دور البنك الدولي وشركات العولمة الزراعية في انتحارات الفلاحين الهنود (113)
ملاحظة
هذه الحلقات مترجمة ومُعدّة عن مقالات ودراسات وكتب لمجموعة من الكتاب والمحللين الأمريكيين والبريطانيين.
بسبب برامج البنك الدولي انتحار 150000 فلاح هندي خلال 8 سنوات
________________________________________
نشرت صحيفة "هندو hindo" تحقيقا عن انتحارات الفلاحين الهنود جاء فيه : "ما يقرب من 001500 من المزارعين الهنود انتحروا في تسع سنوات 1997-2005، كما أظهرت ذلك البيانات الرسمية. في حين وقعت حالات الانتحار في العديد من الولايات، فقد تركز ما يقرب من ثلثي هذه الوفيات في خمس ولايات حيث يعيش ثلث سكان البلاد. وهذه الولايات هي التي طُبّقت فيها برامج البنك الدولي لزراعة المحاصيل النقدية في المقام الأول.
وقد أظهرت هذه الولايات زيادة مطردة في عدد حالات الانتحار الزراعية السنوية خلال هذه الفترة. ففي ولاية كيرالا ارتفعت حالات انتحار المزارعين هناك أكثر من ثلاثة أضعاف من 1083 في 1995-3926 في عام 2005.
وكان معدل الزيادة في حالات انتحار المزارعين كان أعلى بكثير من معدل الزيادة في حالات الانتحار من قبل غير المزارعين. ففي حين كان انتحار غير المزارعين قد ارتفع بنسبة 23 في المائة في أربع ولايات كبيرة، ارتفع انتحار المزراعين بنسبة 52 في المائة. في الواقع، يمكن أن يطلق على هذه الولايات "المناطق الاقتصادية الخاصة بالانتحار".
وفي تحقيق ثانٍ للصحيفة نفسها حول الموضوع نفسه جاء ما يلي :
"في حين أن عدد حالات انتحار المزارعين كان في تزايد، انخفض عدد المزارعين منذ عام 2001، مع آلاف لا تُحصى هجرت الزراعة بسبب المحنة التي تعاني منها.
على الرغم من أن بيانات المكتب الوطني لسجلات الجريمة (NCRB) في الهند تؤكد على العدد المروع وهو 150000 حالة انتحار بين المزارعين بين عامي 1997 و 2005، فإن الرقم الحقيقي ربما يكون أكبر من ذلك بكثير، وأن معدل انتحار المزارعين أي عدد حالات الانتحار في كل 100000 من المزارعين - من المرجح أن يكون أعلى بكثير من المعدل المُعلن المقلق وهو 12.9 المذكور في تعداد عام 2001 أيضا.
في السنوات الخمس 1997-2001، كان هناك 78737 حالة انتحار مسجلة في البلاد. في المتوسط، حوالي 747،15 حالة انتحار سنويا. ولكن فقط في السنوات الأربع التالية 2002-05، كان هناك 70507 حالة انتحار. أو بمعدل سنوي قدره 17627 حالة انتحار. وهذا يمثل زيادة بما يقرب من 1900 في المعدل السنوي للفترتين. ببساطة، انتحار المزرعين قد تصاعد بعد عام 2001 مع استفحال الأزمة الزراعية".
تقول "فاندانا شيفا" الناشطة في مجال حقوق الإنسان والباحثة الاقتصادية في دراستها عن انتحار الفلاحين الهنود :
"الفلاحون الهنود، أكبر قطاع لصغار المزارعين في العالم، يواجه اليوم خطر الانقراض والفناء.
ثلثي الهند تعتاش على الأرض. الأرض هي العمل الأكثر سخاء في هذا البلد المكون من مليار إنسان، والتي زرعت هذه الأرض لأكثر من 5000 سنة.
ومع ذلك، فقد تم فك الارتباط بين الفلاح الهندي والزراعة والأرض والتربة، والتنوع البيولوجي، والمناخ، وجرى ربطه بالشركات العالمية والأسواق العالمية، حيث يتم استبدال كرم الأرض بجشع الشركات، فتم تدمير الجدوى من وجود صغار المزارعين والمزارع الصغيرة. وانتحار المزارعين هو العرض الأكثر مأساوية وإثارة لأزمة البقاء على قيد الحياة التي يواجهها الفلاحون الهنود.
شهد عام 1997 ظهور أول حالات انتحار المزراعين في الهند. وكانت الزيادة السريعة في المديونية تكمن في جذور قرار المزارعين إنهاء حياتهم. الدين هو انعكاس لاقتصاد سلبي، واقتصاد خاسر. عاملان حوّلا الاقتصاد الإيجابي للزراعة إلى اقتصاد السلبي للفلاحين : ارتفاع تكاليف الإنتاج وانخفاض أسعار السلع الزراعية. وتكمن جذور كل هذه العوامل في سياسات تحرير التجارة وعولمة الشركات.
في عام 1998، أجبرت سياسات التكيف الهيكلي للبنك الدولي الهند على فتح قطاع البذور أمام شركات عالمية مثل شركة كارجيل، شركة مونسانتو، وسينجينتا. غيرت الشركات العالمية مدخلات الاقتصاد بين عشية وضحاها. وتم استبدال مزارع البذور المحلية ببذور الشركات التي تحتاج إلى أسمدة ومبيدات ويتعذر حفظها.
ومع منع توفير البذور عن طريق براءات الاختراع التي امتلكتها الشركات ، فضلا عن هندسة البذور التي قدّمت سلالات بذور غير قابلة للتجديد، صار على الفلاحين الففقراء أن يشتروا البذور مع كل موسم زراعي جديد في حين كانوا يخزنون بذور الزراعة في بيوتهم ومزارعهم سابقا. أصبح المورد الحر للبذور المتوفر في المزارع سلعة يُجبر المزارعون على شرائها كل عام. وهذا الأمر زاد من الفقر وأدى إلى ارتفاع المديونية.
مع تزايد الديون المتراكمة غير المسددة، صار المزارعون يضطرون لبيع الكلى أو حتى الانتحار. وقد أنهى أكثر من 000،25 فلاح في الهند حياتهم منذ عام 1997 عندما انتهت ممارسة توفير البذور تحت ضغوط العولمة وبدء شركات البذور متعددة الجنسيات بالسيطرة على إمدادات البذور. خزن البذور يمنح المزارعين الحياة. احتكارات البذور تسلب الحياة من المزارعين.
التحوّل من البذور المحفوظة في المزارع إلى احتكار الشركات لتوريد البذور هو أيضا تحولا من التنوع البيولوجي على الزراعات الأحادية في الزراعة. مقاطعة وارانجال في ولاية اندرا براديش تستخدم زراعة البقوليات المتنوعة، والدخن، والحبوب الزيتية. فرضت احتكارات البذور عليها الزراعة الأحادية لمحصول القطن، مما أدى إلى اختفاء الملايين من المنتجات من تطور الطبيعة وتربية المزارعين.
الزراعات الأحادية تزيد من مخاطر فشل المحاصيل عندما يتم استبدال زراعة البذور المتنوعة التي تتكيف مع نظم بيئية متنوعة بالإقحام السريع لبذور غير متكيفة وفي كثير من الأحيان غير مجربة في السوق. عندما قدمت مونسانتو بذورها من القطن في الهند في عام 2002، خسر المزارعون الهنود مليار روبية بسبب فشل المحصول. فبدلا من 1500 كجم / فدان كما وعدت الشركة، كان الحصاد منخفضا يصل إلى 200 كجم. وبدلا من زيادة الدخل إلى 10000 روبية / فدان، تكبد المزارعون خسائر تصل إلى 6400 روبية/ فدان.
في ولاية بيهار، عندما استبدلت شركة مونسانتو بذور الذرة المحلية بالبذور المهجنة الخاصة بها، فشل المحصول بأكمله وتكبد المزارعون خسائر مقدارها 4 مليارات روبية مع زيادة فقر المزارعين الذين يعيشون أصلا في فقر مدقع. الفلاحون الفقراء في الجنوب لا يمكنهم البقاء على قيد الحياة في ظل احتكارات البذور.
وأزمة الانتحار تُظهر أن بقاء صغار المزارعين على قد الحياة غير متوافق مع احتكارات البذور من قبل الشركات العالمية.
الضغط الثاني الذي يواجه المزارعين الهنود هو الانخفاض الحاد في أسعار المنتجات الزراعية نتيجة لسياسات منظمة التجارة العالمية W.T.O. قواعد منظمة التجارة العالمية للتجارة في الزراعة تقوم أساسا على أساليب الإغراق. لقد سمحت هذه المنظمة للدول الصناعية بزيادة دعم الصناعات الزراعية في حين منعت الدول النامية من حماية مزارعيها من اغراق الاسواق بالمنتجات الرخيصة المدعومة من الدول الصناعية.
ارتفاع الدعم الحكومي للزراعة في الدول الصناعية إلى 400 مليار دولار جنبا إلى جنب مع الإلغاء القسري للقيود على الاستيراد صار هو الوصفة الجاهزة لانتحار المزارعين. انخفضت الأسعار العالمية من 216 دولار / طن في عام 1995 إلى 133 دولار/ طن في عام 2001 بالنسبة للقمح، من 98،2 دولار/ طن في 1995 حتي 49،1 دولار / طن في عام 2001 للقطن، 273 دولار / طن في عام 1995 إلى 178 دولار/ طن لفول الصويا . هذا الانخفاض إلى نصف السعر لا يعود إلى مضاعفة الإنتاجية ولكن إلى ارتفاع الإعانات الحكومية وزيادة احتكارات السوق التي تسيطر عليها حفنة من الشركات في الصناعات الزراعية.
وهكذا فإن الحكومة الامريكية تدفع 193 دولارا للطن الواحد لمزارعي فول الصويا في الولايات المتحدة، مما يقلل بشكل مصطنع سعر فول الصويا. وبسبب إزالة القيود الكمية وخفض التعريفات الجمركية، دمرت الصويا الأمريكية الرخيصة سبل عيش المزارعين الهنود الذين يزرعون جوز الهند ومزارع الخردل ومنتجي السمسم والفول السوداني وفول الصويا.
وبالمثل، تم إعطاء 25000 من منتجي القطن فى الولايات المتحدة دعما مقداره 4 مليارات دولار سنويا. جعل هذا الدعم أسعار القطن تنخفض بشكل مصطنع، مما سمح للولايات المتحدة السيطرة على الأسواق العالمية التي كانت في وقت سابق في متناول الدول الافريقية الفقيرة مثل بوركينا، فاسو وبنين ومالي. دعم مقداره 230 دولار للدونم الواحد فى الولايات المتحدة هو الإبادة الجماعية للمزارعين الأفارقة. مزارعو القطن الأفارقة يفقدون 250 مليون دولار سنويا. وهذا هو السبب في انسحاب الدول الأفريقية الصغيرة من مفاوضات كانكون، مما أدى إلى انهيار المفاوضات االوزارية لمنظمة التجارة العالمية.
الأسعار المزورة للسلع الزراعية المتداولة عالميا تسرق الدخل من الفلاحين الفقراء في الجنوب. التحليل الذي أجرته مؤسسة أبحاث العلوم والتكنولوجيا والبيئة بيّن أنه نظرا لانخفاض أسعار المنتجات الزراعية فإن الفلاحين الهنود يخسرون 26 مليار دولار أو 1.2 تريليون روبية سنويا. هذا يشكل عبئا فظيعا عليهم لا يسمح فقرهم بتحمله. ومن هنا حصل وباء انتحار المزارعين.
وكانت الهند من بين الدول التي شككت في القواعد غير العادلة لمنظمة التجارة العالمية في الزراعة وقادت تحالف الـ G-22 جنبا إلى جنب مع البرازيل والصين. طرحت الهند مع بلدان الجنوب الأخرى الحاجة إلى حماية سبل معيشة صغار المزارعين من ظلم التجارة الحرة القائمة على الدعم العالي وسياسة الإغراق. ولكن، على المستوى المحلي، فإن الوكالات الرسمية في الهند ما زالت في حالة إنكار عميق لأي صلة بين التجارة الحرة وعدم قدرة المزارعين على البقاء على قيد الحياة.
وكمثال على هذا الإنكار هو تقرير حكومة كارناتاكا حول "انتحار المزارعين في ولاية كارناتاكا - تحليل علمي". التقرير في الوقت الذي يدّعي فيه "العلمية"، يطبق طريقة اختزالية لا علمية حين يدّعي أن انتحار المزارعين له أسباب نفسية فقط، وليس اقتصادية أيضا، ويحدد إدمان الكحول باعتباره السبب الرئيسي للانتحار. لذلك، بدلا من اقتراح تغييرات في السياسة الزراعية، يوصي التقرير أن هناك حاجة لأن يرفع المزارعون من حجم احترامهم لذاتهم ومن الاعتماد على الذات.
والمفارقة، هي أن توصيات التقرير للمزارعين بالاعتماد على الذات تدعو إلى تغيرات في الإصلاحات حسب قانون اصلاح الأراضي في كارناتاكا والذي يدعو للسماح بحيازات أكبر للأراضي وتأجيرها. وهذه خطوات نحو هلاك المزيد من صغار المزارعين الذين تمت حمايتهم بـ "سقف" الأرض (حد أقصى على ملكية الأرض) والسياسات التي تسمح فقط لفلاحين والمزارعين بتملك الأراضي الزراعية.
في حين حدد تقرير "لجنة الخبراء" "إدمان الكحول" هو السبب الرئيسي لحالات الانتحار، فإن الأرقام التي تدعم "علمية" هذا الإدعاء غير متناسقة ولا تعكس المسح. في الصفحة 10، يذكر التقرير في مكان واحد أن 68 في المئة من ضحايا الانتحار كانوا من الذين يتعاطون المشروبات الكحولية. بعد خمسة أسطر فقط ينص التقرير على أن 17 في المئة من المنتحرين كانوا يتعاطون الكحول ويشربون بصورة غير مشروعة.
ومن المفارقات أيضا أن التقرير يذكر أن الغالبية العظمى من ضحايا الانتحار كانت من صغار المزارعين والهامشيين، وكانت الغالبية تعاني من ارتفاع مستويات المديونية. ومع ذلك لم يتم تحديد الدَيْن كعامل مؤدي إلى الانتحار. في الصفحة 32 من التقرير جاء أنه من بين 105 الحالات التي تمت دراستها من 3544 حالة انتحار وقعت في خمس مناطق خلال 2000-2001، كان 93 يعانون من الديون، 54 في المئة اقترضوا من مصادر خاصة أو من مقرضي الأموال.
كان أكثر من 90٪ من ضحايا الانتحار غارقين في الديون. ومع ذلك ، فإن الجدول في الصفحة 63 قد خفض المديونية كسبب للانتحار إلى 2.6٪، وبشكل غريب وغامض أيضا وضع التقرير "وجود عادات سيئة (كالسرقة) لدى ضحايا الانتحار" بوصفه السبب الرئيسي لانتحار المزارعين.
الحكومة عاجزة عن الفصل بين حالات انتحار المزرعين والعمليات الاقتصادية المرتبطة بالعولمة مثل ارتفاع المديونية وزيادة تواتر فشل المحاصيل بسبب الضعف البيئي (الإيكولوجي) الناجم عن تغير المناخ والجفاف ومخاطر اقتصادية أعلى نظرا لإدخال بذور غير مُختبرة وغير متأقلمة.
وهذا واضح في التوصية رقم 3 : "على الحكومة أن تقوم بالادعاء على الأشخاص المسؤولين المتورطين في تضليل الرأي العام والحكومة من خلال تقديم معلومات كاذبة حول انتحار المزارعين بسبب فشل المحاصيل أو المديونية" (الصفحة 113 من تقرير لجنة الخبراء).
ومع ذلك، فإن انتحار المزارعين لا يمكن فصله من المديونية والضائقة الاقتصادية التي يواجهها صغار المزارعين. المديونية ليست جديدة. لقد عمل المزارعون دائما من أجل التحرر من الديون.
في القرن التاسع عشر ، حصل ما يُسمى "أعمال شغب ديكان" وهي احتجاجات المزارعين ضد فخ الديون الذي أُسقطوا فيه لدفعهم لتوريد القطن الرخيص لمصانع النسيج في بريطانيا. وفي الثمانينات شكلوا منظمات الفلاحين للكفاح من أجل تخفيف عبء الديون من الدين العام المرتبط بالتأثيرات السلبية لما سمي بـ "الثورة الخضراء".
ومع ذلك، وفي ظل العولمة، فإن المزارع يفقد هويته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، بصفته منتجا. المزارع هو الآن "مستهلك" للبذور المكلفة والمواد الكيميائية المكلفة المباعة من قبل الشركات العالمية القوية من خلال ملاك الأراضي الأقوياء ومقرضي الأموال المحليين.
هذا المزيج يؤدي إلى "إقطاع الشركات corporate feudalism"، وهو الاتحاد الأكثر لا إنسانية، ووحشية واستغلالا بين الشركات العالمية الرأسمالية والإقطاع المحلي، الذي في مواجهته يقف المزارع باعتباره الضحية الفرد الذي يشعر بالعجز. نظم البيروقراطيين والتكنوقراطيين في الدولة تأتي لإنقاذ المصالح الاقتصادية المهيمنة امن خلال إلقاء اللوم على الضحية.
من الضروري وقف هذه الحرب ضد صغار المزارعين. ومن الضروري إعادة كتابة قواعد التجارة في الزراعة. ومن الضروري أن نغير نماذج الإنتاج الغذائي. لا ينبغي أن تتوقف تغذية الإنسانية على انقراض المزارعين وانقراض الأنواع. زراعة أخرى ممكنة وضرورية – وهي الزراعة التي تحمي سبل عيش المزارعين، والأرض والتنوع البيولوجي، والصحة العامة.
وسوم: العدد 684