كانت سنوات كلها القا وإشراقا....
يظل تاريخ الفاتح من سبتمبر من العام 1970م محطة فارقة في حياتي ، ذلك انني قد غادرت فيها مدينتي بركات ومعشوقتي ودمدني بعد إنهاء المرحلة الثانوية متجها صوب الخرطوم بعد ان تم قبولنا بكلية التجارة حين لم يكن المجموع يؤهلني لدخول جامعة الخرطوم بفارق ضئيل .. حيث اصدر الرئيس جمال عبدالناصر قبل رحيله قرارا في ذات الشهر لادارة جامعة القاهرة فرع الخرطوم بتخصيص الف منحة دراسية لطلاب الشهادة السودانية للقبول بالجامعة بكلياتها الثلاثة الموجودة آنذاك وهي التجارة والحقوق والآداب حيث كان مدير الجامعة الدكتور محمد طلبة عويضة وكان الرجل من اشهر مدرائها .
* تلك كانت هي المرة الاولي التي نترك فيها ارض المحنة لنستقر بالعاصمة .. وقد اخترت مدينة ام درمان مقرا لسكتي كعازب مع آخرين سنذكرهم لاحقا .. وايضا للعمل بمهنة التدريس لتغطية تكاليف السكن والاعاشة خلال سني الدراسة بجامعة القاهرة التي كانت مسائية تبدأ الدراسة فيها من الساعة الخامسة عصرا وحتي التاسعة مساء حسب جدول المحاضرات لكل كلية .
* كان المتزل الذي إستأجرناه يقع في حي بيت المال وليس ببعيد عن منزل الزعيم الازهري . وبنائه من الجالوس كمعظم مباني ام درمان الشعبية في ذلك الزمان .. ويتكون من غرفتين وصالة ومنافع .. حيث كانت قيمة الايجار الشهري مبلغ تسع جنيهات فقط نتقاسمها نحن الست ساكنين .. وكنت قد تنقلت بالعمل معلما بثلاثه مدارس خلال تلك السنوات وهي كرري الثانوية العامة الشعبية بالحارة الاولي بالثورة لمدة عام دراسي واحد والتي كان يمتلكها الاستاذين الجليلين عبدالمعروف جاد الله وحسين الامام وهما اصلا من القضارف ثم التحقت بمدرسة بيت المال الابتدائية (ب) بجوار كبري شمبات ولمدة ثلاثه سنوات كانت خصيبة جدا وانشأت فيها علاقة مع الطلاب واسرهم لايزال بعضها متواصلا برغم مرور عشرات السنوات . ثم تم نقلي الي مدرسة حي العرضة الابتدائية المقابلة لجامع الملك فيصل .. حيث كنت وقتذاك قد تخرجت من كلية التجارة بجامعة القاهرة وتسجلت للدراسات العليا بمعهد محاسبة التكاليف التابع للجامعة بشارع علي عبداللطيف بالخرطوم .
* خلال تلك السنوات الخمس التي اقمت فيها بام درمان . كنا قد تنقلنا فيها للسكن في عدة احياء .. حيث كان المنزل الثاني يقع بالقرب من شارع ابوروف بمنطقة الدردوقية المتجهة الي حي بيت المال حيث يجاورنا سوق الشجرة العريق.. ثم انتقلنا الي شارع الازهري ببيت المال والذي كان يسمي بشارع شمبات .. وكان الانتقال الرابع هو حي الهاشماب خلف المجلس الثقافي البريطاني .. وكان منزلا حديثا فاخرا مقارنة بمنازل الجالوس التي كنا نقطنها لاربع سنوات سابقة ببيت المال حين كانت رواتبنا قليلة ثم ارتفعت كثيرا بمرور الزمن .
* وفي خلال تلك السنوات الجميلة جدا في ذلك الزمن الجميل الممتد للفترة من 1970 الي 1975م كانت ام درمان تفيض بالجمال والابداع في كافة المجالات .. ولنا من مخزون الذكريات في مجالات الفن والثقافة والرياضة ورموز المجتمع والحياة الجميلة التي كانت تعيشها المدينة باحيائها العريقة وحركة الشد السياسي العنيف خلال تلك السنوات .. مايستحق ان نسرد تفاصيلها لنربط هذا الجيل بما كانت تكتنزه امدرمان القديمة من جماليات في كل المجالات التي ذكرناها آنفا مستصحبين معنا رموز وشباب ذلك المجتمع الامدرماني الذي عاصرناه وعاشرناه لخمس سنوات .. كانت كلها القا وإشراقا.
وسوم: العدد 685