ملامح الصراع الجديد بعد معركة حلب: انتقال الحرب إلى مدن جديدة

معهد العالم للدراسات

تحاول الورقة الإجابة على تساؤلات تتعلق بتداخل رؤية الأطراف الإقليمية والدولية للصراع السوري الذي تجلت صورته الأوضح في معارك حلب الأخيرة التي افضت إلى توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار بين المعارضة السورية المسلحة وقوات النظام السوري برعاية تركية روسية ضامنة لطرفي الصراع.

وتستعرض الورقة في عناوينها الفرعية بعض العوامل التي أدت إلى خسارة المعارضة المسلحة مدينة حلب، وهي الخسارة الأقسى لها طيلة سنوات الصراع.

وتنطلق الورقة من رؤية استشرافية لمرحلة ما بعد معركة حلب، والتي شكلت نقطة فارقة في تاريخ الصراع، بما سيشهده المشهد السوري من تداعيات المعركة على الصعيدين العسكري والسياسي واحتمالات تغليب السياسي على العسكري.

وتخلص الورقة إلى رؤية استشرافية لما سيؤول إليه الصراع مستقبلا، مع التأكيد دائما على ان كل رؤية تنطلق من معطيات واقع ما قبلها، وفي الحالة السورية ثمة احتمالات لتطورات غير محسوبة تجعل أي رؤية مسبقة مجردة من صحتها.

اعتمدت الورقة في صياغتها على رؤية تحليلية حاولت وضع بعض الأفكار والرؤى انطلاقا من معطيات واقع ما جرى دون الاهتمام بمسالة المصادر وتوثيقها حيث تجنبت الخوض في المواقف الرسمية والبيانات والتصريحات لتعطي اضاءة على المشهد السوري ومواقف الأطراف المعنية به ومصالحها وأهدافها، وانعكاسات ذلك على مستقبل الصراع السوري.

مدخل:

بعد خمسة أعوام من تقاسم قوات النظام وفصائل المعارضة السورية المسلحة السيطرة على أحياء مدينة حلب، شرقية خاضعة لسلطات فصائل المعارضة السورية، وغربية خاضعة لسلطات قوات النظام التي أكملت سيطرتها على كامل ثاني أكبر المدن السورية، بعد العاصمة، في 23 ديسمبر/كانون الأول 2016 في أعقاب انسحاب المسلحين منها بموجب اتفاق وقف إطلاق النار برعاية تركية ضامنة لفصائل المعارضة وروسية ضامنة لقوات النظام.

اعتبارا من منتصف ليلة 30 ديسمبر/كانون الأول 2016 دخل الاتفاق الروسي التركي لوقف إطلاق النار في جميع أنحاء الأراضي السورية حيز التنفيذ، باستثناء الأراضي الخاضعة لسيطرة جبهة فتح الشام وتنظيم الدولة؛ وفي مضمون الاتفاق يبدو أنّه يقضي ببقاء الرئيس السوري في السلطة إلى حين انتهاء ولايته الدستورية في يونيو/حزيران 2021؛ ولقي الاتفاق ترحيب كل من الولايات المتحدة والأمم المتحدة والدول العربية، كما رحبت به إيران.

منذ منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2016 اتخذ مسار معركة حلب اتجاهاً يؤكد على نهاية المعركة لصالح قوات النظام بعد أن زجت المجموعات الشيعية المسلحة الحليفة لإيران بكامل ثقلها في المعركة بالتزامن مع موجة عنيفة من القصف الجوي الروسي الذي عطل البُنى التحتية وأفقد الأحياء الشرقية مقومات الحياة للسكان المحاصرين فيها.

بدا واضحاً أن فشل المعارضة السورية في معركة حلب، جاء في جزء منه، نتيجة خلافات داخلية بين الفصائل المحاصرة، وعدم تقديم ما يكفي من الدعم والاسناد من الفصائل الأخرى في ريف حلب وادلب للضغط على قوات النظام لانشغال معظمها في قتال تنظيم الدولة توافقا مع مصلحة الدول الداعمة التي أعطت الأولوية لقتال التنظيم في جرابلس والباب والرقة وغيرها على معركة فك الحصار عن مدينة حلب.

شكلت نهاية معركة حلب نقطة فارقة في تاريخ الصراع السوري المسلح بين مرحلتين، ما قبل حلب وما بعد حلب، وسيكون لنهاية هذه المعركة تداعيات مستقبلية تمس جوهر الصراع السوري ومجمل المشهد الميداني في الجانبين العسكري والسياسي الذي سيكون عنوانه الأكبر، تجاهل كل من المعارضة السورية والدول الداعمة والمجتمع الدولي دعوات إسقاط أو رحيل الرئيس السوري بشار الاسد.

العامل الإقليمي والدولي في معركة حلب:

تركيا وروسيا وإيران:

الجهود التركية الروسية المشتركة تنحو باتجاه تغليب الحل السياسي على الحل العسكري على الرغم من تباين غاياتهما وأهدافهما من تبني المسار السياسي.

أما إيران فإنها ترجح المضي باتجاه الحسم العسكري، في ذات الوقت ترى أن قبول المعارضة المسلحة بالحل السياسي سيضعفها كثيرا بعد أن فقدت معظم أوراق الضغط بعد تسليم المسلحين مدينة حلب؛ كما أن حليفها النظام السوري بات أكثر قوة بعد سلسلة من الهدن والمصالحات حيّدت الكثير من الجبهات القتالية وأرغمت أعداد كبيرة من المسلحين على القاء السلاح أو القتال في صفوفه.

التوافق الإيراني على المسار السياسي لا يبدو خياراً استراتيجياً بديلاً عن خيارها العسكري، لكنه مرحليا يحقق لها الكثير مما يمهد للمضي قدما في الخيار العسكري في مرحلة لاحقة تعقب إعادة الاصطفافات والتحالفات سواء الداخلية على المستوى الفصائلي أو الأخرى الإقليمية والدولية.

أما روسيا فترى في الحل السياسي تحقيقا لمصالحها في تخفيف التبعات الاقتصادية المترتبة على استمرار الصراع المسلح، طالما ضمنت مصالحها الاستراتيجية في استمرار تواجد قواعدها الجوية والبحرية بعيدا عن تهديدات محتملة، واستفرادها بالملف السوري ورسم مستقبل الجغرافية السياسية للبلد بعيدا عن تدخل الولايات المتحدة.

في ذات الوقت، فان تركيا ترى في الحل السياسي مصلحة تراتبية تعفيها من التزامات سبق أن قطعتها بدعم الفصائل المسلحة لتحقيق هدف إسقاط النظام الذي لم يعد هدفاً تركيا في المرحلة الراهنة، كما أن من شأن الحل السياسي أن يحقق لتركيا هامشاً من تخفيف أعباء استضافة ملايين النازحين على أراضيها والتعجيل بعودتهم إلى بلدهم الأم، إضافة إلى تفرغ معظم فصائل المعارضة المتحالفة معها لقتال تنظيم الدولة في مدينتي الباب والرقة، واحتمالات الاستفادة منهم في قتال القوات الكردية في مناطق سيطرتها غرب الفرات.

ستتمسك إيران بالحفاظ على بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة حتى التوصل إلى حل سياسي شامل بإشراف أممي يتيح للشعب السوري حرية رسم مستقبل بلده وشكل نظام الحكم على أن يشكل خطراً على استراتيجياتها في التأسيس لواقع ديموغرافي جديد يضمن جغرافية امنة خاضعة لسيطرتها ونفوذها بشكل مباشر أو عن طريق وكلاء محليين تمتد من صحراء حمص مع العراق إلى العاصمة السورية والحدود اللبنانية وصولاً إلى مناطق الساحلين السوري واللبناني على البحر الأبيض المتوسط.

وفي مسعى إيراني لتأمين النفوذ في المناطق ذات العلاقة بمشروعها في سوريا باشرت مجموعات من حزب الله اللبناني ووحدات الجيش السوري بعد توقيع اتفاق الهدنة مباشرة بتشديد الحصار المفروض منذ صيف 2016 على مناطق وادي بردى في ريف دمشق بهدف السيطرة عليه وفرض تغيير تركيبته السكانية إلى فئات تدين بالولاء لإيران لتأمين خط التواصل البري ضمن جغرافية تمتد من إيران مروراً بالعراق ووصولاً إلى لبنان.

أما بعد خسارة فصائل المعارضة السورية مدينة حلب المعقل الحضري الرئيس لها، فمن المنتظر أن تركز قوات النظام السوري والقوات الحليفة على مناطق حيوية لاستراتيجيات إيران في تأمين جغرافية تواصل بري إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط؛ وينظر الإيرانيون إلى أن "سواحل البحر الأبيض المتوسط هي جبهة الدفاع عن الإسلام"[1].

الولايات المتحدة:

لم تبتعد الولايات المتحدة كثيراً عن الرؤية الروسية لحل الأزمة السورية بالإبقاء على الرئيس السوري بشار الاسد وتشكيل حكومة وحدة وطنية من طرفي الصراع؛ وتشدد الولايات المتحدة وتركيا والسعودية وقطر على ضرورة الحفاظ على البنى التحتية للدولة السورية، ومنع انهيار مؤسستي الجيش والأمن وتفككها تخوفاً من تكرار الفوضى التي عمّت العراق بعد حل مؤسسات الدولة العراقية من قبل سلطة الائتلاف المدني التي حكمت العراق بعد احتلاله؛ وتتمسك الإدارة الامريكية بموقفها المعلن في رفض "توصيات وزارتي الخارجية والدفاع، وكذلك الاستخبارات، بتسليح مقاتلي المعارضة السورية"[2].

كما أن الولايات المتحدة بعد متغيرات معركة حلب وتوقيع اتفاق روسي تركي لوقف اطلاق النار، ومع استلام الإدارة الجديدة رئاسة البيت الابيض، من المرجح أن تخفف من دعاوى رحيل الرئيس السوري أو نظامه ككل، كشرط مسبق لبدء المرحلة الانتقالية التي من المقرر أن تكون استكمالا لمسار جنيف.

ومع أن الرئيس الأمريكي الجديد شدّد أكثر من مرة على إعادة النظر في الاتفاق مع إيران حول الملف النووي، ورغبته في منع إيران من استمرار دورها في زعزعة الاستقرار في عموم المنطقة؛ إلاّ ان ذلك لا يعني الذهاب بعيدا في الملف السوري بالضغط على إيران لسحب المجموعات المسلحة الحليفة لها من سورية، حيث تظل الحاجة الامريكية لمثل هذه المجموعات قائمة لقتال تنظيم الدولة وجبهة فتح الشام مستقبلا حتى من دون تنسيق مباشر بين الولايات المتحدة وايران.

تراجع الفصائل وسياسات التسليح وخسارة حلب:

سيطرة قوات النظام السوري على مدينة حلب ثاني أكبر مدينة من حيث الكثافة السكانية والأهمية الاقتصادية والتجارية تعني من الناحية الجيوسياسية ضم المدينة إلى مدن أخرى مثل دمشق واللاذقية وحمص والسويداء وطرطوس وغيرها، باستثناء مدينتي الرقة ودير الزور الخاضعتين لسيطرة تنظيم الدولة، ومدينة إدلب المعقل الأخير لفصائل المعارضة السورية ومركز تجمعها بعد سلسلة من الهدن والمصالحات في عدد من المحافظات، وبعد خروج المسلحين من مركز تجمعهم الأهم في حلب إلى إدلب.

وتلقت فصائل المعارضة دعماً تسليحياً كبيراً كشفت عنه صور بثتها وسائل إعلام مقربة من الحكومة السورية لخزين من الأسلحة المتوسطة والخفيفة تركتها فصائل المعارضة في حلب، لكن هذه الفصائل ظلت تشكو من افتقارها إلى السلاح النوعي المضاد للطائرات والذي تضع الولايات المتحدة قيوداً صارمة على الجهات الداعمة لمنع وصوله إلى ايدي الفصائل خشية وصوله إلى الفصائل المتطرفة.

كما أن أصحاب القرار في الولايات المتحدة منقسمون بين مؤيد لتزويد المعارضة بأسلحة نوعية قادرة على تغيير موازين القوى، وفريق يرفض تسليح المعارضة لاعتبارات تتعلق بالخشية من وصولها إلى أيدي المتطرفين أو أن تسليح المعارضة، كما يرى وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري، يعدّ تصعيدا "من المحتمل أن يشعل مواجهة مع موسكو"[3].

يمكن القول، أن الدعم التسليحي طيلة سنوات الثورة السورية كان مقننا إلى ما يكفي لإدامة الصراع المسلح ضمن توازن قوى لا يسمح بحسم الصراع عسكريا لأي طرف من طرفي الصراع، طالما ظلت جبهة فتح الشام وتنظيم الدولة يفرضان سيطرتهما على مساحات جغرافية واسعة، ويشكلان الثقل العسكري الأكبر على الأرض إلى الحد الذي يفهم منه أنهما وفق قواعد التوازنات العسكرية يشكلان البديل الأقوى المحتمل للنظام في حال خسارته الحرب، وهو خيار عملت الولايات المتحدة وحلفاءها من جهة وإيران وروسيا ومن تحالف معهما على عدم السماح به.

لكن ثمة عوامل أخرى أدت إلى حالة الضعف في صف فصائل المعارضة السورية المحاصرة داخل حلب، منها:

حالة تعدد مراكز القرار لدى الفصائل المسلحة المحاصرة.

الخلافات الداخلية بين الفصائل المحاصرة في حلب.

عدم مؤازرة الفصائل المحاصرة من فصائل أخرى من خارج المدينة للضغط على قوات النظام.

تزامن عمليات درع الفرات مع معارك فك الحصار عن حلب، الأمر الذي ساهم إلى حد بعيد في اضعاف مقاومة الفصائل المحاصَرة في حلب التي توزع مقاتلوها بين جبهتي النظام وتنظيم الدولة في وقت واحد.

المزيد من الهدن والمصالحات التي وقعتها فصائل عدة مع قوات النظام في جبهات درعا وريف دمشق وغيرهما، خففت عنها الكثير بما يتيح لها حشد أكبر عدد من القوات في جبهة حلب التي هي الجبهة المركزية للنظام وروسيا وإيران.

ساعدت الهدن والمصالحات على رفد قوات النظام بالمزيد من المقاتلين الذين التحقوا إلى صفوفها ضمن شروط بعض المصالحات.

وقف إطلاق النار وما بعد معركة حلب:

اختلاط المشهد العام طيلة فترة معارك حلب بين جوانب المعركة السياسية والعسكرية والإنسانية بشكل متداخل، عقّد كثيراً من قدرة هذا الطرف على حسم المعركة عسكريا بوقت مبكر، أو ذاك الطرف على استثمار المعركة سياسياً من خلال تقديم صورة ملازمة لحالة إنسانية حظيت باهتمام دولي واسع؛ لكن في كل الأحوال كان تداخل العاملين الإقليمي والدولي وتأثيرهما على طرفي الصراع، الحكومة والمعارضة، عاملاً زاد من حدة الصراع وتداعياته.

ومع نهاية معركة حلب وخروج المسلحين منها وتسليم أسلحتهم إلى قوات النظام، فان اتجاه العمليات العسكرية سيتخذ مسارات جديدة من حيث جغرافية المعارك المقبلة أو التحالفات بين الفصائل التي لا تزال معظمها تستجيب للرغبات الدولية بعزل المعارضة المتطرفة عن نظيرتها المعتدلة؛ وفي هذا السياق ستظل جهود ادماج الفصائل ضمن قيادة واحدة متعثرة طالما ظل الانقسام بين مواقف قياداتها من مسألة قبول جبهة فتح الشام أو رفض القبول بضمها إلى أي أطر جبهوية جديدة حتى بعد الإعلان عن وقف اطلاق النار بين قوات النظام والمعارضة المسلحة برعاية روسية تركية مشتركة.

رجح اتفاق وقف اطلاق النار بعد خسارة الفصائل السورية مدينة حلب الرؤية الإيرانية المشتركة مع النظام باعتماد الخيار العسكري في حسم الصراع السوري؛ وشكل الاتفاق أيضا بداية تفكيك جسم المعارضة السورية المسلحة المقدر لها ان تقبل في مفاوضات الحل السياسي عملية انتقال سلمي ضمن مسار قابل للتطبيق باستمرار بقاء الرئيس السوري بشار الأسد مع مؤسسة عسكرية ضعيفة تعتمد في وجودها وقدراتها على مجموعات مسلحة شيعية وحزب الله اللبناني، واستمرار ذلك إلى مرحلة قد تطول قبل أن يسترد الجيش عافيته ويعتمد على قدراته الذاتية بالاعتماد على الدعم الروسي لمنع تكرار خسارة المدن، مثلما حدث في تدمر.

وتتخوف دول عربية معنية بالشأن السوري من بقاء قوات عسكرية أجنبية أو شبه عسكرية على الأراضي السورية في المرحلة القادمة، وتطالب مجلس الأمن الدولي باتخاذ قرار "يقضي بانسحاب كل القوات الأجنبية من سوريا بما فيها المقاتلون الإرهابيون الأجانب وقوات حزب الله الإرهابي والميليشيات الطائفية وقوات الحرس الثوري الإيراني وجميع القوات النظامية الأجنبية، وإفساح المجال أمام الشعب السوري ليقرر مصيره السياسي وفق إرادته الحرة المستقلة"[4].

مستجدات الصراع بعد حلب:

بدت ملامح خريطة صراع جديدة في أعقاب نهاية معركة حلب في صورة تعاون تركي روسي مشترك، بالتنسيق مع قوات النظام في معركة الباب لاستعادتها من تنظيم الدولة الذي يواجه قوات سورية الديمقراطية في الرقة؛ في ذات الوقت فتح التنظيم جبهة قتالية جديدة في مدينة دير الزور قصد السيطرة على كامل المدينة ومطارها.

وفي العراق، يواصل تنظيم الدولة خسارته لأحياء الموصل الشرقية التي أعلنت الحكومة العراقية عن تحرير الجانب الايسر من المدينة التي يفصلها نهر دجلة إلى قسمين؛ القسم الايسر، وهو الأكبر مساحة والأكثر كثافة سكانية في مقابل الجانب الأيمن الذي تتميز مناطقه بقِدم مبانيها وضيق شوارعها ما يفتح المجال امام احتمالات معارك شرسة سيشهدها هذا القسم من المدينة.

لا تبتعد تقديرات قادة تنظيم الدولة العسكريين كثيرا عن تقديرات أخرى ترى ان خسارة التنظيم لمدينة الموصل شبه اكيدة، وان المسألة لا تعدو كونها مسألة وقت يحاول التنظيم استثماره لإيقاع المزيد من الخسائر في صفوف القوات المهاجمة ضمن استراتيجية استنزاف بعيدة المدى.

وبعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على بد عمليات عملية استعادة الموصل في 17 اكتوبر/تشرين الأول 2016، فإن تنظيم الدولة على ما يبدو على يقين بخسارته كامل مدينة الموصل، ولهذا يعد نفسه لأن تكون مدينة دير الزور السورية معقلا بديلا يعوضه خسارة الموصل، المعقل الحضري الأكبر والأخير له في العراق، باستثناء مدن صغيرة في غرب الانبار على مقربة من الحدود السورية ضمن محافظة دير الزور.

ومنذ مطلع الأسبوع الثاني من يناير/كانون الثاني 2017، باشر تنظيم الدولة عملية عسكرية في مدينة دير الزور سيطر خلالها على عدد من الأحياء لتضييق الحصار على مطار المدينة والسيطرة عليه من جهة، ومن ثم السيطرة على كامل المدينة من جهة أخرى.

ويسعى تنظيم الدولة من فتح معركة دير الزور تأمين سيطرته على مثلث دير الزور _ الرقة _ تدمر؛ ويخوض التنظيم معارك في جبهات المثلث الثلاث، إضافة إلى جبهتي الموصل في العراق والباب في سوريا.

في وقت سابق، نفذت طائرات روسية عدد من الضربات الجوية على مواقع تنظيم الدولة في مدينة الباب؛ لكن للمرة الأولى تنفذ طائرات روسية ضربات جوية مع طائرات تركية في 18 يناير/كانون الثاني 2017 "عملية مشتركة ضد مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية في مدينة الباب بريف حلب، وذلك بالاتفاق مع النظام السوري"[5] بمشاركة تسع طائرات روسية وثماني طائرات تركية؛ كما شارك التحالف الدولي بقصف مواقع التنظيم قرب مدينة الباب "بالتنسيق مع تركيا التي " نددت عدة مرات بعدم مساهمة التحالف في عملية درع الفرات بشمال سورية".

ضوء على مشهد الصراع في المدى المنظور:

بعد معركة حلب، أصبحت معظم فصائل المعارضة السورية المسلحة تتبنى خيار المضي بالمسار السياسي لحل الأزمة السورية، لأسباب منها:

تراجع الروح القتالية لمقاتلي الفصائل بعد خسارتهم مدينة حلب، وعزز هذا التراجع عدم مساندة الفصائل الأخرى من خارج المدينة للمقاتلين المحاصرين داخلها.

يقين قادة الفصائل بتخلي المجتمع الدولي عن الشعب السوري.

تخاذل الدول الداعمة عن تقديم ما يكفي لفك الحصار وهزيمة قوات النظام أو الصمود على الأقل بوجه الحملات الجوية الروسية والهجمات البرية لقوات النظام والمجموعات الشيعية المسلحة.

ولا تملك المعارضة السورية المسلحة الكثير من أوراق الضغط في مفاوضات الحل السياسي بكازاخستان نتيجة عوامل وضغوطات عدة منها:

الانقسامات العميقة في داخل صف المعارضة المسلحة والمعارضة السياسية.

تباين رؤية المعارضة المسلحة للحل مع روية المعارضة السياسية.

حالة الضياع التي تعيشها المعارضة بشقيها المسلح والسياسي نتيجة عدم امتلاكها ما يكفي من الأدوات لمواجهة اهداف الدول الراعية للاتفاق، والتي ليست بالضرورة أن تتفق مع مصالح السوريين.

عدم قدرة المعارضة على التوفيق بين مصالحها الأساسية ومصالح روسيا التي تريد فرض نفوذها السياسي على مستقبل سوريا.

افتقار المعارضة السورية إلى ما يكفي من الأدوات لمواجهة المشروع الايراني الذي يعمل على تغيير التركيبة السكانية في المناطق الحيوية.

اضطرار المعارضة إلى التوافق مع السياسات التركية التي توظف كل ما تحت يديها لمنع قيام كيان كردي بمحاذاة حدودها الجنوبية، وإبعاد تهديدات تنظيم الدولة عن مدنها الحدودية.

غياب دعم الولايات المتحدة للمعارضة السورية في مواجهة السياسات الروسية والإيرانية لاقتصار جهود الولايات المتحدة على قتال تنظيم الدولة دون اعتبار لأي انعكاسات أخرى.

تخلي الولايات المتحدة عن العمل للحد من تكريس الدول الفاعلة بالملف السوري لمصالحها الخاصة على حساب المصالح السورية التي تمثلها قوى المعارضة.

استنتاجات وسيناريوهات مستقبلية:

أولاً:

ترسم تطورات الصراع السوري المتسارعة صورة ثنائية تحدد مستقبل البلد في صراع أكثر دموية والمضي نحو التقسيم؛ ومع تقدم الثورة السورية زمنيا فإن زيادة حدة الصراع الدموي تصاعدت عاما بعد عام، في حين لا تزال احتمالات تقسيم سورية بعيدة إلى حد ما عن الواقع.

ثانياً:

ستظل صورة سوريا الدولة تبدو بلدا موحدا في ترابه محافظا على مؤسساته، مع انقسامات مجتمعية طائفية وعرقية؛ لكن واقع تقاسم السيطرة على جغرافية سوريا يشير إلى بلد مقسم بين سلطات متعددة، النظام والمجموعات والقوى المسلحة، ضمن جغرافيات منفصلة تفرض عليها هذه الجهات أو تلك سلطاتها وفق قوانينها الخاصة.

ثالثاً:

من المتوقع أن تنفذ قوات النظام مستقبلاً عمليات قتالية لاستعادة كامل الأراضي السورية بالتوافق بين القوى الإقليمية المؤثرة في الصراع السوري، روسيا وإيران بمشاركة تركية.

رابعاً:

ستركز المعارضة السورية على تعزيز الموقف السياسي وتنميته لتحقيق بعض المكاسب في مفاوضات تثبيت وقف إطلاق النار في كازاخستان برعاية تركية روسية مشتركة، والدخول في مرحلة جديدة من العمل السياسي استعداداً لمفاوضات الحل السياسي المرتقب استكمالا لمسار جنيف.

خامساً:

من المتوقع أن يعمل النظام السوري في مرحلة لاحقة تعقب خسارة تنظيم الدولة مدينتي الباب والرقة، على عقد تحالفات مع قوى كردية وأخرى من القبائل العربية وفق تفاهمات تمنحهم بعض الامتيازات السياسية في شمال شرقي سوريا لتحييد تلك القوى وتفرغ قوات النظام للإجهاز على المعقل الأخير لفصائل المعارضة السورية في محافظة ادلب.

سادساً:

ومع استلام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مهامه الدستورية في العشرين من يناير/كانون الثاني 2017، فمن المتوقع أن "تميل" الولايات المتحدة إلى الحد من انخراطها في عمق الصراع المسلح في وسط وشمال سوريا باستثناء شمال شرقي البلاد حيث تواجد قواعدها ضمن مناطق سيطرة القوات الكردية، وأهمية المنطقة لعمليات الموصل والرقة ضد تنظيم الدولة.

سابعاً:

من المحتمل انتقال الصراع المسلح إلى مناطق في ريف دمشق والقلمون لتأمين الحدود اللبنانية السورية وجغرافية "سوريا المفيدة" إلى الساحل السوري من العاصمة وريفها مرورا بحمص وريفها وصحرائها ضمن إطار تأمين مستلزمات المشروع الإيراني في سوريا والمنطقة.

ثامناً:

من المتوقع وتبعا لما سيتم التوافق عليه في مفاوضات جنيف الرابعة في فبراير/شباط 2017، فإن جولة جديدة من القتال ستشهدها مدينة ادلب وريفها إذا استمر تموضع جبهة فتح الشام وفصائل أخرى في المحافظة.

وأخيراً: انتهت معركة حلب لكن الحرب السورية لم تنته بعد؛ ولا تزال أمام قوات النظام المزيد من المعارك في تدمر بريف حمص، وفي إدلب ودير الزور والرقة والحسكة، وغيرها من مناطق سيطرة الفصائل المستثناة من اتفاق الهدنة لاستعادة سيطرتها على كامل التراب السوري بعد نهاية معركتي الباب والرقة، بما فيها المناطق الخاضعة لسيطرة القوات الكردية أو الأخرى التي تسيطر عليها قوات درع الفرات المدعومة بقوات تركية على الأرض.

- المراجع:

[1] قائد بالحرس الثوري: جبهة الدفاع عن الإسلام بلغت سواحل البحر الأبيض، وكالة أنباء فارس، 11 يناير/كانون الثاني 2017 انظر الرابط.

[2] تطورات الموقف الأميركي من الثورة السوريّة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 27 فبراير/شباط 2013 انظر الرابط.

[3] واشنطن تجمد تزويد المعارضة السورية بأسلحة ثقيلة، الجزيرة نت، 24 أكتوبر/تشرين الأول 2016 انظر الرابط.

[4] السعودية تطالب مجلس اﻷمن بقرار لسحب الميليشيات المدعومة إيرانياً من سورية، الدرر الشامية، 19 يناير/كانون الثاني 2017 انظر الرابط.

[5] أول ضربة روسية تركية مشتركة بمدينة الباب السورية، الجزيرة نت، 18 يناير/كانون الثاني 2017 انظر الرابط.

- رائد الحامد:

باحث ومحلل سياسي عراقي. سبق أن عمل رئيساً لوحدة البحوث والدراسات في مركز بغداد للبحوث الاستراتيجية، وبعد ذلك كرئيس تحرير مجلة "نوافذ الثقافية" وعمل أيضا كمستشار في مجموعة الازمات الدولية. ساهم بتأليف كتاب بعنوان "الاحتلال الامريكي للعراق المشهد الاخير" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية عام 2007.

وسوم: العدد 704