ألم يحن الوقت بعد للحزم التركي في سوريا؟
ألم يحن الوقت بعد
للحزم التركي في سوريا؟
علي حسين باكير
لا يختلف اثنان على انّ الولايات المتّحدة الامريكية وبالرغم من انها لا تزال الدولة الأقوى عالميا، الا انّه دورها القيادي العالمي قد بدأ يتراجع مع تراجع قوتها التي كانت بلغت ذروتها عند غزو أفغانستان والعراق عامي 2011 و2013 . ومع مجيء ادارة أوباما عام 2009، تمّ بلورة هذا الوضع الأمريكي الجديد في سياسة قوامها "ادارة التراجع ومقتضياته" في اقاليم مختلفة من العالم.
لقد كانت فكرة أوباما تقوم على تقليص الانتشار العسكري الأمريكي حول العالم وتقليل النفقات العسكرية بما يساعد على تحسن الوضع الاقتصادي للبلاد، واعادة هيكلة القوات العسكرية لتصبح اكثر فعالية وقدرة على الاستجابة للتحديات العسكرية المستقبلية مع صعود الصين.
تمّ فيما بعد التركيز على منطقة شرق آسيا، وعلى ضرورة ان تتيح الولايات المتّحدة للدول الاقليمية الصاعدة (كل في اقليمه) لعب دور اقليمي اكبر وتحمّل المزيد من المسؤوليات والأعباء المادية والمعنوية التي كانت الولايات المتحدة تتحمل القسم الأكبر منها قبل مرحلة تخفيف الاعباء.
منطقة الشرق الاوسط هي واحدة من المناطق التي تم تقليص الوجود الامريكي فيها الى حد كبير، ومن الطبيعي ان ذلك خلق ويخلق حالة من عدم التوازن في المنطقة انعكست بدورها على التوازنات الاقليمية التي كانت قائمة منذ عقود، لكنّ اندلاع الثورات العربية عقّد الحسابات الأمريكية وسرّع من عملية تلزيم وتشاطر الاعباء والمسؤوليات. في مرحلة من المراحل كانت الانظار تتوجه الى تركيا والسعودية على اعتبار انههما من حلفاء الولايات المتّحدة الأكثر قدرة على القيام بهذه المهمّة، لكن سرعان ما تمّ التخلي عن هذا الطرح ورأينا اندفاعا جارفا باتجاه اللاعب الايراني.
لا يتعلق الأمر بالمفاوضات النووية ولا بدوافع اوباما الشخصية لانجاز هذا الاتفاق فقط. لأشهر طويلة وقبل ان يتّضح انّ هناك مفاوضات جارية وانّ هناك غض نظر متعمد من قبل أوباما على توسّع نفوذ ايران الاقليمي في البلدان العربية لا وبل تشجيع لهذا التوسع، كتبت سيلا من المقالات عن هذا الموضوع، وقد ردّ الدكتور المعروف عبدالله الشايجي على أحد هذه المقالات التي كانت تشير الى التعاون الأمريكي – الايراني او التحالف (de facto) القائم في المنطقة بسؤال: "ولكن لماذا؟ لماذا تقوم الولايات المتّحدة بذلك؟"
أحد أوجه الاجابة على هذا التساؤل والذي لم يتم التطرق اليه كفاية في العالم العربي خلال المرحلة الماضية هو انّ حلفاء أمريكا التقليديين في المنطقة كتركيا والسعودية ومصر، هم حلفاء انكفائيون لا يلعبون الا بطرق دفاعية ولا يأخذون مبادرات اقليمية مستقلة كفاية، واذا فعلوا غالبا ما تكون مرتبطة باراداة الجانب الامريكي، واذا لم تكن كذلك فغالبا ما تكون مرتبطة بقدرات الجانب الامريكي لدرجة انّ عدم موافقة واشنطن عليها يشّلها تماما ويقضي عليها.
من الانصاف القول انّ المملكة العربية السعودية أخذت بعض المبادرات الهجوميّة المستقلّة خلال السنوات القليلة الماضية لكنّها لم تكن سياسة بقدر ما كانت ردّة فعل آنية، وهي ان اصابت في بعضها، الا انّ بعضها الآخر كان كارثيا من حيث النتائج كدعم الانقلاب الذي حصل في مصر.
حاصل القول اليوم انّ ادارة اوباما رأت انّ ايران وعلى عكس حلفائها الاقليميين، لديها الرغبة والارادة في المبادرة وفي لعب دور هجومي وليس دفاعي وفي استخدام ما تمتلكه من أوراق قوّة (على ضعفها) في خدمة هذا التوجّه، وانّ هذا السلوك بالضبط هو ما تبحث عنه الادارة الأمريكية في هذه المرحلة. من وجهة النظر الايرانية الأمر مختلف تماما، فهناك حالة تراجع أمريكي في المجمل منذ سنوات، وهذا يعني انّ هناك فراغا سيتركه هذا التراجع وانّ هذا بحذ ذاته يشكّل فرصة لطهران لتوسيع نفوذها وبالتالي رسم الخطوط الجديدة لحدود بلادها ولخطوطها الحمراء ولمناطق وساحات هيمنتها ونفوذها.
وبينما كانت طهران تتحدث عن حدود من شرق المتوسط الى باب المندب، وعن سيطرة على أربع عواصم عربية، وعن استعادة امبراطوريتها الفارسية وعاصمتها بغداد، وترسل الدبابات والطائرات والقوات الخاصة والميليشيات الى قلب العراق وسوريا وتقف في وسط هذه الساحات لتقول "هل من منازل"؟، كانت الرياض وأنقرة لا تزالان تطالبان المجتمع الدولي بالتدخل لحماية المدنيين من القصف بالاسلحة الكيماوية ومشتقاتها في سوريا، وبدعم الثوار المعتدلين، وبوقف السياسات الطائفية للحكومة العراقية وميليشياتها، مطالب يتم تكرارها منذ أربع سنوات ولم يعرها احد حقيقة اي اعتبار حتى انساني او اخلاقي.
مراد القول، انّ المرحلة الآن ليست مرحلة دفاع ولا "قوة ناعمة" على الاطلاق، هي مرحلة صراع لا تحله الدبلوماسية وحدها، ولا ترسمه السياسة فقط ولا يمكن للقانون حسمه، وانما تحدد مصيره الى حد كبير القوة العسكرية للطرف المبادر كجزء من حسابات القوّة الشاملة للدولة. بالأمس، قررت ايران أخذ زمام المبادرة في كل هذه البلدان وخصوصا عندما شعرت انّها تفقد السيطرة على العراق الذي تعتبره بوابة مجالها الحيوي الى المشرق العربي، واليوم تأخذ المملكة العربية السعودية زمام المبادرة في اليمن باحتها الخلفية والمدخل الرئيسي الى الأمن الخليجي من البوابة الجنوبية.
ضمن هذه المعادلة يطرح السؤال نفسه على اللاعب الاقليمي التركي، أين هي المبادرة التركية في سوريا التي تعني ما تعنيه جيو-استراتيجيا لها خصوصا بعدما جعل النظام السوري أكثر من نصف سكان سوريا بين لاجئ ونازح وتتحمّل تركيا الآن الأعباء المالية والامنية والاجتماعية والاقتصادية للأزمة السورية.
الوضع في سوريا اليوم يحتاج أكثر من أي وقت مضى الى حزم وحسم، ومن المفروغ منه انّ التدخل التركي عامل حاسم في الموضوع لاسيما اذا تمّ بدعم عربي (وخليجي تحديدا). لا شك انّ صانع القرار التركي يدرك انّ هناك تكاليف ومخاطر ووأنّ هذه المعطيات هي ما أخّر أو عرقل حتى الآن أي تحرّك تركي حاسم في المسألة السورية، ولا شكّ انّ هذه العراقيل والتكاليف والمخاطر لا تزال موجودة لا بل أنّها زادت في بعض النواحي مقارنة بالسنة الأولى والثانية من اندلاع الثورة السورية. لكن في نهاية المطاف لا نتائج من دون تكاليف ومن يريد أن يقطع الثمرة عليه ان يدفع ثمنا ما ، ومن يريد ان يخوض في الشرق الأوسط لا يمكنه ان يحقق شيئا ما لم يكن مستعدا على الأقل لأن يبلل يديه وقدميه بالوحل.
اعتماد الاقتصاد التركي الكبير على غاز ونفط روسيا وايران يحد من قدرة تركيا على المناورة وعلى اتخاذ خطوات مواجهة مباشرة، كما انّ عرقلة واشنطن المستمرة لاتخاذ تركيا خطوات حاسمة يفرغ التحرك التركي من مضمونه، ناهيك عن استعدادات البلاد الآن للاستحقاقات الانتخابية البرلمانية بعد شهرين،و كلها عوامل تكبح تركيا.
لكن في المقابل، هناك فرصة كبيرة بعد الانتخابات القادمة للقيام بتحرّك كبير في سوريا لاسيما فيما يتعلق بالمنطقة الآمنة والحظر الجوي والدعم النوعي الكاسر للتوازن للمعارضة السورية، لانّه وحتى ذلك الوقت سيكون قد تبيّن اذا ما كانت الآمال الامريكية بان تقوم ايران بالمسارعة في الملف السوري مقابل الصفقة النووية صحيحة أم لا.
على تركيا أن تتخذ خطوة الى الأمام، وهذا أمر ممكن حال تمّ توفير دعم لها من دول الخليج، ومن الممكن حينها ايضا جر الولايات المتّحدة الى مواقف أكثر قوّة واجبارها على اتخاذها ووضع العالم عند مسؤولياته. النظام السوري اضعف من أي وقت مضى، وهو فعليا لا يمتلك اي شيء باستثناء بضع طائرات.
قد لا يحتاج الأمر الى عملية عسكرية كبيرة. انظروا مثلا كيف كان الوقع النفسي والمعنوي لعملية عاصفة الحزم السعودية في اليمن على الداخل السوري. خلال يومين فقط قام جيش الفتح بتحرير مدينة ادلب كاملة وهو تطّور مهم جدا، وأصدر عدد كبير من الفصائل والأحزاب والجماعات السورية بيانات مؤيدة لعاصفة الحزم، موحّدة بذلك (نظريا على الاقل) مواقف جميع هذه الفصائل حتى المختلفة منها، فما بالكم بحملة في سوريا وكيف سيكون وقعها عليهم وعلى مناوئيهم.
هناك الكثير مما يمكن فعله دون مستوى الحملة العسكرية ايضا، بل هناك واجب القيام بـ:
1) اعادة تجميع جميع الفصائل تحت راية واحدة، واعادة تمويلها وتسليحها بشكل ثابت ومستمر، فكثير ممن غادروا الجيش الحر غادروه لاجل الرواتب الاعلى وتوافر السلاح، وما دفعهم للذهاب يمكن ان يدفعهم للرجوع ايضا. وبموازاة ذلك،
2) بذل المزيد من الجهود لفصل جبهة النصرة عن القاعدة وهذا بحد ذاته جهد من جهود مكافحة الارهاب ويخدم اولا واخيرا الثورة السورية وهو امر ممكن ايضا.
3) ما الذي يمنع بدل ان يكون هناك 20 ألف مقاتل طائفي بقيادة الحرس الثوري، ان يكون هناك 20 ألف مقاتل سوري حر تحت قيادة عسكريين عرب أو اتراك في سوريا، وان يتم ذلك بشكل سري وبانكار علني تماما كما كان الايراني يفعل قبل ان تصيبه النشوة.
4) الضغط على الأسد لاجباره على التنازل، وهذا يتضمن استخدام كل الادوات اللازمة، قانونيا، سياسيا، وعسكريا.
5) لماذا لا يتم حتى الان الضغط باتجاه استصدار قرار لادانة ومحاربة الميليشيات الارهابية لتابعة لايران كما هو حال "داعش" و"القاعدة". واذا كان من المقبول عند البعض قانونيا استعانة الاسد بالحرس الثوري (انا لا ارى ذلك، لان الأسد ليس رئيسا شرعيا باعتراف العالم أجمع باستثناء بعض الدول)، فما هو المسوّغ القانوي لاستعانه بحزب الله والميليشيات الشيعية العراقية والأفغانية وغيرها؟ هل هؤلاء جيوش رسمية لدول؟ هل هم شركات امنية خاصة؟ هل هم مرتزقة؟ في اي خانة يتم تصنيف طلب الدعم منهم؟
ان سوريا هي بمثابة عامود الخيمة للمشروع الايراني الطائفي في المنطقة، العمل على اسقاط هذا العامود سيكون له نتائج مبهرة على الاقليم كله، ولا ابالغ ان قلت انّ الحديث عن مشروع ايراني سينتهي بعدها لانّه سيكون بالامكان عزل أدوات ايران في لبنان بشكل يسهّل تطويعهم، كما انّه سيعزل اتباعها في العراق بحيث تصبح تكاليف اتّباعهم لايران أكبر من ان يتحملوها. ما ننتظره هو خطوة الى الأمام.