فشل المفوضية العليا للانتخابات
في امتحاني النزاهة والاستقلالية
علي الكاش
كاتب ومفكر عراقي
(إن قول الحقيقة في زمن الخديعة عمل ثوري). جورج اوريل
الإستقلالية والمستقلة كلمة تقابل الإنحياز أو التحيز، وقد سخر هذا المصطلح الشفاف لترقيع بعض فتوق المفوضية العليا للإنتخابات في العراق، مع إن الرقع سقطت في الدورتين السابقتين بسرعة مذهلة، لأن الفتوق كانت أوسع من الرقع بكثير. ورقعت في الدورة الإنتخابية الجاريه بعض الفتوق قبل أن تعلن نتائج الإنتخابات بصورة رسمية.
الحقيقة أن هذا التسميات المستقلة والنزاهة والشفافية وغيرها، بعيدة كل البعد عن مدلولاتها الصحيحية في عراق المالكي. ولا علاقة بواقع عمل المفوضية. سبق أن شهدنا عدم نزاهة لجنة النزاهة التي نخر سوس الفساد في جداران نزاهتها وكشف العناصر المغشوشة التي إستخدمت في بنائها الهش على الطرازالأمريكي، فسرعان ما إنهارت منذ السنوات الأولى لإنشائها. وكذلك حال المفوضية المستقلة للإنتخابات التي أثبتت إن إستقلاليتها أشبه بغطاء البالوعة يخفي تحته ديدان وحشرات وجيف، تعافها الضمائر الحية.
سبق أن صدعت المفوضية الرؤوس بموضوع ترشيح النواب وأستبعاد من أساء السلوك في تفسير أحادي مجحف لمادة دستورية واضحة المعنى والمراد، حيث ربط النص الدستوري سوء السلوك بالجنح والجرائم، وليس مجرد أحاديث صحفية يصرح بها النواب فتستخدمها المفوضية كسلاح ضدهم. إن سوء السلوك مفهوم مطاطي يمكن أن تكبره المفوضية أو تصغره حسب مشيئة حاكمها الفعلي رئيس الوزراء. لذا فقد إستبعدت النواب المعروفين بشدة إنتقادهم لأداء رئيس الوزراء وفضح مستوى الفساد المستشري في جميع وزاراته ومؤسساته بحجة سوء السلوك اولئك النواب، في محاباة مكشوفة، وإنحراف خطير عن مبدأ الإستقلالية الذي تتبجح به المفوضية. بل إنها تدنت إلى مستوى رقيع جدا، عندما إستبعدت نائبة من التيار الصدري لأنها أنتقدت أخا لخليلة رئيس الوزراء بنفس الحجة.
لاحظنا حجم الخروقات والإنتهاكات التي أرتكبها المالكي وحزبه المشبوه خلال حملة الدعاية الإنتخابية بإعتراف المفوضية نفسها، وإقرارها بالعجز عن محاسبة المالكي! ولكنها لم تفسر للشعب العراقي ـ وهو بدوره لم يطالب المفوضية بتفسير ـ السبب الذي يمنعها من محاسبة رئيس الوزراء! فهل المالكي فوق القانون في دولة تسمى تهكما دولة القانون؟ أم بسبب القوة غير الدستورية التي يمتلكها والتي يمكن ان يسخرها لتدمير المفوضية بحجج كثيرة؟ أو لأنه جمع على المفوضية من ملفات الفساد ما يمكنه من الإطاحة بها ووضعها تحت طائلة القانون أوربما الإرهاب حسبما يرغب؟ أو بسبب الرشاوى التي تسلمتها المفوضية من رئيس الوزراء فألجم لسانها؟
سنترك الدستور والقانون جانبا لأنه ثبت انه لاوجود فعلي لهما، طالما ان السلطة القضائية لاتأخذ الا بتفسيرات المالكي لنصوصه، إنه دستور حزب الدعوة وزعيمه المالكي وليس دستور العراق رغم إعوجاجه البائن. وسنتحدث عن مفهوم سوء السلوك ومعناه عند المفوضية العليا للإنتخابات، فصباح الساعدي وحيدر الملا ومها الدوري وغيرهم اعتبرتهم المفوضية أساءوا الأدب وحرمتهم من المشاركة في الإنتخابات سيئة الصيت. وبالتأكيد ان حرمانهم من شهادة حسن السلوك يجعلهم في مصاف المجرمين واللصوص وقطاع الطرق والمزورين والمرتشين وقضايا الشرف، لأنه ليس من المعقول ان يتحدث الدستور مثلا عن السب والشتيمة واللعن والصراخ والإشتباك بالأيادي أو الألسن بإعتبارها إساءة أدب. إساءة الأدب اكبر من هذه الصغائر. ولا اعرف كيف سكت النواب المستبعدين عن هذه الإتهامات الخطيرة، دون ان يقيموا دعوى على الجهة التي استبعدتهم عن الإساءة البليغة لهم؟ فالكرامة هي الملاذ الأخير لمن جار عليه الزمن، وعندما لا تدافع عن نفسك وعن المثل العليا التي تؤمن بها فأنك غير جدير بها، وهي أيضا غير جديرة بك.
إساءة الأدب علاوة على خرق الدستور الذي وضعناه جانبا، تمثل في إستغفال النائب عن دولة القانون القاضي محمود الحسن، بعد أن ظهر في السماوة مع مجموعة من الجهلة والبسطاء من ابناء العشائر وهو يُمنيهم بسندات تملك أراضي في حال تصويتهم لصالح نوري المالكي، ويهددهم بالمحاسبة إذا تبين خلاف ذلك. المصيبة ان هذا النائب قاض! أي انه سبق ان أقسم باليمين ان يراعي الشرع والحق والعدل في حكمه.
لكن كيف كان تصرف المفوضية العليا للإنتخابات إتجاه النائب المسعور والقاضي المرتد؟ في البداية توقع البعض بأن المفوضية ستحيله الى القضاء وتلغي اصوات الناخبين لصالح القاضي محمود الحسن ورئيس قائمة ائتلاف دولة القانون نوري المالكي. بل أن مستشار القانوني لنوري المالكي نفسه أكد بأن" استبعاد القاضي محمود الحسن امر ضروري لانقاذ ماء وجه السيد نوري المالكي، اذا ما أصرت الكتل المنافسة على تطبيق القانون الخاص بسلوك المرشحين وقوانين الدعاية الانتخابية قبل وأثناء فترة الانتخابات النيابية التي جرت مؤخرا. ان ائتلاف دولة القانون سيتشضى وينهار سريعا لأن الكتل والاحزاب المشكلة لائتلاف دولة القانون ومنها كتلة مستقلون برئاسة حسين الشهرستاني هددت بالانسحاب من الائتلاف اذا لم يستبعد الحسن خوفا على مسقبلها السياسي مع احتمال الغاء اصوات القائمة كليا".
هذا هراء وكلام في شبك! فالمفوضية لم تعتبر هذه الجريمة انتهاكا للدستور، أو خرقا لقانون الإنتخاب، أو سرقة للمال العام، ولا استغفالا للجهلة بعقود وهمية من قبل مسؤول في الحكومة، ولا تهديدا لمواطنين في حال عدم تصويتهم لنوري المالكي، ولا رشوة من قبل مسؤول حكومي على مرأى الجميع، بل ولا حتى سوء سلوك كما فعلت مع غيره! اعتبرته خطأ! بالطبع غير مقصود! أما كيف ولماذا ولعل ولكن وليت وغيرها من أدوات الإستفهام والجزم والنصب على الناس ورفع المالكي، وجر الناس بالقوة لصالحه، فقد كنستها المفوضية كلها ورمتها في سلة المهملات، بكل وقاحة وسوء أدب!
فقد غرمت المفوضية النائب الأمعي مبلغ(50) الف دولارا فقط، وأسدل الستار على أكبر فضيحة إنتخابية لدولة القانون. واثبتت المفوضية العليا للإنتخابات بهذه العهر الإنتخابي المفرط إنها فعلا في غاية الإستقلالية والنزاهة! وجديرة فعلا بالمحافظة على أصوات الناخبين! صدق تاسيتوس بقوله " عندما تكشف الجريمة فلا ملجأ لها سوى الوقاحة".
أما لماذا هذا الموقف المشين من قبل المفوضية؟ طالما أن ادوات الجريمة متوفرة، والشهود موجودون، والمجرم معترف بجريمته، والأدلة كافية وتزيد عن الحاجة لتثبيت الجرم؟ ومستشار المالكي نفسه قد نوه بحجم الجريمة؟
السبب بسيط جدا! لأن المفوضية كالنائب محمود الحسن لاتقل عنه فسادا وإستهتارا، فكلاهما لا يحترم الشعب ولا يقيم له وزنا. وكلاهما يستهتر بالقوانين النافذة والدستور. وكلاهما عكازين يستند عليهما المالكي، وكلاهما يستمد قوته من قبل المالكي والمحكمة العليا المسيسة لصالحه. وكلاهما يستخف بالعملية الإنتخابية، ويعرف جيدا بأنه لا علاقه لها بالديمقراطية.
لاحظ الأمر الثاني حول تسرب النتائج الأولية من قبل المفوضية، مما يثبت بأنها مخترقة من قبل المالكي، فقد نقلت صحيفة ايلاف الالكترونية الصادرة في لندن عن الموسوي قوله "ان مؤشرات النتائج الاولية للانتخابات البرلمانية الاخيرة، تؤكد تقدما كبيرا لرئيس الوزراء نوري المالكي بشكل سيمكنه من ضمان الولاية الثالثة"! كيف عرف الموسوي هذا؟ ألا يشكل حديثه خرقا لقوانين المفوضية أو على الأقل إساءة أدب كما فعلوا مع بعض النواب؟
من جهة ثانية أعلن مجيد الكعبي ممثل كيان ائتلاف المواطن في المفوضية بإن هنالك "عددا من الحالات التي تثير الشك والريبة في عمليات العد والفرز، أبرزها ووجود أوراق اقتراع مؤشرة بغير القلم الذي حددته مفوضية الانتخابات! وأن بعض الصناديق كانت تحتوي على العشرات من أوراق الاقتراع مؤشرة لكيان معين(قائمة المالكي) بقلم مخالف لتعليمات المفوضية، ما أثار حفيظة غالبية مراقبي الكيانات السياسية الذين اتهموا المفوضية بالتغاضي عن الصناديق التي كانت تنطوي على مشاكل أو مخالفات لآليات الاقتراع التي حددتها المفوضية، ومع أن مراقبي الكيانات السياسية أبلغوا أعضاء المفوضية بتلك المخالفات، لكن لم تتم الاستجابة لهم!" لماذا لا تستجيب المفوضية طالما هناك غش وتزوير؟ الإجابة: لأن التزوير لصالح المالكي. أما عقيل عبد علي ممثل كيان التجمع المدني الديمقراطي فقد ذكر بأن " أغلب عمليات التلاعب والشكاوى كانت من قبل التيارات الدينية" فعلا إحزاب إسلامية وتطبق الشريعة بحذافيرها! لكن الطريف في الأمر ان دولة القانون عدت حالات التزوير مجرد اخطاء " بسبب افتقار عناصر المفوضية إلى الخبرة والتدريب الجيد" حسنا! كيف تصرح المفوضية بأنها إستكملنت كافة الإستعدادات طالما هناك نقص في الخبرة والتدريب الجيد؟
وفي تطور لاحق كشفت مصادر في المفوضية عن وقوع "مشادة كلامية نشبت بين مقداد الشريفي الذي يمثل دولة القانون في مجلس المفوضين وعدد من المفوضين تطورت الى استخدام الايدي، مما تطلب تدخل المفوضين الاخرين لفك الاشتباك، وذلك بعد أن قدم التيار الصدري 133 شكوى حمراء ضد ائتلاف دولة القانون، فقد تبين وجود محاولات كبيرة لتزوير الاصوات التي حصل عليها التيار الصدري بغية تحويلها الى ائتلاف دولة القانون، حيث كشف عن وجود الآلاف من الاستمارات التي تم حشوها زوراً في داخل صناديق الاقتراع، وكلها لصالح دولة القانون. فقد لاحظ احد المراقبين وجود استمارات أعلى من الرقم المثبت في قاعدة بيانات المحطة في بغداد! ما استدعاه لفتح الصندوق الخاص بهذه المحطة حيث أكتشف وجود 490 استمارة في الوقت الذي كان قد سجل في داخل المحطة 285 ناخباً، وحيث ان كل استمارة انتخابية مزوده برقم سري (باركود) مما حدا به الى ان يدقق في الأستمارات فأكتشف وجود 205 أستمارة لا تحمل اي رقم! وهـذه الاستمارات كلها تم التصويت فيها لدولة القانون".
فعلا كما قال البعض" ليس المهم من الذي سينتخب وعدد الناخبين وتوجهاتهم، بل المهم، من هو الذي سيعد الأصوات ويفرزها.