا البلد – إنه لا يعرفه - ولكن لأنه، كدبلوماسي وإنساني، قد جمع الكثير من الخبرة في العمل في الأماكن العنيفة مع رؤساء دول ، وطغاة، وقادة تمرد، ولاجئين. في السنوات الأخيرة، أدار دي ميلو الوكالات التابعة للأمم المتحدة في تيمورالشرقية وكوسوفو، حيث كان قد تمتع بنفس الصلاحيات الشاملة تقريبا التي مُنحت لبول بريمر، رئيس سلطة التحالف المؤقتة في العراق. وكان فييرا دي ميلو قد توقف منذ فترة طويلة عن الاعتقاد بأنه يستطيع خلق الحلول لمكان مضطرب، لكنه عرف كيف يسأل الأسئلة التي تساعد على كشف الأفكار البناءة. ربما يمكن أن يظهر فييرا دي ميلو للأميركيين ما يجب القيام به وما لا يجب القيام به. وكما قال فريد ايكهارد المتحدث السابق باسم الأمم المتحدة : "كان سيرجيو واحدا منّا. لم يكن انتهازيا. كان يدافع عمّا ندافع عنه".
مسكة بوش الأفعى والإستفزاز من اللقاء الأول
_________________________
الأميركيون كانوا متحمّسين بشكل مفاجئ لفييرا دي ميلو. بأسابيع قليلة قبل الغزو، كان قد اقتطف إنجازا غير عادي لمسؤول في الأمم المتحدة: لقد انسحر به الرئيس جورج دبليو بوش. في 5 مارس، في اجتماع في المكتب البيضاوي، تأثّر الرئيس أيضاً بنحافة فييرا دي ميلو، فسلم عليه من خلال الإمساك بكتفه وقال له بإعجاب: "يجب أن تتدرب". فييرا دي ميلو كان قد انتقد المعاملة القاسية للمشتبه فيهم بالإرهاب في مركز الاعتقال الذي تديره الولايات المتحدة في خليج غوانتنامو في كوبا، والذي وصفه دي ميلو بأنه "ثقب أسود قانوني"، وكان قد ضغط على الرئيس من أجل نبذ التعذيب. في هذا الاجتماع كان فييرا دي ميلو حريصاً على عدم التقاطع مع الرئيس، ولم تكن استجابة بوش دفاعية. قال بوش ان غوانتانامو لا يمكن أن يصبح "ناديا ترفيهياً"، وأصر على أن مكافحة الإرهاب تتطلب منهجا قويا. أومأ فييرا دي ميلو وقال: "أعرف" "في تيمور الشرقية أعطيت قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة حرية اطلاق النار بهدف القتل لملاحقة الميليشيات." في وقت لاحق، قال جوناثان برنتيس، المساعد الخاص لفييرا دي ميلو، الذي حضر الاجتماع، لزميل له: "لا أستطيع أن أصدق هذا السخف - المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة يتصرّف بهذا الرياء ويقول أنه منح حق اطلاق النار بهدف القتل". لكن برينتس عرف أن كلمات فييرا دي ميلو كانت استراتيجية : "سيرجيو يعرف أن بوش ربما يفترض أنه من الجماعة الحمقى المزعجين الذين يرفضون المساس بأي شجرة ، وما قاله كان طريقة سريعة ليبين له خلاف ذلك. ومن شأن ذلك أن يعطي انتقاداته اللاحقة المزيد من القوة".
الصورة رقم (2) : الرئيس المجرم بوش الثاني يصافح الراحل فييرا دي ميلو
دي ميلو يطلب سحب اسمه من الترشيح لمهمة العراق
_____________________________
كان فييرا دي ميلو معتاداً على أن لا يرفض أي مهمة أبدا من قبل، ولكن لم يمر وقت طويل على لقائه ببوش حتى طلب من إقبال رضا، رئيسة هيئة موظفي عنان، رفع اسمه من قائمة الترشيح لمنصب العراق. كان قد أمضى سنتين ونصف في جزيرة بعيدة قائظة، حاكما لتيمور الشرقية، وقال انه لا يزال يشعر بالإرهاق. كان قد شغل منصب المفوض السامي لحقوق الإنسان لثمانية أشهر فقط. بعد ثلاثة عقود من العيش في مناطق الحروب، قرر الأن الإلتفات إلى حياته الشخصية. لقد كبر ولداه، وفي تيمور الشرقية كان قد وقع في الحب مع مسؤولة في الامم المتحدة تبلغ من العمر تسعة وعشرين عاما، أرجنتينية - إيطالية، اسمها كارولينا لارييرا، فقرر انهاء زواجه السابق والبدء بزواج جديد.
ومع ذلك، كان فييرا دي ميلو جديا في الإلتزام بنص عقده الذي ينص على أن يعمل في أي مكان يبعثه إليه الأمين العام. كما انه كان يستمتع أيضا بالعمل في قلب الأحداث العالمية. كمفوض سامٍ، كان قضى أيامه في مكتب في جنيف. لقد شعر بأنه انتُزع من العراق، واحد من أكثر الأزمات الجيوسياسية إيلاما في عصرنا. وعلى الرغم من مرور سنوات على إعلانه عن رغبته في الترشح لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة، فإنه يعرف حتما أن احتمالات ترشحه سترتفع بشكل كبير إذا كان سينجح في المساعدة على تحقيق الاستقرار في العراق. كان يعلم أيضا أنه أفضل رجل لأسوأ مهمة، وأنه كان أكثر خبرة في إدارة التحولات في مرحلة ما بعد الصراع أكثر من أي شخص آخر في هيئة الامم المتحدة، وانه يستطيع توظيف هذه المهارات لخدمة الشعب العراقي.
لمسة أفعى ثانية
_________
في أواخر شهر مايو، دعا عنان فييرا دي ميلو إلى نيويورك. عند وصوله، اتصل هاتفيا بلارييرا، التي كانت تعمل موظفة استعلامات عامة في الامم المتحدة. وسوية، جلسا يستعيدان الحجج لرفض دي ميلو الذهاب إلى العراق : "كرّر ورائي، سيرجيو: لا يمكنني القبول. أنا المفوض السامي لحقوق الإنسان، ولقد بدأت للتو". طمأنها سيرجيو، ولكنه كان يعرف أفضل.
عُقد الاجتماع في شقة عنان، على صعيد الجانب الشرقي. قال عنان لفييرا دي ميلو ان مبعوث العراق "سيكون بمثابة جسر للائتلاف، لكنه عليه أيضا أن ينأى بنفسه عن الائتلاف". وقال ان عليه الخروج إلى الأرياف والاستماع إلى المواطنين العراقيين العاديين، وعليه أن يدفع التحالف إلى وضع جدول زمني أكثر حزما لإجراء انتخابات وصياغة دستور، ونقل السيادة. إن الإطاحة بنظام صدام حسين الديكتاتوري خلق دولة منهارة وفراغا أمنيا، كما أن المحتلين قاموا بأخطاء فادحة جعلت الوضع أكثر سوءاً : في مايو أيار، قامت سلطة الائتلاف بحل الجيش العراقي، فتحولت جحافل من العسكريين العراقيين المسلحين إلى أعداء للاحتلال. ثم بدأت سلطة الإئتلاف وC.P.A. بدأت أيضا بتطهير الوزارات العراقية الرئيسية من الموظفين البعثيين ، الأمر الذي أدى إلى إفساد الشرطة وعرقلة تقديم الخدمات. لم يناقش عنان وفييرا دي ميلو المخاطر المادية المترتبة على الذهاب إلى العراق، لأنه، على الرغم من أن النهب كان منتشراً، بدا الأمر كما لو أن قوات صدام حسين قد مُنيت بهزيمة ساحقة. في بغداد، كان العراقيون، والصحفيون الأجانب، وعمال الإغاثة يتنقلون في الشوارع في أمان نسبي. ولم يسأل عنان فييرا دي ميلو مباشرة ما اذا كان سيذهب الى العراق، ولكن بعد ساعة تقريبا من المناقشة قال له : "إذن ، متى نعلن خبر تعيينك في العراق ؟".
تفاؤل صادق لكن غير محترس من لدغات الأفعى الكبرى
_______________________________
قبل فييرا دي ميلو الوظيفة، على شرطين. أولا، ان يقوم باختيار فريق عمله الخاص مما سمح له بإحضار لارييرا الى بغداد بصفتها مسؤولا اقتصاديا. ثانيا، على عكس إدارته لتيمور الشرقية والتي استمرت لعام كامل أطول من المدة المقررة، قال انه سيعمل في العراق لمدة أربعة أشهر فقط، وبعد ذلك يسلم عملياته لممثل خاص آخر ويعود إلى جنيف. "كان سيرجيو أفضل رجل لهذا المنصب"، قال كمال مرجان، مساعد مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين، الذي كان في مركز الوصيف لهذا المنصب. وأضاف "كان الشخص الوحيد في الامم المتحدة الذي كان قادرا على التأثير في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة". ويستذكر مسؤول آخر في الامم المتحدة: "كان الجميع يأمل أن القرار 1483، مع كل السخافات التي فيه ، سيتم إنقاذه من قبل سيرجيو نفسه. تلك كانت الخطة الكاملة: سيرجيو سوف يستطيع إصلاحه".
حتى لو كان فييرا دي ميلو ممزقا بشأن الذهاب إلى العراق، فإنه كان مسرورا لان الامم المتحدة قد تمت دعوتها. وكما قال لمراسل صحيفة وول ستريت جورنال : " بعد أن شتمت الولايات المتحدة الأمم المتحدة ووصفتها بانها غير ذات صلة وقارنتها بعصبة الأمم.. فإن الولايات المتحدة عادت بسرعة جدا، وتراجعت، على الرغم من أنها لم تعترف أبدا، لتبحث عن الشرعية الدولية". وأضاف : " اعتقادي هو أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وتلك الدول التي انضمت إليها ستدرك أن هذه مهمة كبيرة جدا، وإن بناء عراق ديمقراطي ليس مسألة بسيطة. ونتيجة لذلك لديهم كل المصلحة في تشجيع الآخرين الذين ينظر إليهم على أنهم كانوا أكثر حيادية واستقلالا وأكثر قبولا للانضمام والمساعدة في إنشاء هذه المؤسسات الجديدة. ونحن بعد ذلك سننظر إلى الوراء ونرى الحرب على أنها فاصلة استمرت شهرين أو ثلاثة أشهر، وكان ذلك صدمة في الواقع وفعل هزّنا جميعا بقدر كبير جدا، ولكن لا شيء أكثر من ذلك، كان حادثا وليس نمطا جديدا. . . وأنا أنقر على الخشب عندما أقول ذلك ".
تاريخ حافل .. واستعداد ممتاز سيستفز الأفعى
_________________________
في 2 حزيران 2003، كان فييرا دي ميلو على متن طائرة متجهة الى بغداد. كان يرتدي بدلة رمادية مُصممة مع ربطة عنق إيطالية زمردية اللون. "إنه لون الإسلام" هكذا قال. كانت هدية عيد ميلاد من لارييرا، التي ستنضم إليه في 15 يونيو.
وعلى الرغم من جهل فييرا دي ميلو النسبي بأحوال العراق، فإنه يعرف الكثير عن مساعدة المجتمعات الخارجة من الاستبداد والصراعات والحروب. في الثمانينات، كان قد ساهم في قيادة المفاوضات التي أدت إلى خطة العمل الشاملة للاجئي الهند الصينية، والتي أدت إلى عودة وإعادة توطين ثمانين ألف شخص من لاجئي القوارب الفيتنامية. في عامي 1992 و 1993، كان قد دبر إعادة نحو 000،350 لاجئ كمبودي. وفي كوسوفو وتيمور الشرقية قام بكل شيء من تعيين القضاة إلى اختيار أشكال جديدة من العملات وترتيب جمع القمامة.
كان يعرف انه في حاجة لإنشاء قوة دفع فورية. "اريد ناطقين باللغة العربية"، قال لبرنتيس، مساعده الخاص. بين نصف دزينة من الناطقين باللغة العربية الذين عينهم للمهمة، كان غسان سلامة، وزير الثقافة اللبناني الأسبق وأستاذ بمعهد الدراسات السياسية في باريس. سلامه درس التاريخ العراقي ويعرف كبار المسؤولين العراقيين المعارضين والمثقفين، فضلا عن أعضاء من حزب البعث. سلامه حذر فييرا دي ميلو أن تأثير الدول المجاورة للعراق من شأنه أن يزيد في الأشهر المقبلة، وقال له إن الأميركيين ارتكبوا خطيئة كيري بتسريحهم جيش صدام. كان سلامه قد عارض الحرب على العراق، لكنه أراد ان يساعد الأمم المتحدة على إنهاء الاحتلال. وافق على أن يصبح كبير المستشارين السياسيين لفييرا دي ميلو.
على متن الطائرة إلى بغداد، درس فييرا دي ميلو القرار رقم 1483، مع التركيز على البند الذي يشدّد "على حق الشعب العراقي في أن يقرر بحرية مستقبله السياسي". قال إن القرار لم يحدّد بالضبط ما يجب على الامم المتحدة القيام به لجعل هذا يحدث. ووفقا للقرار، فإن الممثل الخاص للامم المتحدة يستطيع "تشجيع" و "تعزيز" تدابير لتحسين رفاهية العراقيين. "أعتقد أنني أستطيع بسهولة "تشجيع" التقدم من جنيف"، قال مازحا لبرنتيس.
بدأ التآمر عليه مع هبوط طائرته في المطار
_______________________
قبل الهبوط، كتب فييرا دي ميلو بياناً سيلقيه على المدرج عند هبوط الطائرة. "بالنسبة لخطاب مدته ثلاث دقائق، بدا من المفرط تدقيق وإعادة تمحيص كل فقرة" قال أحمد فوزي المتحدث باسم الامم المتحدة. واضاف "لكن بالنسبة إلى سيرجيو كان لا بد من القيام بذلك فحسب". كان فييرا دي ميلو قد جاء لفهم ما الذي لم يدركه المخططون الأمريكيون على نحو كاف قبل غزو العراق : الغرباء لا يحصلون أبداً على فرصة لإعادة النظر في الانطباع الأول.
عندما هبطت الطائرة في بغداد، (حصلت أول خطوة تآمرية ضده) ، فقد كان هناك نحو عشرة صحافيين في المطار. لقد أشيد بعودة الأمم المتحدة الى العراق على نطاق واسع في المنطقة وخارجها، وكان فييرا دي ميلو يتوقع حضورا جماهيريا كبيرا. ولكن العديد من الصحفيين كانوا في المدينة، حيث كانوا يحضرون مؤتمرا صحفيا عقده بول بريمر في وقت وصول فييرا دي ميلو. "شعرت وكأنه تمثال نصفي"، يستذكر أحد مسؤولي الامم المتحدة. ومع ذلك، قدم فييرا دي ميلو نفسه بدقة، ودس أوراق نصّه المعد سلفا في جيب سترته، وقال : "يجب أن يأتي اليوم الذي يحكم فيه العراقيون أنفسهم على وجه السرعة". كما أعلن: "في الأيام القادمة، أعتزم الاستماع بشكل مكثف لما يريد الشعب العراقي قوله".
بعد وقت قصير من وصوله، التقى فييرا دي ميلو مع منسق الشؤون الإنسانية التابعة للأمم المتحدة في العراق، راميرو لوبيز دا سيلفا، المسؤول البرتغالي الذي كان قد شغل هذا المنصب منذ السنة الماضية. في عام 1999، كان لوبيز دا سيلفا عضوا في بعثة تقييم جريئة لمدة عشرة أيام ترأسها فييرا دي ميلو في كوسوفو، أدت عملها تحت غطاء من قصف حلف شمال الاطلسي، وكمتحدثين أصليين بالبرتغالية، تشاركا بصلة ثقافية ايضاً. كان لدى الأمم المتحدة الكثير من العمل تقوم به في العراق بحيث أمكن للرجلين تقاسم عملهما. يقوم لوبيز دا سيلفا بتنسيق عمل الوكالات الإنسانية وإعادة الإعمار. فييرا دي ميلو، الذي فضل السياسات العليا وما كان يطلق عليه يوما "توصيل البقالة"، سوف يتولى مهمة أكثر إثارة للجدل (وفيها مقتله) هي محاولة إقناع الأمريكيين أن يقدموا إلى الجمهور العراقي خطة لإنهاء الاحتلال. كان يعلم أن هدفيه : كسب ثقة العراقيين وتطوير علاقة عمل قوية مع الائتلاف، قد تبدو متناقضة من جانب العراقيين المعادين للحكم الأمريكي.
الصورة رقم (3) : غلاف كتاب الصحفية سامانثا باور عن فييرا دي ميلو
إرث أسود للأمم المتحدة في العراق بسبب إفساد أمريكا لعملها
___________________________________
عندما وصل فييرا دي ميلو لأول مرة إلى تيمور الشرقية، في عام 1999، كان التيموريين يشعرون بالامتنان العميق للامم المتحدة لأنها نظمت الاستفتاء الذي أدى إلى استقلالهم عن إندونيسيا. ولكن في العراق فإن موظفي الخدمة المدنية التابعين للامم المتحدة مثل فييرا دي ميلو فهم مجللون بالعار بسبب ارتباطهم بمفتشي الأسلحة الذين أرسلتهم الامم المتحدة لاستباحة البلاد لسنوات في عهد صدام حسين. كان العراقيون مستائين بنفس القدر من العقوبات التي فرضتها الدول الاعضاء في الامم المتحدة بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا على نظام صدام حسين، فدمّرت الاقتصاد وتسببت بموت مليون مواطن عراقي. حتى أن قسما من العراقيين رأوا المسؤولين العاملين في برنامج النفط مقابل الغذاء وكلاء للعقاب. هناك فوائد، مع ذلك، لأن يكون لديك تاريخ في العراق. في حين أن التحالف اعتمد بشكل غير مناسب على المنفيين العراقيين للحصول على المعلومات، كان للامم المتحدة ثلاثة آلاف من الموظفين العراقيين الذين بقوا في البلاد، حتى أثناء الغزو. اعتقد فييرا دي ميلو أنه سيكون من الأسهل بالنسبة له الحصول على قراءة في الشارع العراقي مما يستطيعه بريمر.
انتقل فييرا دي ميلو وفريقه إلى مكاتب في فندق القناة، وهو مبنى من ثلاثة طوابق في الضاحية الشرقية لبغداد، الذي تم تحويله من مدرسة للإدارة الفندقية إلى مقر للأمم المتحدة في التسعينات من القرن الماضي. مع الضوء الأزرق لشعار الأمم المتحدة، كان المبنى معروفا للعراقيين. أعطي فييرا دي ميلو مكتبا في زاوية واسعة من الطابق الثالث.
الإستياء من المنطقة الخضراء من النظرة الأولى
___________________________
في 3 يونيو حزيران ، سافر فييرا دي ميلو لمقابلة بول بريمر في المنطقة الخضراء، حيّ محصن من أربع أميال ونصف ميل مربع على طول نهر دجلة حيث كان الأمريكيون قد نصبوا سلطة الائتلاف المؤقتة. الجدران الكونكريتية والأسلاك الشائكة تحيط بالمنطقة، وأكياس الرمل تحيط بمواضع رشاشات جنود الولايات المتحدة اتقاء الدخلاء. وعندما فتش الجنود الامريكيون الشارات من المسؤولين في قافلة الامم المتحدة، لاحظ فييرا دي ميلو سلسلة طويلة من العراقيين يبحثون عن عمل أو يحاولون تسجيل شكاوى. ومع رؤية التفتيش القاسي التي يتعرض له العراقيون، هزّ فييرا دي ميلو رأسه وتمتم لبرينتس، وقال "هناك تذهب القلوب والعقول".
كان مذهولا من العزلة المتعمدة للأميركيين. قال فييرا دي ميلو في محادثة هاتفية في وقت لاحق مع برنار كوشنير، الدبلوماسي الفرنسي الذي كان قد خلفه في إدارة كوسوفو، "انها مثل معسكر بوندستيل في كوسوفو. لقد خلقوا البلدة الخشبية الخاصة بهم. إنهم مقيمون في ثكناتهم. إنهم يغادرون في سيارات مصفحة. كانوا يرتدون سترات واقية. نادرا ما يخرجون، وعندما يفعلون ذلك يعودون بأسرع وقت ممكن".
عندما دخل فييرا دي ميلو وفريق الامم المتحدة القصر السابق لصدام حسين الذي اختاره بريمر مقراً للعمل، رأوا الأميركيين يخرجون من مكاتب حُدّدت لمختلف الوزارات العراقية. كان القرار 1483 قد نصّ على أن تكون سلطة الائتلاف سلطة مؤقتة في العراق. أدرك فييرا دي ميلو الآن أن سلطة الائتلاف تعتبر نفسها الحكومة الفعلية.
الإستياء من بول بريمر من الإجتماع الأول
_______________________
في الاجتماع، أوضح بريمر أنه رأى أن تكون أهداف المرحلة الأولى من الفترة الانتقالية هي اقتلاع النظام البعثي وإقامة القانون والنظام والخدمات الأساسية. قلق فييرا دي ميلو من أن هذه الأهداف كانت ذات أغراض متقاطعة : أن اقتلاع النظام القديم سوف يقوّض سلطة الدولة وقدرتها على توفير الخدمات والاستقرار الذي يقول بريمر بأنها ضرورية.
مع ذلك، كان بريمر يبدو غير مبال. قال : "اننا نتوقع أن تتحول البوصلة في الشهر المقبل أو نحو ذلك"، "المرحلة الثانية، ستشمل إعادة البناء الاقتصادي وخلق فرص العمل، وتشكيل الهيئات الديمقراطية". ثم قال انه يعتزم تعيين مجموعة من العراقيين من شأنهم أن يضعوا الدستور الجديد. جفل فييرا دي ميلو من فكرة أن الدستور ستتم صياغته قبل عقد الانتخابات العامة، لأنه سيبدو وكأنه ميثاق أمريكي غير شرعي. ولكنه امتنع عن طرح آرائه، فهو من نوع الأشخاص الذين يحجمون بقوة عن تنفير شخص قبل أن يحصل أوّلاً على فرصة للظفر به. (دوغلاس ستافورد، النائب السابق للمفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وصف في السابق فييرا دي ميلو بأنه "الرجل الذي لا يعرف كيف يخلق عدواً").
رجل طيّب يثق بنوايا الأمريكيين واللبريطانيين !!
___________________________
عاد فييرا دي ميلو إلى فندق القناة، حيث خاض نقاشا ساخنا مع كبار مساعديه. أصرّ جمال بنعمر، واحد من مستشاريه الناطقين باللغة العربية، على أن الولايات المتحدة، من خلال تولي مهام إدارة العراق والتصرف كدولة ذات سيادة كاملة، قد انتهكت بالفعل قرار 1483، وحث فييرا دي ميلو على الضغط من أجل تشكيل فوري للحكومة العراقية، وإلا فإن الأمم المتحدة تبدو متورطة مع الاحتلال وستُحتقر من قبل العراقيين. ردّ فييرا دي ميلو بأن بريمر سيرد بشدة على الانتقادات، وأعرب عن اعتقاده بأن الأمم المتحدة يجب أن تعمل مع الأميركيين من أجل تغيير نهجهم. واضاف "اننا لا يمكن أن نكتفي بالجلوس في فندق القناة دون القيام بأي شيء"، وقال لفريقه: "لا يمكن أن نساعد الناس من مسافة بعيدة".
في لقاءاته مع المسؤولين الأميركيين والبريطانيين، لم يركز فييرا دي ميلو على ما إذا كان التحالف يجب أن يكون في العراق في المقام الأول. "كانت الحرب حقيقة" يقول برينتس "وكان الاحتلال حقيقة واقعة. وستكون أمام خيارين عندما يكون لديك مثل تلك الحقائق: إما أن تقوم بمحاولة لمساعدة الشعب العراقي للخروج من الفوضى ورسم نهاية سريعة للاحتلال، أو يمكنك أن تأخذ المكانة الخلقية "الرفيعة" وتدير ظهرك. "وكان فييرا دي ميلو في كثير من الأحيان يتحدث عن أهمية نوايا "الملاكمة السوداء"؛ فمن خلال امساك الأميركيين بكلماتهم، ثم جعلهم يلتزمون بتلك الكلمات، يمكنك تأسيس نفوذ" ، هكذا كان يقول لزملائه.
في عام 1991، وقع زعماء الخمير الحمر اتفاق سلام، تعامل معه فييرا دي ميلو باحترام، حتى بعد إن استمر الخمير الحمر في ممارسة العنف. زادت لدى كبار المسؤولين في الخمير الحمر الثقة به، الأمر الذي ساعده على إكمال خطته الطموحة بعودة اللاجئين. على مر السنين، جعل نهج فييرا دي ميلو شعبيته قليلة بين نظرائه الأكثر عقائدية في الأمم المتحدة، الذين يرون فيه متنازلا ولاأخلاقيا. (في البلقان، كان العديد من منتقديه يلقبونه بـ "الصربي").
في الليلة الثالثة له في بغداد، كان فييرا دي ميلو على العشاء مع جون سويرز، الدبلوماسي البريطاني الذي شغل منصب نائب بريمر. وصف فييرا دي ميلو العبرة من ولايته في تيمور الشرقية: "كان التيموريون على وئام مع الامم المتحدة في تحديد ولاية لمدة معينة، أي لفترة وجيزة من الوقت. ولكن عند نقطة معينة، كان علينا أن نتحول إلى دور الدعم.. وعلينا أن نفعل الشيء نفسه هنا". وبعد العشاء، بدأ بتقديم اقتراحات لسويرس قائلاً : "اذا اعتقد بريمر أن هذه الأفكار بريطانية وليست أفكار الأمم المتحدة، فإن من المرجح أن يقبلها".
فرصة للثأر الأمريكي من الأمم المتحدة وإذلالها
___________________________
في أول لقاء بين مسؤولين متوسطي المستوى من البعثة وسلطة الإئتلاف الدولى في المنطقة الخضراء تم توزيع نسخ من القرار 1483 على المجتمعين، وبدأوا بمناقشة النص سطرا سطرا. الأمريكيون بدو محتقنين ومتشنجين. "ماذا يعني "تشجيع" ؟" سأل واحد. "نحن لا نعرف" قالت نادية يونس، رئيسة موظفي البعثة. "أنتم كتبتم كلّ شيء في هذا القرار!" قال جمال بنعمر، إن "سلطة الإئتلاف أوضحت أن ما متوقع من الأمم المتحدة هو إصدار بيان صحفي من وقت لآخر تثني فيه على جهود التحالف. هم سيفعلون كل شيء، ونحن سوف نصفق " (قال بول بريمر إنه يحب هذا القرار، لأنه لم يترك مجالا للشك في من الذي يحكم العراق.. نحن أصحاب السيادة بموجب القانون الدولي، إما أن تكون ذا سيادة أو لا . إنها مثل ان تكون حاملا. تحت بنود الرقم 1483 الدور الذي يقوم به سيرجيو والأمم المتحدة سيكون محدودا. إنهم هنا لمساعدتنا").
كان أعضاء فريق فييرا دي ميلو متألمين من تعاملهم مع الائتلاف. فكل الموظفين التابعين للامم المتحدة كانوا قد عارضوا الغزو الذي قادته الولايات المتحدة. الآن وجدوا أن أغلب المسؤولين في قوات الإئتلاف – وبشكل غريب - شباب صغار وقليلو الخبرة. وكان العديد منهم من المحافظين سياسيا، ومن الذين يحلمون بصوت عال في تحويل العراق إلى مختبر لديمقراطية السوق الحرة. لا أحد منهم تقريباً يتحدث العربية.
المهانة عند نقطة التفتيش
_____________
كان الشك متبادلاً. فمسؤولو الولايات المتحدة لم ينسوا رفض مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة دعم الحرب. في أواخر يونيو حزيران، أوقف فييرا دي ميلو عند نقطة تفتيش تابعة للتحالف على طريق المطار. قال آلان شيرغو ، حارس فييرا الشخصي للضابط (ملازم) الأمريكي إن المركبات التابعة للأمم المتحدة، وفقا للقواعد الدولية، لا يمكن تفتيشها. لكن الملازم رفض السماح بمرور قافلة الأمم المتحدة دون تفتيش. سأله شيرغو مُحبطاً "هل تعرف من هو الشخص الذي في السيارة؟". "لا، وأنا لا أهتم بذلك"، أجاب الملازم. اتصل شيرغو برئيس موظفي بريمر، الذي حاول التدخل. لكن الملازم لا يزال غير متأثر. فييرا دي ميلو، شاعراً بالإذلال، خرج أخيرا من السيارة واتصل ببريمر، الذي اتصل بضابط من موظفي القائد الاميركي الجنرال ريكاردو سانشيز لأجل السماح للقافلة بأن تمر من نقطة التفتيش !!
في صيف عام 2003، لم تكن بغداد بخطورة سراييفو عندما كان فييرا دي ميلو يعيش هناك تحت الحصار في عام 1993. والعراقيون الذين التقى بهم فييرا دي ميلو شكو من السرقة والبطالة وعدم وجود الكهرباء، وإهانة الاحتلال الأجنبي، ولكنهم لم يكونوا حتى الآن قلقين من الانتحاريين أو الحرب الأهلية. كانت المقاومة قد بدأت، ولكن كانت أهدافها هي قوات التحالف المحتلة، وفي يونيو ويوليو بدى أن هذه الهجمات كانت الرمق الأخير للنظام البعثي.
ومع ذلك، كان فييرا دي ميلو دقيقاً ومحترساً. كان في البداية يسكن في أحد الطوابق العليا من فندق شيراتون في وسط بغداد، ولكن المصاعد نادرا ما تعمل. "كيف لي أن أنزل كل هذه السلالم إذا تعرض الفندق لهجوم؟" سأل حارسه الشخصي. في أواخر يونيو، انتقل إلى مقر إقامته في فندق السدير المجاور، الذي كان أصغر وأقل ازدحاماً.
بدء الإحباط والتشاؤم والعزلة
______________
في بعثات الأمم المتحدة السابقة، كان فييرا دي ميلو يعمل على رفع الروح المعنوية لموظفين عن طريق جعل نفسه جاهزاً للعمل بعد ساعات من الشرب. ولكن في بغداد كان نادرا ما يختلط. عندما وصلت لارييرا، أحضرت معها بعض المواد التي طلبها كالشوكولاته، والأقراص المدمجة من الموسيقى البرازيلية، وصور من تيمور الشرقية، ولغرض الحظ الحسن، تمثالان حديديان صغيران لبوذا كانا قد اشترياها معا في تايلاند. وضع بعض قناني النبيذ وعلب الجبن في مكتبه في القناة، لكنه عادة ما يسارع إلى "البيت"؛ إلى واحة إقامته الباهتة في فندق السدير. "سوف أطهو الطعام،" كان يقول دائما عندما يصل الفندق هو ولارييرا. وفي معظم أيام الأسبوع، كان يلتقط بقايا الطعام المتروك في كافتيريا القناة، ويقوم بتسخينه لهم على موقد كهربائي صغير. الموظفون بدأو بالتذمر من أنه كان يعيش في عزلة. دفعه سلامه للخروج على الأقل في وجبات غداءات يوم الجمعة. في إحدى المرات، عندما كان يعتقد انه سيتناول الغداء وحده مع سلامه، وصل إلى المطعم ووجد المائدة مليئة بالموظفين التابعين للأمم المتحدة. بعد تصنّع انتظار وجبة الطعام، قال لسلامة : "في المرة القادمة، قل لي مَنْ الذين سيأتون لتناول طعام الغداء".
على الرغم من أن فييرا دي ميلو حجب نفسه عن زملائه، فإنه كان يصر على ان الأمم المتحدة يجب أن تعزّز إمكانيتها على الوصول والتأثير. في محيط مقر الأمم المتحدة كانت هناك دوريات فقط من ثلاثين جندي أمريكي، ولم يطلب فييرا دي ميلو أي تعزيزات، معتبرا أن وجودا أكثر وضوحا للولايات المتحدة من شأنه أن يكون دعوة للهجوم. وكلما أصبح بريمر والأمريكيون أكثر عزلة ، صار فييرا دي ميلو وزملاؤه في الأمم المتحدة أكثر ترحيبا ومضيافية : كان العراقيون يجتمعون بانتظام مع موظفي الأمم المتحدة في الكافتيريا لتناول الشاي أو القهوة، واستخدام أجهزة الكمبيوتر التابعة للأمم المتحدة للتحقق من البريد الإلكتروني . رأى ضباط الأمن المعنيون أنه إذا انفجرت قنبلة في مكان قريب قد يتهشم زجاج بعض نوافذ المقر في القناة. قرر فريق الأمن الدولى وضع حاجب مقاوم للانفجار على النوافذ. ولكن، لأنه لم يكن واضحا من أين تُصرف المبالغ المطلوبة ، عولج مكتب فييرا دي ميلو والكافتيريا فقط. وتم تأجيل بقية المشروع.
إصرار بول بريمر على تدمير الدولة العراقية
_________________________
يوما بعد يوم، كانت بغداد تصبح أكثر عنفا. وكانت إدارة بوش قد أرسلت عددا قليلا جدا من القوات الأمريكية لملء الفراغ الأمني أو للسيطرة على حدود العراق، مما سمح للمسلحين الأجانب بالمرور بسهولة إلى العراق. الدول الأخرى الأعضاء في الأمم المتحدة، بعد أن عارضت الغزو، كانت مترددة في تقديم قوات لحفظ النظام أو شرطة مدنية، كما فعلت في بعثات حفظ السلام في كمبوديا والبوسنة وكوسوفو، وتيمور الشرقية. وكانت قرارات بريمر بتسريح الجيش واجتثاث البعث تنفّر العراقيين أنفسهم الذين حافظوا على الأمن، وما زال الكثير منهم يحتفظون ببنادقهم.
حثّ فييرا دي ميلو بريمر لتقليص مرسوم اجتثاث البعث من خلال استهداف مسؤولي الحزب القياديين من الدرجة الاولى فقط بدلا من التكنوقراط من المستوى المتوسط. كما دافع عن ضرورة تلبية احتياجات قدامى المحاربين في الجيش العراقي. وذكّر بريمر أن مسؤولي الامم المتحدة لديهم خبرة في وضع برامج لإعادة إدماج الجنود المُسرّحين في الحياة المدنية أو في قوات شرطة محترفة. وهذه العملية سهّلت الأمور في تيمور الشرقية والبوسنة، على سبيل المثال. وقال لبريمر ان خافيير سولانا، الأمين العام لمجلس الاتحاد الأوروبي، قد طرح احتمال أن يساهم الاتحاد الأوروبي بقوات شرطة من خلال الامم المتحدة. ردّ بريمر بأن على الأوروبيين أن يضعوا شرطتهم الخاصة تحت إشراف قيادة الائتلاف.
في كل مرّة يزور فييرا دي ميلو بريمر في المنطقة الخضراء، يجد المزيد من أكياس الرمل في كل أنحاء المدخل، وخطوط العراقيين خارجها صارت أطول. في 18 يونيو، تجمّع نحو ألفين من الضباط العراقيين السابقين خارج المنطقة الخضراء احتجاجا على تسريح الجيش. وخلال المظاهرة، ذهبت مجموعة صغيرة من الضباط إلى فندق القناة في محاولة لإقناع فييرا دي ميلو لمساعدتهم على العودة إلى الخدمة. وَعَد الرجال بأنه سوف يتفاهم مع بريمر. لكن بريمر قال له أن هذا القرار يعبر عن رغبات واشنطن.
بدء التصعيد والخلافات مع بول بريمر
_____________________
عقد فييرا دي ميلو أول مؤتمر صحفي له في 24 يونيو. "كنتم قد لاحظتم أنّني على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية كنتُ هادئاً نوعا ما"، قال. واضاف "هذا لأنني كنتُ أقوم بالاستماع، والسفر، والتعلّم". قام فريقه بتقسيم المجتمع العراقي إلى فئات: الأحزاب السياسية والنقابات المهنية، والمنظمات غير الحكومية، وجماعات حقوق الإنسان والمحامين والقضاة والمجموعات النسائية، والجماعات الدينية. "حسنا، من الذي سألتقي بهم اليوم؟" ، هكذا كان يسأل موظفيه كل صباح. بعد إجراء سلسلة طويلة من اللقاءات الأولية والاتصالات في بغداد، أعلن فييرا : "الآن أنا في طريقي إلى المناطق!" سيتم التعرف على العراقيين المؤثرين في البصرة والموصل وأربيل والسليمانية والحلة والنجف. "بريمر لم يكن لديه الوقت للتحدث مع الناس"، يتذكر غسان سلامة "لأن القرار 1483 لم يعط للأمم المتحدة أية مهام حقيقية، كان لدينا كل وقت العالم للاستماع".
في ذلك الوقت، كان الأمريكيون على اتصال قليل بالزعماء الدينيين في العراق. اعتقد فييرا دي ميلو أن الأمم المتحدة يمكن أن تقدم مساهمة إذا كان بإمكانها الحصول على دعم من رجال الدين الأقوياء. في 28 يونيو، سافر جنوبا الى النجف للقاء آية الله العظمى علي السيستاني، رجل الدين الشيعي البارز، الذي كان قد رفض اللقاء مع المحتلين. بصوت خافت ، اشتكى السيستاني من اندفاع الائتلاف لخصخصة الشركات المملوكة للدولة، فضلا عن استخدامها للقوة المفرطة. وقال أيضا أنه كان يخطط لإصدار فتوى تعلن أن العراقيين وحدهم يمكن أن يكتبوا الدستور العراقي.
" سماحة السيّد" بدأ فييرا دي ميلو، حديثه باستخدام التعبير العربي والذي كان قد تم الاعداد له على طول الطريق من بغداد. "أنا أفهم أنك تريد أن يكتب الدستور من قبل عراقيين".
"أنا لا أقول أن الدستور يجب أن يكون مكتوبا من قبل العراقيين"، قال السيستاني بشكل حاد "لقد قلت يجب أن يكون مكتوباً من قبل عراقيين مُنتخبين."
أومأ فييرا دي ميلو برأسه وقال : "تعلمت الدرس نفسه في تيمور الشرقية". مع هذه الكلمات، وضع فييرا دي ميلو نفسه ، ربما عن غير قصد، في موقع المعارضة المباشرة لسلطة الائتلاف، التي لا تزال تعتزم تشكيل لجنة لتحديد صياغة الدستور. كان بريمر - على خلاف ذلك – غير حساس تجاه أهمية طرح دستور لا تشوبه شبهة الارتباط بالمحتلين. ولكن فييرا دي ميلو، بعدم إخباره السيستاني بأن انتخابات نزيهة تحتاج إلى سنة كاملة من الإعداد، قد أثار توقعات لا يمكن تلبيتها.
الصورة رقم (4) : فييرا دي ميلو مع رجال دين في النجف الأشرف
بعد الاجتماع، كان فييرا دي ميلو مندفعا لزيارة الضريح المقدس للإمام علي. "أريد أن أذهب إلى الضريح" همس لسلامة، الذي هز رأسه، قائلا إن مواجهات دامية وقعت هناك قبل بضعة أسابيع. "لا، لا بد من ذلك يا غسان.. أنا قد لا أعود إلى هنا مرة أخرى."
وكانت مجموعة كبيرة من العراقيين قد تجمعت حولهم، وبدأ البعض بالتذمر، "ماذا يفعل هؤلاء الأجانب هنا؟"
"لنخرج الآن، سيرجيو"، قال سلامة، بحزم.
"لماذا؟" سأل.
"لنخرج الآن"، قال سلامه. غادر فييرا دي ميلو الضريح على مضض. قال مسؤول الأمم المتحدة الذي كان يستذكر الحدث : "سيرجيو كان يريد اسكتشاف عالم العراق. من الناحية الفكرية، كان يريد أن يرى كل شيء، وأحيانا كان يتغافل عن الحساسيات السياسية ".
في طريق العودة الى بغداد، هنأ سلامه فييرا دي ميلو: "هل تعلم أنك قمت ببيان كبير هناك"، مشيرا إلى تأييده لقواعد السستاني الانتخابية الأساسية، التي عارضت بريمر. فييرا دي ميلو لكم سلامه هازلاً.
بعد يومين من الاجتماع، أصدر السيستاني فتوى تقول انه لن يعترف بشرعية الدستور الذي لا يُكتب من قبل جمعية عراقية منتخبة. وقال أيضا أن الأمم المتحدة اتفقت معه. طلب بريمر من فييرا دي ميلو دحض ادعاء رجل الدين باعتباره تحريف لموقف الامم المتحدة، لكن فييرا دي ميلو رفض. كان غضب بريمر شديداً : "استغرقنا شهورا طويلة للتراجع عن الضرر الذي سبّبه سيرجيو في جلسة واحدة" قال بريمر.
على الرغم من أن فييرا دي ميللو كان مرعوبا من أخطاء الائتلاف، فإنه كان يشعر أنها خلقت فرصة للأمم المتحدة. في مذكرة أرسلها إلى زميل له، كان متفائلا: "إنني على ثقة من أن الأمم المتحدة سوف تكون قادرة عملياً، بخلاف المعارضة اللفظية، على لعب "دور حيوي" في العراق ". وكان فريقه حريصا على تقديم المساعدة في وضع خطة لتقاسم السلطة بين الطوائف العراقية العديدة. "العراقيون بحاجة إلى معرفة أنهم سوف يحصلون على سلطة تنفيذية ملموسة"، هكذا قال فييرا دي ميلو لبريمر.
كانت لدى الأمم المتحدة خبرة كبيرة مع الدساتير والانتخابات. وكان فييرا دي ميلو قد تعامل مع مثل هذه القضايا في كمبوديا وكوسوفو وتيمور الشرقية. وذكرته خطط بريمر الحالية ببعض أخطائه السابقة الخاصة. في تيمور الشرقية، كان قد تعرض لانتقادات لاذعة لعدم البدء بتقديم جدول زمني واضح للانتقال إلى السيادة الكاملة. كانت الأمم المتحدة قد أبقت التيموريين في الظلام بنفس الطريقة التي فشل فيها الأمريكيون في تنوير العراقيين. وحث فييرا دي ميلو بريمر على البدء في تطوير وتعميم خطة للانتخابات.
مازال طيّباً يؤمن بنوايا الأفعى الطيبة
____________________
في إحدى الجلسات، قال بريمر انه على وشك تعيين "لجنة استشارية" من القادة العراقيين. اقترح فييرا دي ميلو أن تتم إعادة تسمية المجموعة العراقية باسم "الحكومة المؤقتة". رفض بريمر ذلك، ولكنه وافق على فكرة فييرا دي ميلو ان كلمة "مجلس" تحمل إيحاء بالمسؤولية أكثر من كلمة "لجنة"، ولكن ذلك لم يكن كافيا. "نحن في حاجة للإشارة إلى سلطات تنفيذية" قال فييرا دي ميلو. وقال سلامة، الذي حضر الاجتماع، "يجب علينا أن نضع كلمة حكم في الاسم." وافق بريمر، وتمت تسوية الأمر واتُفق على تعبير "مجلس الحكم".
ظلت وظائف مجلس الحكم غير محددة. حث فييرا دي ميلو بريمر على إعطاء المجلس صلاحيات إدارة الشؤون الخارجية والمالية والأمن، والعملية الدستورية. كما ضغط للسماح للعراقيين في تعيين الوزراء وإعطائهم السلطة للموافقة على الميزانية الوطنية.
كان على بريمر، من جانبه، أن يقرر انتماءات الخمسة وعشرين عضوا في مجلس الحكم. فييرا دي ميلو، الذي كان قد أمضى الستة أسابيع السابقة في لقاءات مع القادة العراقيين، تطوع بتقديم الأسماء. أقنع بريمر بشمول الأمين العام للحزب الشيوعي حميد مجيد موسى، وعقيلة الهاشمي، وهي دبلوماسية شيعية من ذوي الخبرة الذين ساهموا في ترتيب لقاءات فييرا دي ميلو الأخيرة في النجف، وأصبحت واحدة من ثلاث نساء فقط في المجلس.
كان فييرا دي ميلو يشعر بالفخر لإسهاماته في مجلس الحكم. في برقية لمقر الامم المتحدة في أوائل شهر يوليو، كتب أن "بريمر كان يقتنع بصعوبة بأن أفكارنا كانت مؤثرة." وأشار إلى أن سلطة الإئتلاف أظهرت "فهما متزايدا" لحقيقة أن "تطلعات وإحباطات العراقيين لا بد من التعامل معها بقدر أكبر من التعاطف والإستيعاب وان الأمم المتحدة لديها دور مفيد في هذا الصدد". ربما كان فخر فييرا دي ميلو مفرطا. لقد رأى أنه انتصار أن يكون تسعة فقط من خمسة وعشرين عضوا في مجلس الحكم من المنفيين. ومع ذلك، وكما لاحظ الكثير من العراقيين، كان ستة من ثلاثة عشر من ممثلي الشيعة وثلاثة من أهل السنة الخمسة من المنفيين. وأشاد فييرا دي ميلو بسلطة مجلس الحكم على اقتراح سياسات وتعيين دبلوماسيين ووزراء مؤقتين. لكن بريمر كان يمكنه الاعتراض على أي من هذه القرارات.
افتتح المجلس في 13 يوليو عام 2003، وكان فييرا دي ميلو الوحيد غير العراقي الذي تحدث في حفل الافتتاح. ارتدى ربطة عنق زرقاء فاتحة تكريما للأمم المتحدة. قال : "نحن هنا، في أي شكل من الأشكال التي ترغبونها، ولطالما كنتم تريدوننا هنا". هكذا تحدث للعراقيين الذين قد أتموا للتو أداء اليمين الدستورية كأعضاء في المجلس.
عند العودة إلى فندق القناة، انقسم موظفو البعثة مرة أخرى. حذر مروان علي، المعاون السياسي لفييرا : "سيرجيو، ألا ترى، أنك لم تغيّر الأميركيين. بل تقوم بمساعدتهم". قال فييرا دي ميلو أن مجلس الحكم هو" اللعبة الوحيدة الممكنة". وأإن الأمم المتحدة سوف تكون قادرة على التفاوض مع القادة العراقيين وليس مع المحتلين. "هذه ليست سوى البداية، ولكنها بداية ضرورية".
ملمس الأفعى ناعم
____________
فييرا دي ميلو وبريمر إقاما علاقة هشة. على الرغم من أن بريمر تربطه علاقات وثيقة مع بعض المحافظين الجدد في واشنطن الذين ينظرون للأمم المتحدة بازدراء، فإن فييرا دي ميلو كان يعتقد أن بريمر كان أكثر عالمية، لأنه كان يتحدث الفرنسية والهولندية، والنرويجية. وقال "لقد اعطيت المشورة لبريمر حول كيفية التعامل مع كرامة العراقيين الجريحة"، وقال لجوناثان ستيل، وهو مراسل لصحيفة الغارديان: "كان هناك تغير تدريجي لديه. كل شيء أقوله له، يستوعبه. سوف ينجح بريمر اذا جعل من نفسه رجل العراق في واشنطن بدلا من أن يكون رجل واشنطن في العراق" كما قال فييرا دي ميلو لراجيف شاندر، من واشنطن بوست. استمتع فييرا دي ميلو بتورطه في مثل هذا التحدي رفيع المستوى. في رسالة عبر البريد الإلكتروني إلى بيتر غالبريث، سفير الولايات المتحدة السابق في كرواتيا، الذي يعتزم زيارة العراق، كتب: "لماذا يوم واحد فقط في بغداد؟ هنا حيث الأشياء تحدث. . . الجيد والسيء منها".
استولى على فييرا دي ميلو الاعتزاز بما حققته للامم المتحدة. "هل تصدق أننا مددنا ولايتنا الهامشية بقدر ما نستطيع ؟" سأل سلامه في أواخر يوليو تموز. وأعرب عن اعتقاده ان الأمم المتحدة من شأنها أن تساعد في تنظيم انتخابات تاريخية في عام 2004. "العراق هو اختبار لكل من الولايات المتحدة والامم المتحدة" هكذا قال لصحيفة لا كروا الفرنسية. "لقد أصبح العالم معقدا للغاية لدولة واحدة، مهما كانت قوتها، لتحديد مستقبل أو مصير البشرية. إن الولايات المتحدة تدرك أن ذلك يصب في مصلحتها لممارسة السلطة عن طريق هذا الفلتر متعدد الأطراف الذي سيعطيها المصداقية والمقبولية والشرعية. لقد انتهى عصر الإمبراطورية ".
(يتبع)
مصادر هذه الحلقات
مصادر هذه الحلقات حول اغتيال سيرجيو دي ميلو سوف تُذكر في ختام الحلقة المقبلة
وسوم: العدد 680