الذكرى التاسعة والعشرون للانتفاضة الأولى
وافتنا منذ أيام الذكرى التاسعة والعشرون للانتفاضة الفلسطينية الأولى ، انتفاضة أطفال الحجارة . لم يكن سهلا أن يتحرك الفلسطينيون في مواجهات جماعية ضد الاحتلال الإسرائيلي في غزة والضفة . وحدث ذلك فجأة في 8 ديسمبر / كانون الأول 1987 . وكان المفجر حادث دهس شاحنة إسرائيلية أربعة عمال فلسطينيين وراء ما يسمى الخط الأخضر ، ولأنهم من جباليا كان الانفجار الأول فيها . واتسعت الدائرة ، وامتدت الأحداث إلى بقية قطاع غزة ، ولحقت الضفة بها . كان الانفجار كامنا تحت السطح لواقع الاحتلال الذي دخل يومئذ عامه الحادي والعشرين ، وزاد الانفجار اقترابا شعور الناس في غزة والضفة بأن عبء المواجهة مع الاحتلال وإسرائيل جملة صار مقتصرا عمليا عليهم بعد أن طردت منظمة التحرير من لبنان في 1982، وغلب على دورها النشاط السياسي ، والبحث عن حلول وسط مع إسرائيل . وسميت الأحداث انتفاضة ، وظهر تحرك للإشراف عليها باسم " القيادة الوطنية الموحدة " ما لبث أن اختفى . ومن عجيب ما يتصل بتلك الانتفاضة الشعبية العفوية أن النائب البريطاني جورج جالواي أول من توقعها قبل انفجارها بشهر عقب زيارة إلى غزة حين قال : " الانفجار قادم " . وحدث الانفجار ، وجنت إسرائيل ! كيف يجرؤ أحد على التصدي لاحتلالها جماعيا ؟! وهدد رابين رئيس وزرائها حينئذ بتكسير عظام المنتفضين ، ونفذ ضباطه وجنوده تهديده حرفيا ، وصدم العالم بمشهد ضابط إسرائيلي يدق ذراع راعٍ فلسطيني لكسرها في إحدى قرى نابلس . وأولى الإعلام العالمي أحداث الانتفاضة اهتماما متفاعلا عاليا ، ووُصِف الإعلام الأميركي بأنه خدمها خدمة كبيرة من زاوية الأداء المهني الصرف الذي لابد فيه من معايير مقبولة من الصدق والحيادية ، وساعدته في ذلك إمكاناته الفنية الكبيرة . واتضح مع توالي الانتفاضة أنها مثلت أقوى أداء فلسطيني في مواجهة إسرائيل منذ 1948 لما كشفته من حقائق وخلفيات للصراع بينها وبين الشعب الذي حشرت عنوة في أرضه . وتبين أن تلك الحقائق والخلفيات مجهولة لقطاعات واسعة في العالم . الانتفاضة دفعت بالحقيقة الفلسطينية إلى نقطة مركزية واضحة تحت مجهر عالمي كبير ، وانتفضت تساؤلات عالمية : من هم الذين ينتفضون على إسرائيل ؟! ما علاقتهم بها ؟! وما علاقتها بهم ؟! من أين جاؤوا إليها ؟! وأجاب مناحيم بيجن الذي كان يومئذ خارج الحكومة بعد تقديم استقالته من رئاسة الوزراء في 1983 : " هؤلاء قطاع طرق " ، وكانت إجابة ناقصة كثيرا ، ساذجة كثيرا ، متهربة كليا من حقائق الواقع . ودفعت الأحداث رجال الشرطة الفلسطينيين إلى ترك عملهم ، وظهرت جماعات الملثمين ، فضبطت الأمن بتحركات سرية ، وإذا حدث خلاف بين عائلتين كانت تنذر العائلة التي تتأكد من أنها المعتدية وتلزمها بإنصاف العائلة المعتدى عليها في وقت محدد ، فتستجيب مذعنة طائعة . وقضت تلك الجماعات على تجارة المخدرات ، وقال الرئيس حسني مبارك في اجتماع لضباط مكافحة المخدرات في القاهرة : " شوية عيال في غزة خلصوا عليها " . وقاطع الشعب البضائع الإسرائيلية التي يمكن الاستغناء عنها ، فأوقف استيراد المشروبات الغازية ومشروبات الفاكهة . وتلاحم قلبا واحدا ويدا واحدة ، وكان إذا حاصرت القوات الإسرائيلية منطقة بما يسمى الطوق سارعت المناطق الأخرى لمدها بالمواد الغذائية التي تنقصها بواسطة شبان يتسللون إليها . ولتلافي خطر قذائف الحجارة أحاطت قوات الاحتلال سياراتها بشبك حديدي متين ، وبدا جنودها داخل أقفاص متحركة ، وكان لا مفر من أن ترد إلى ذهن من يراهم صورة المجرمين الذين يساقون إلى السجون ، كان مشهدهم تعبيرا قويا عن حقيقتهم . وفي يوم ، هرب من المنطقة الوسطى 16 جنديا إسرائيليا ، وعادوا إلى إسرائيل رفضا للخدمة في قطاع غزة . وتوصلت إسرائيل إلى قناعة واضحة بأن الأحداث خاصة في القطاع الذي ضخت فيه عشرة آلاف جندي ؛ تجاوزت قدرتها في السيطرة عليها ، ودعيت القيادة العسكرية الإسرائيلية الجنوبية لاجتماع لدراسة الموقف ، وحددت أن الخيار الوحيد المتاح أمام إسرائيل هو الانسحاب من غزة ، وعندئذ بدأ التحرك لحل سياسي للانتفاضة ، وتلاقت إسرائيل في هذه النقطة مع منظمة التحرير الفتحاوية الجوهر التي خشيت أن يفوتها قطار الأحداث في غزة والضفة خاصة بعد ظهور حركة حماس بقوة فيهما . وكانت إسرائيل على علم تام بضعف المنظمة المبعدة إلى تونس والمهددة بالإبعاد منها أيضا ، فاستغلت ضعفها في خطف التنازلات منها في اتفاق أوسلو، بل فوجئت بأن المنظمة أكثر استعدادا للتنازل والتساهل مما توقعت ، وقال بيريز عقب توقيع ذلك الاتفاق : " لم نتخيل أنهم سيوافقون على بقاء المستوطنات " ، ووصف الاتفاق بأنه " أعظم إنجاز للحركة الصهيونية بعد إقامة الدولة " ، وعرضت إسرائيل في المفاوضات أن تنسحب كليا من غزة ، فجاء رد " جهابذة " المفاوضين الفلسطينيين أنهم يفضلون التريث والانسحاب من " جزئي الوطن في وقت واحد " ! ولرداءة وتنازلية اتفاق أوسلو اضطر الشعب الفلسطيني لانتفاضة الأقصى في 28سبتمبر / أيلول 2000 ، وتوالي الرداءات دفع إلى الانتفاضة الثالثة ، انتفاضة القدس ، وأبلغنا الانهيارَ الوطني الشامل الحالي الذي من مشاهده المرعبة أن يتصارع بعض المتسيسين الفلسطينيين للصياح على " مزبلة " السلطة الوهمية والدولة الخيالية .
وسوم: العدد 699