تعفيش الثورة والمعارضة
لم يكد ينتهي مؤتمر إطلاق ما سُمّي "الكتلة الوطنية"، في بيروت الأسبوع الماضي، حتى بادر "تيار سوريون وسنكون" المشارك إلى الانسحاب منها، متهماً المجتمعين بالعمل على تضخيم وزنهم الفعلي، والسعي إلى الانضمام إلى وفد المعارضة في جنيف4 خدمةً للنظام. والكتلة، بحسب ما قدمت نفسها في المؤتمر، متسامحة مع الجميع إلا الإرهاب. وبحسب تأكيد أحد قيادييها "نواف عبدالعزيز الملحم" ترى أن مقام رئاسة الجمهورية العربية السورية لا يجوز البت فيه في المحافل الدولية، بل تتحكم فيه الانتخابات النزيهة فقط، وقد عاد إلى التشديد على كون هذه النقطة في أساس مقررات المؤتمر، بعد تجنب البعض إعلانها على الملأ.
وكما هو معلوم تنتعش بورصة الحديث عن مشاركة منصات "معارضة" عديدة على مشارف انعقاد مؤتمر جنيف هذا الشهر، ولا يُستبعد أن تُطرح منصة بيروت للمشاركة أسوة بشقيقاتها من منصات موسكو والقاهرة وحميميم. الهدف، كما هو معلوم تفريغ وفد المعارضة من محتواه، وتشكيل وفد مستعد لتقديم التنازلات التي يريدها داعمو النظام، وربما بعض ممن يدّعون صداقة الشعب السوري.
لكن، قبل الوصول إلى قاعات جنيف، وإلى تلك القرصنة الموصوفة تحت شعار تجميع المعارضات، من الملائم وضع ما يجري في إطاره الصحيح، وعدم السكوت عن عملية القرصنة هذه وما قد تسببه من أذى مستقبلي. الأقرب إلى الواقع تسميتها بعملية "تعفيش"، وهذه التسمية المحلية أُطلقت على قيام شبيحة النظام بسرقة محتويات بيوت المناطق الثائرة إثر مداهمتها أو اقتحامها، حيث تتم السرقة علناً، وتباع المسروقات في أسواق علنية. تعفيش المعارضة، بهذا المعنى، هي عملية تتم علناً، يسطو فيها مدّعو المعارضة على أصحاب الحقوق الأصلية، أي على أولئك المتضررين من وحشية النظام، دون أن يكلّف المدعون أنفسهم عناء مواجهة النظام، ودون حتى إعلان مواقف أخلاقية لفظياً من نوع الدعوة إلى محاكمة مجرمي الحرب.
لقد بدأ هذا النوع من تعفيش المعارضة والثورة مع ادّعاء البعض أنه هو صاحب الثورة والمعارضة، وأن أولئك "الرعاع" سرقوها منه وحرفوها عن مسارها. بدأ أيضاً مع الادعاء أن الإسلاميين قد سرقوا الثورة، على رغم أنهم لم ينافقوا في سلوكهم أو شعاراتهم أو راياتهم المختلفة عن راية الثورة وشعاراتها. بدأ عندما وقف ضد ما سُمّي "التدخل الخارجي"، على الرغم من أن الميليشيات الحليفة للنظام بدأت المشاركة في حربه على السوريين منذ العام الأول للثورة، وصولاً إلى التدخل الروسي المباشر، دون أن يعلو صوت رافضي التدخل الخارجي سوى بإدانة المقاتلين الأجانب مع تنظيمي داعش والقاعدة.
طوال خمس سنوات، على الأقل، لم يرتفع صوت مدّعي المعارضة سوى لإدانة معارضين جذريين للنظام، مع صمت واضح إزاء الأخير يُبرَّر بأن نقده تحصيل حاصل. هكذا مثلاً يبدو الصمت على مجزرة الكيماوي أو سواها أمراً اعتيادياً، فمثل هذه المجازر لا يدخل في صلب اهتمام مُعفّشي المعارضة، ولا ينبغي طرحها أمام من يلتقونهم من دبلوماسيين أجانب، لأن اهتمامهم مقتصر على مستقبل مخيف يحكم فيه المتطرفون، أو بالأحرى مستقبل لا يحكم فيه بشار الأسد وأشباهه. وعندما تأتي الإدانة من منظمات دولية تتمتع بالصدقية، مثل تقرير منظمة العفو الدولية الأخير عن سجن صيدنايا، يخيّم الصمت المطبق على مدّعي المعارضة، في انتظار أن يطوي النسيان تلك التقارير.
في كل ثورة ثمة انتهازيون، والثورة والمعارضة السوريتين ليستا استثناء، وحتى ضمن من يُصنفون معارضةً جذرية لا نعدم وجود متسلقين أو عديمي كفاءة. ذلك يختلف عن تعفيش المعارضة من قبل شخصيات ليس في خطابها سوى التهجم على معارضين آخرين، والتهجم على الثورة بذريعة أو أخرى، بل لا يجد بعضها حرجاً من التنصل من أية صلة بالثورة، أو يعرب عن كراهيته العميقة لها، ثم لا يجد حرجاً من المطالبة بأن يكون في وفد يُفترض به أن يفاوض باسمها. ثم إن انتهازي الثورة يطمع في انتصارها لمكسب شخصي، أو ربما في استمرارها لأنه يتكسب منها، لكنه لا يبذل جهده لانتصار النظام على نحو ما يفعل معفّشو الثورة والمعارضة.
واحد من أسباب المشكلة أن السوريين استهلوا ثورتهم بشعارات من نوع "لا للتخوين"، وكان التخوين يعني العمالة للنظام، لأنهم أرادوا لموالي النظام طي صفحة الماضي. هكذا، منذ البداية، لم تُتخذ مواقف حاسمة لعزل معفّشي الثورة والمعارضة، والحق أن هذه الحساسية الزائدة تجاه خطاب التخوين الذي يستخدمه النظام بوفرة أتاحت لكل من يشاء التحدث باسم المعارضة وادّعاء ما يشاء. الفرز الذي كان مطلوباً، ولا يزال، لا يقع في دائرة التخوين بل في صميم السياسة، إذ في كل التجارب السياسية تفرز القوى نفسها على أساس خطابها، وفي حالات الثورة يكون الفرز على أساس من هم في صف النظام القديم ومن انتفضوا ضده، وفي حالة التفاوض بين خصمين يُفترض ألا يكون هناك مكان سوى لهما، أما من هم خارج الخصومة من جهة النظام فمن الأولى أن يكونوا في عداد وفده، أو أن يسعوا إلى التفاوض مع المعارضة والثورة من موقع متمايز عنه، لكن في مطلق الأحوال لا ينبغي أن يعفّشوا وفد المعارضة ويتحدثوا باسمها.
يسمّي الزميل فادي الداهوك عملية إطلاق اسم "الكتلة الوطنية" على منصة بيروت بالـ"سطو على التاريخ السوري"، في مقاله في المدن الذي يحمل نفس العنوان. وهو، إذ لا يجانب الصواب إطلاقاً، لم يكرس اهتمامه لتفحص الصلة بين نظام عفّش تاريخ سوريا واقتصادها وكل فضاءاتها، ثم أخيراً ممتلكات أهلها الشخصية، ومدّعي معارضة لا يرون حرجاً في تعفيش التاريخ بعد تعفيش اسمَي المعارضة والثورة. لكن بالتأكيد ثمة فارق بين هذه المعارضة والنظام، رغم اشتراكهما في التعفيش، فهي لم تمتلك البراميل المتفجرة لتقصف خصومها بعد.
وسوم: العدد 707